الحدث- فرح المصري
إن مظاهر الفساد السياسي في البلدان العربية تكاد تكون متشابهة، فالآليات التي تتبعها معظم تلك الدول لا تتيح أي فرصة جدية لتداول سلمي للسلطة، وبسبب هيمنة السلطة التنفيذية على السلطتين (التشريعية والقضائية)، تحولت الأنظمة العربية إلى أنظمة استبدادية، وأصبحت الدولة ومؤسساتها "مختطفة" من قبل الطبقة الحاكمة المسيطرة على الدولة.
الفساد السياسي حسب ما جاء في كتاب بعنوان "الفساد السياسي في الوطن العربي" يمثل خرقاً مباشراً لحكم القانون عبر إساءة استخدام السلطة، وتوظيفها لخدمة مصالح خاصة أو فئوية، لا تنسجم مع المصلحة العامة التي يسعى النظام السياسي لتمثيلها، حيث يتم إخضاع السلطة القضائية وتقويض استقلالها، ولا سيما هيئات النيابة العامة التي تصبح تتولى الدفاع عن النظام، لا عن عموم المواطنين.
الكتاب الحديث، الذي أنجز خلال شهر يوليو الماضي، عبارة عن مجموعة من التقارير تشمل دول مصر، والمغرب، وتونس، واليمن، ولبنان، وفلسطين، عدد أبرز مظاهر الفساد السياسي في العالم العربي في أحد عشر محوراً، جاء على رأسها السيطرة على السلطات بدل الفصْل بينها.
"الفساد السياسي في الوطن العربي" كتاب أعد في إطار مشروع إقليمي في المنطقة العربية بإشراف منظمة الشفافية الدولية ومنظمة الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، بهدف تشخيص ظاهرة الفساد السياسي في العالم العربي من خلال تحديد أشكاله والتحديات والفجوات السياساتية والمؤسساتية القانونية، للمطالبة بإعادة النظر في القوانين التي تنظّم العلاقة بين المواطن والسلطة، بشكل يعيد الاعتبار لدور المواطنين في المشاركة في إدارة الشأن العام وذلك لتعزيز النظام الديمقراطي.
وفي عرضه للكتاب، قال أحمد أبو دية معد الدراسة لــ"الحدث": "إن التقرير قام على أساس منهجية موحدة مع الأخذ بعين الاعتبار الفروقات حسب طبيعة الدولة والمنطقة، وتوصلنا إلى تأكيد ظاهرة الدولة المختطفة في العالم العربي خاصة قبل الثورات التي اندلعت في المنطقة".
وأضاف: "أن مفهموم (الدولة المختطفة) يعني أنه يوجد نخبة قليلة العدد تتمحور حول الهرم السياسي، أي الرئيس والحزب الحاكم، وهذه الحلقة مغلقة بحيث تمثل قطاعات المجتمع كله (الحزب الحاكم، القضاء، البرلمان، المعارضة، الأحزاب، المجتمع الدولي)، وهذه المجموعة متواطئة على شكل معين من الحكم وبالتالي يكون هناك استغلال للموارد واستبعاد للخصوم من خلال هذه الحلقة، وهي طبعاً تضع كل القواعد، وأيضاً هي موجودة في القطاع الخاص الذي يمنح نوع من الخصخصة، وهذه الحلقة أنشأت مجتمع دولي خاص فيها، وبالتالي نجد أن كل القطاعات الأساسية التي يقوم عليها النظام السياسي تم اختطافها في ظل هذه الحلقة، وبعد إغلاق هذه الحلقة بالكامل يتم السيطرة على الدولة ونهب جميع مواردها، لصالح هذه الفئة".
وتابع: "أن التوصية الأساسية للدراسة تتعلق بإعادة صياغة العقد الاجتماعي، أي "الدستور" على أسس جديدة، فبعض التغيرات التي تشهدها بعض الدول في العالم العربي، وبعض التحركات التي تشهدها الدول يغلق أي مجال لعملية اختطاف الدولة من جديد، وهذا يشمل فصل السلطات، ومنع سيطرة السلطة التنفيذية، واستقلال القضاء وعدم التدخل به، ويشمل الحريات العامة، وأن يكون هناك دور مهم للبرلمان للرقابة على السلطات، وأن يكون هناك دور للإعلام، فتونس على سبيل المثال، تمكنت من إنشاء عقد اجتماعي جديد قادر على تأكيد كل التوصيات التي تناولها التقرير".
وأشار إلى أن فكرة التقرير، جاءت من البرلمانيين العرب ضد الفساد، خلال الاجتماعات المتكررة للبرلمانين العرب، وجدو أن مكافحة الفساد في العالم العربي خلال العشرة سنوات الماضية أو حتى قبل ذلك، وكل الطرق والأساليب التي تم استخدامها لم تستطيع القضاء على الفساد ولا حتى على الفقر وغيره.
فالعالم العربي لا يشهد تقدماً بل هو ثابت ويتأخر في التنمية والديمقراطية والقضاء على الفساد، بالرغم من كل الجهود لا يوجد نتائج، فهناك حائط قوي يجعل كل الجهود شكلية، ومن ثم جاءت فكرة التقرير في البحث عن هذه العوائق بشكل أكثر عمقاً، وقضية النظام العربي القائم هو الذي يمنع أي تغيرات ذات جدوى في هذا، ولذلك تم التركيز في الدراسة على عناصر هذا النظام، وتوصلنا إلى أن مفهوم الدولة المختطفة في العالم العربي هو أمر قائم فعلاً، ويشكل هذه الحلقة المغلقة ويسيطر على كل الموارد، وبالتالي يقف أمام أي جهود للإصلاح أو التنمية ومكافحة الفساد على وجه التحديد.
في الإطار ذاته، قال المشرف العام على الكتاب، مفوض أمان د.عزمي الشعبي: "إن العالم العربي يمر بمرحلة من التحولات والتحديات ذات الأبعاد المختلفة، لكن جوهر هذه التحولات هو شكل وآلية عمل الدولة العربية المعاصرة بعد أن ثبت فشل الدولة العربية في العقود الخمسة الأخيرة بتحقيق الأهداف المعلنة، وارتفاع كبير في درجة تذمر المواطن العربي وعدم اقتناعه بالطريقة التي ينفذ فيها العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة".
وتابع: "أن البحث حاول إيجاد إيجابات حول طبيعة الإشكاليات التي عانى منها النظام العربي خلال الفترة الماضية، للمساهمة في استخلاص العبر وإعادة صياغة العلاقة بين المواطن وبين الدولة، في العقد الاجتماعي الحديث الذي سيحدد شكل الدولة العربية المعاصرة، وفي جوهرها الجوانب التي تتعلق في موضوع حقوق المواطن والنظام الديمقراطي الذي يضمن تداولاً سلمياً للسلطة بعد إثبات أن معظم الأنظمة العربية القديمة لم تتح أي فرصة جدية لتداول سلمي للسلطة، وأن الدولة ومؤسساتها أصبحت مختطفة من قبل الطبقة المحكمة المسيطرة على الدولة".
وأشار الشعيبي إلى أن أهم التوصيات التي جاء بها التقرير أنه قام بتحليل معظم الآليات التي يتم فيها إتخاذ القرار السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي في النظام العربي، فالقرارات غالباً ما كانت تتم لمصلحة الطبقة الحاكمة، والنظام السياسي العربي الذي قام على وجود شخصية مركزية خلقت حزباً حاكمأً محيطاً بهذا المركز ويعمل على إشغال المناصب المهمة في الدولة كالقضاء والإعلام وغيره لإحكام السيطرة على جميع القطاعات.
وأثبت التقرير أن القرار في النهاية يأخذ، سواء في الحكومة أو البرلمان أو في الأمن، على عاتقه المحافظة على النظام واستقراره وليس على المواطن وحقوقه، وهذا أدخلنا إلى أن هذا شكلاً من أشكال الفساد، فالفساد يعني عندما يتخذ المسؤول القرار وفقاً لمصالحه وليس وفقاً لمصالح العامة.
ورأى الشعيبي أن اختطاف الطبقة لمؤسسات الدولة جعل موضوع مكافحة الفساد صعب جداً، فطرق مكافحة الفساد في العالم العربي كلها تنتهي بالإفلات من العقاب، فهناك أطراف رسمية موجودة في مواقع مختلفة لا تتيح محاسبة الفاسدين بشكل فعال وتتيح الإفلات من العقاب، فمعظم قضايا الفساد التي كانت موجودة في الأنظمة الراحلة نتيجة الثورات كشفت قضايا فساد كانت موجودة فعلاً على أرض الواقع، لكن لم يتم الكشف عنها إلا بعد إزالة الحاكم نفسه والبرلمانيين من حوله، ففي مصر وتونس واليمن وليبيا لم يكن هناك قانون واضح قادر على محاسبة المسؤولين، فالقانون لا يعطي القاضي الحق في محاكمته.
وتوصل الشعيبي إلى أن الفساد السياسي لا يمكن معالجته بالطرق التقليدية، ولا بد من إعاداة صياغة الدساتير العربية غير قائمة على الأنظمة والدساتير القديمة، فالدول التي قامت بها الثورات جاءت نتيجة لشعور المواطنين بالظلم والفساد وعدم تحقيق الحد الأدنى من العدالة والديمقراطية.
وتابع: "لا بد من إجراء تغيرات جذرية تعيد ترتيب العلاقة بين المواطن والدولة باعتبار أن المواطن هو صاحب الدولة والممتلكات والموارد العامة، ومن حقه أن يقرر شكل الإدارة التي تدير المال العام، ويجب عدم السماح للأمن بالتدخل بالسياسة، واستخدام الدين كأداة للتخويف، فالدين لله والوطن للجميع، والدولة في عقدها الجديد يجب أن تكون دولة مدنية وليست دينية أو أمنية".
من جهته، قال منسق المشاريع في "أمان" وائل الحج: "إن الفكرة الأساسية التي توصلت لها الدراسة، إعادة صياغة العقد الاجتماعي ما بين الشعوب العربية، وما بين النظام السياسي بالدول، أي تطوير الدساتير في البلدان العربية حتى تتضمن الأسس التي تمنع "اختطاف الدولة"، أي وجود نخبة سياسية تتسلم الحكم وتسيطر على الأمور المالية والاقتصادية والأمنية والتشريع والقضاء، ما يقضي على نزاهة في الحكم في البلدان العربية".
وتطرق التقرير إلى أبواب الإعلام في الأمن وطريقة الانتخابات، والمجتمع المدني ودوره، والسلطة التنفيذية، والقضاء وإدارة الممتلكات العامة، وأجهزة الرقابة في الدولة، والمؤسسات الأمنية، ودور الأحزاب السياسية، والإعلام في استخدام الإعلام الرسمي للترويج لأفكاره.
ووجد الحج، أن الأفكار التي خرج منها التقرير ستشكل الإطار العام لصياغة الدساتير الجديدة في البلدان العربية، لأهمية الأفكار التي تطرق لها التقرير وحاول معالجتها، ولضرورة تعميم هذه الأفكار، تم عقد لقاءات مع طلبة العلوم السياسية والإدارة العامة والهيئات الأكاديمية في مختلف الجامعات الفلسطينية، بهدف رفع الوعي في موضوع الفساد السياسي، وكان هناك إقبال ملفت على الندوات الخاصة بالموضوع.
واستخلصت هذه الندوات أن الفساد السياسي يؤدي إلى الفساد الإعلامي والاقتصادي والاعتداء على الحقوق والحريات، وهذا له تأثير سلبي على الثوابت الفلسطينية، وهناك ضرورة لتفعيل دور السلطة القضائية من خلال توفر الإرادة السياسية بإصلاح منظومة العدالة وعدم خضوعها للتاثيرات الحزبية.