الحدث فكر ونقد
دون التورُّط في «شبهة» التحليل السياسي، لا بدَّ من تفسير ثقافي-تاريخي للعجز التام، والتصاعدي، الذي تتسم به القيادة الفلسطينية على مستويين: الأول، مواجهة التغوُّل الصهيوني السياسي والعسكري؛ والآخر، مواجهة الإجماع الفلسطيني على فشل الخيارات السياسية لـمنظمة التحرير الفلسطينية، تحديداً بعد اتفاقية أوسلو، وضرورة التحوُّل عنها نحو خيار المواجهة المفتوحة، والمقاومة غير المقننة، لا أمنياً ولا سياسياً، مع العدو. ولتأطير هذا التفسير لا بدَّ، ابتداءً، من إعادة الاعتبار إلى الأدوات البلاغية في فهم الواقع وتوصيفه، ذلك أن «اللغة» التي تشكِّل البلاغة السياسية الفلسطينية اليوم أصبحت جزءاً من المشكلة، إذ أن اللغة مؤشر مفتاحي على جذرية التفسير أو تواطئه.
منذ أن تزاوج مشروع الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بالمشروع الاستعماري البريطاني، أصبح الفلسطينيون ضحية لواحدة من أكبر المظلوميات التي شهدها التاريخ. وقد وضعهم ذلك في تحد مزدوج، لم ينجحوا في التغلُّب عليه حتى اللحظة، وهو: القدرة على تطوير أدوات مقاومة مادية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني الذي استهدفهم وجودياً بكافة أشكال التطهير؛ وأدوات مقاومة سياسية للمنظومة الاستعمارية الغربية الحاضنة والمتدحرجة من بلفور وحتى ترامب. وقد وصف المؤرخ الفلسطيني رشيد الخالدي قصة فشل النضال الفلسطيني لإقامة الدولة بـ«القفص الحديدي»، الذي انضاف إليه، بطبيعة الحال، سوء خيارات القيادات الفلسطينية المتوالية.
وفي ظل الغياب المدوِّي للقيادة الفلسطينية (اللهم من حيِّز الفكاهة السياسية اللاذعة)، على كافة مستوياتها، في ذروة هجوم قوات الاحتلال الصهيوني على رام الله وبقية مدن وقرى ومخيمات الضفة الغربية، وظهورها الخجول بعد أن هدأت العاصفة، جزئياً، لا بد من طرح السؤال، لا على قيادة السلطة الفلسطينية وحسب، بل وعلى قيادات منظمة التحرير الفلسطينية بكافة فصائلها: ما هو برنامجكم في المواجهة؟ ولعل انتظار جواب هو انتظار عبثي، إذ الجواب المعد سلفاً، والمسجل صوتياً على مايبدو، هو، خلاصة بيان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية نهاية الأسبوع الماضي، ومؤداه: الاستنجاد بالمجتمع الدولي؛ و«نبذ العنف»؛ ولكن دون التأكيد، هذه المرة، حتى على اللازمة المبتذلة بالدعوة إلى «المقاومة الشعبية السليمة».
الاستنتاج الواضح أن القيادة الفلسطينية، لا تراجع التجارب التاريخية، ليس على إطلاقها، بل تجاربها هي بالتحديد، ذلك أنها ما تزال قابعة في «القفص الحديدي» المليء بالأخطاء، والخيبات، ذات الأثر السياسي والوجودي الكارثي على الشعب الفلسطيني. وبالمقارنة، فإن القيادة الصهيونية لدولة الاستعمار الاستيطاني-إسرائيل، ما تزال ماضية في خدمة «شعبها» ضمن استراتيجية واضحة يتناوب، وأحياناً يتزامن، لإنجازها مشروعان متكاملان رغم أنهما يعبِّران عن تيارين صهيونيّين من العبث التمييز بينهما: اليمين واليسار. هذان المشروعان هما: «الجدار الحديدي» و«الجدار الطيِّب». فأي جدار بنته القيادة الفلسطينية لمواجهة عنف هذين الجدارين؟ وأي خيار أمامها الآن، وهي لم تبن إلا جداراً من حرير، ولا يكاد؟
يشكِّل مفهوم «الجدار الحديدي» أبرز أعمدة الاستراتيجية الصهيونية العابرة للحكومات والتيارات السياسية في دولة الاستعمار الاستيطاني-إسرائيل لمواجهة الشعب الفلسطيني. وقد بدأ زئيف جابوتنسكي بالتنظير لهذا المفهوم منذ برنامج هلسنكي في العام 1906، بعد عام واحد على إلغاء مشروع أوغندا، والتقاء المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني بالمشروع الاستعماري البريطاني كما ذكر آنفاً.
ولكن «الجدار الحديدي» ظهر بوضوح، كاستراتيجية صهيونية، في العام 1923، حين تبلورت تنظيرات جابوتنسكي حول «المسألة العربية». وعلى الرغم من إقصائية مخطط جابوتنسكي وأفكاره حول إقامة الدولة اليهودية التي لا ينبغي أن يعيقها مليون عربي في فلسطين، واعترافه بـ«شرعية» طموحاتهم السياسية كـ«أهالي» التي لا ينبغي أن تترجم في كيان سياسي بأي حال من الأحوال… فقد أوضح جابوتنسكي في مقالين متتابعين، يعبِّران عن «عدالة» الصهيونية و«أخلاقيتها» من وجهة نظره، هما: «الجدار الحديدي 4/ 11/ 1923» و«أخلاقيات الجدار الحديدي 11/ 11/ 1923»، أن استمرارية وجود الكيان الصهيوني في فلسطين بوضع «الجدار الحديدي» موضع التنفيذ، ومؤدى ذلك يتلخَّص في أنه: (1) لن يتخلى العرب الفلسطينيون عن وطنهم طواعية لصالح الكيان اليهودي، وسيعملون على مقاومته؛ (2) المهمة العظمى للحركة الصهيونية، ومن بعدها دولة الاستعمار الاستيطاني-إسرائيل، تتجلَّى في بناء «جدار حديدي» يحول دون تحقيق العرب الفلسطينيين لرغبتهم تصفية الكيان اليهودي، وهذا ما أمَّنه وعد بلفور ومن بعده «صك الانتداب»، والحاضنة الدولية للأمم المتحدة حتى الآن؛ (3) سيتم تكريس حالة العجز عن اقتحام «الجدار الحديدي» بإحداث رضة في الوعي الفلسطيني، حدَّ صهره، تقود دوماً إلى التسليم بالسيطرة الصهيونية التي تعززها قوة الردع المتنامية.
وقد تواصلت فلسفة "الجدار الحديدي" على امتداد قرن كامل، وصدرت العديد من الكتب التي توضح تجليات المفهوم في السياسة الصهيونية الرسمية تجاه «عرب فلسطين» وعرب الجوار العربي لفلسطين بعد العام 1948، ربما أهمها كتاب آفي شلايم «الجدار الحديدي- إسرائيل والعالم العربي». وقد برزت هذه السياسية-الممارسة (الاستراتيجية) في: البناء المتصاعد لقوة الردع العسكري؛ وعدم السماح بقيام، أو على الأقل، الاعتراف بكيان وطني فلسطيني؛ والاستمرار في إقامة تحالفات إقليمية ودولية تعزز من قوة «الجدار الحديدي» وتحمية قانونياً، وتطبِّعه.
وعليه، فقد اتخذت استراتيجية «الجدار الحديدي»، في السياسات والممارسات والنتاجات، صوراً شتى على امتداد التاريخ الاستعماري الصهيوني لفلسطين، وبخاصة بعد «النكسة» الفلسطينية والعربية في العام 1967، حيث شهدت الخمسين سنة الأخيرة تصاعداً جنونياً لـ«هوس الجدار الحديدي» الذي وصفه، الفاشي يغال ألون، مرَّةً، بـ«الردع المتراكم». هنا، يمكن أن نذكِّر بأبرز محطاته، على سبيل المثال لا الحصر: «خيار شمشمون» النووي بتعبير ليفي أشكول أو «خيار اليوم الماطر» بتعبير شمعون بيرس 1958؛ «القبضة الحديدية» إسحق رابين 1985 وسياسة «تكسير العظام» 1987؛ «الجدار الفاصل» و«الدرع الواقي» أرئيل شارون 2002؛ «القبة الحديدية» عمير بيرتس 2007؛ «الرصاص المصبوب» إيهود أولمرت 2008-2009… وغيرها العشرات من العلميات العسكرية ضد الشعب الفلسطيني والعرب، وعشرات المشاريع لبناء الأسيجة والجدران حول الكيان، والوحدات العسكرية، نحو «مسادا» وغيرها، والعمليات الاستخبارية لجهازي «الموساد» و«الشاباك». قوة الردع هذه، جعلت «دماغ إسرائيل العسكري أكبر من جسمها»، كما وصفها محمود درويش مرة. وعلى الرغم من نجاحها الجزئي في تحقيق هدف «الجدار الحديدي» في بعض الحالات، إلا أنها كذلك أوقعت إسرائيل نفسها في هوس «العسكرة» لا «النزعة العسكرية» وحسب. أي ما أحالها إلى «دولة انتحارية» في حق نفسها بتعبير جيل أنيجار.
في 26 كانون الثاني 1976، أعلنت إسرائيل قيام «الجدار الطيب»، لتفرض سيطرتها غير المباشرة على جنوب لبنان، حتى العام 2000، عبر «وكلاء محليين» يقاتلون منظمة التحرير الفلسطينية وقوى المقاومة اللبنانية. ويعبر مفهوم «الجدار الطيب»، في ظاهره، عن قبول من وقع عليهم الاستعمار بالاستعمار، والتعاون معه بغية تحسين أوضاعهم المعيشية؛ أما في بنيته الداخلية، فيتضمن وكالة عن الاستعمار في حفظ أمنه لا أمن المستعمَرين، ضمن ما يعرف في التعبير الإنجليزي المبتذل Iron hand with a velvet glove «القبضة الحديدية في قفاز مخملي».
كان الراحل غير المأسوف عليه، شمعون بيريس، وزير الحرب في حينه، والذي شاركت القيادة الفلسطينية الحالية بأعلى مستوى تمثيلي لها في جنازته، هو، المؤدلِج لفكرة «الجدار الطيب». ومؤدى تلك الفكرة أن الطريقة المثلى للسيطرة على الجنوب اللبناني العاملي، هي إقامة شبكات علاقة «طيبة» مع «الأهالي»، وتيسير «الشؤون المدنية» لهم، فيما يكمل «الحزام الأمني»، الذي حرسه عملاؤها، وشبكتها الأمنية، والمتواطئون معهم من مليشيات مارونية في مركز لبنان والتي ارتكبت على يدها المذابح في صبرا وشاتيلا، وضبية، وغيرها. وكانت فلسفة بيريس تقوم على قناعة مؤداها أن ما يعرف بالجانب الإنساني (الصحة، العمل، الزراعة، التموين، البريد، وزيارات الأقارب، والتصاريح… ليست إلا مهمة فرعية لـ«الجدار الطيب» الذي شكَّل، في جوهره، واقعاً جيو-سياسياً جديداً تمكنت فيه إسرائيل من الحفاظ على أمنها عبر وكلاء محليين، يتنقلون عبر «بوابة فاطمة»، ذات المرويات المتعددة لسبب تسميتها والتي تغير واقعها اليوم بزاوية 180 درجة في قرية كفر كلا التي مسخرت جبروت القوة العسكرية الصهيونية بعد البدء بتنفيذ مهزلة «درع الشمال» قرب مستوطنة «ميتولا» في مواجهة أنفاق المقاومة.
ولعله من الضروري التأكيد أن سياسة «الجدار الطيب» جاءت بعد تشخيص ثاقب لعمق الأزمة اللبنانية الداخلية المتمثلة بالحرب الأهلية، والصراع الطائفي، والانقسامات التي أسالت لعاب التدخل الصهيوني لـ«حفظ أمنه»، وضرب منظمة التحرير الفلسطينية والمقاومة اللبنانية الآخذة في التشكُّل حينها. وقد كان لقيام «دولة لبنان الحر» 1978-1984 بقيادة سعد حداد في 18 نيسان 1978، الأثر الواضح في إنجاح «عملية الأرز»، التي وضعت خططها في العام 1976، وصارت تعرف لاحقاً باسم «سلام الجليل» في العام 1982 والتي كانت «حرب خيار» في مقابل «حروب الضرورة»، كما وصفها مجرم الحرب ميناحيم بيغن، ما برر استباحة الدولة اللبنانية و«سيادتها».
صار لـ«الجدار الطيب»، إذن، وظيفتان: السيطرة على النشاط العسكري والثوري لمنظمة التحرير الفلسطينية والمهدد لشمال فلسطين وقاعدة انطلاقها لعمليات الدوريات وغيرها؛ والمعبر للاحتلال الصهيوني للتحكم في سياسة لبنان ونظام حكمه. وهنا، ارتبط ما عرف بـ«الحزام الأمني» بـ«الجدار الطيب» وصار أحدهما يكمل الآخر (بجدار فاصل، وتنسيق أمني بمفردات اليوم)، وتحت مسمى مطابق تماماً لما يجري اليوم وجرى سابقاً هو «الإدارة المدنية» الصهيونية لجنوب لبنان التي «استفادت» منها الأكثرية الصامتة والمتواطئة.
ولكن ذلك كله، من «دولة لبنان الحرة الحدَّادية» إلى «جيش لبنان الجنوبي اللَّحدي»، لم ينجح تحت ضربات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، التي بلغت ذرورة سنامها بعد رحيل منظمة التحرير الفلسطينية وقواتها إلى تونس، وبروز المقاومة الإسلامية التي تجلت ذروة سنامها في حزب الله، حتى انسحاب الصهاينة في الخامس والعشرين من أيار 2000، حين زادت كلفة «الجدار الطيب» و«الحزام الأمني» اللذين لم يتمكنا من حماية المستوطنات الصهيونية في شمال فلسطين، ولا جيش الاحتلال وجنوده، ولا المتواطئين معه. هنا، انسحبت إسرائيل مكتفية بـ«الخط الأزرق» الذي وقفت عليه قوات الأمم المتحدة «اليونيفيل» بعد صدور القرار 425 في 19 آذار 1978 في أعقاب عملية دلال المغربي في 11 آذار 1978. وبعدئذ، سيطرت المقاومة اللبنانية على الجنوب اللبناني، ولبنان بأسره، وتمكنت من فرض معادلتها الذهبية «الجيش، والشعب والمقاومة»، وشكلت قوة ردع للصهاينة، وبخاصة بعد انتصار تموز 2006.
لقد شكَّلت لحظة أوسلو، وتأسيس السلطة الفلسطينية في العام 1994، لحظة تاريخية فارقة، ومفارقة، في التقاء الجدارين «الحديدي» و«الطيب»، إذ تصاعدت نزعات العسكرة في «الجدار الحديدي» على نحو غير مسبوق، وأُطلق العنان لدولة الاستعمار الاستيطاني-إسرائيل لممارسة سياسات «الجدار الطيب» على نحو تام، وبختم وطني فلسطيني بمسميات عدة، منها: شؤون مدنية، تنسيق أمني، تعاون اقتصادي، تطبيع، لجان تواصل مع المجتمع الإسرائيلي… وغير ذلك. ولكن الأخطر من ذلك كله، هو شيطنة خيار المقاومة، وبخاصة بعد استشهاد الراحل ياسر عرفات في العام 2004، وما تلاه من حملات أمنية، وسياسية، وبلاغية لـ«تفكيك البطل» الفلسطيني.
وعلى الرغم من صدقية المقارنة، وواقعيتها، بين الحالة اللبنانية قبل العام 2000، والحالة الفلسطينية منذ العام 2004، إلا أن قسوتها لا ينبغي أن تحول دون الاستنتاج بأن القيادة الفلسطينية، لم تكتف بالشروط الجائرة لـ«القفص الحديدي»، بل كبَّلت نفسها داخل «القفص» ولا تزال، بخيارات أشبه بالوهم في المواجهة مؤداها: «المقاومة الشعبية السلمية»، وتجريم غيرها، وممارسة العنف المادي، عبر الأجهزة الأمنية، ضد من يمارس، أو حتى يدعو إلى ممارسة، خيارات المواجهة المسلحة. وقد زاد من ضيق «قفص» القيادة «الحديدي» المقارنات البسيطة بنجاح خيارات المقاومة في لبنان وغزة بكسر أسطورة الجدارين الصهيونيين المذكورين آنفاً؛ وعدم نجاح القيادة الفلسطينية حتى في توظيف السياسي لخدمة المدني، قبالة القيادة الصهيونية التي أبدعت في توظيف المدني لخدمة السياسي.
خلاصة القول، إن القيادة الفلسطينية لا تراجع تجاربها التاريخية، ولا يبدو أنها تتعلم من أخطائها، وعلى ما يبدو، أن الأمر الوحيد، الذي نجحت فيه القيادة الفلسطينية، ما دام الحديث عن «الجدران»، هو بناء «جدار حريري»، لا وجود له إلا في مجاز التعبير عن أردأ أنواع الواقعية السياسية. وعلى الرغم من ظهور تحليلات ومقاربات سياسية حالمة، تدعو إلى البحث في استنساخ التجربة السياسية اللبنانية، بحيث يصوغ الفلسطينيون معادلة سياسية تحتضن المقاومة، المتمثلة في حركتي المقاومة الإسلامية-حماس وحركة الجهاد الإسلامي وبقية الأذرع العسكرية الفلسطينية، إلا أن هذه التحليلات تغفل الكثير من الفوارق بين التجربتين، وأهمها «السيادة» الغائبة بسفور في الحالة الفلسطينية، التي وصف رئيس سلطتها سلطتَه بأنها «سلطة بلا سلطة». هنا، ربما يكون من الأجدى التأمل في تجربة الخروج من مستنقع «الجدار الطيب»، واختراق «الجدار الحديدي». لقد وصف الراحل إدوارد سعيد أوسلو بكلمتين «فرساي فلسطينية»، فمنعت السلطة تداول كتبه، ونفته من ذاكرتها الرسمية، لكنَّها لم تمنع تداول كتب محمود درويش، الذي فسَّر الكثيرون قصيدته «للحقيقة وجهان والثلج أسود» بمفردات سياسية لها علاقة بالشهيد الراحل ياسر عرفات، وبخاصة بين مؤتمر مدريد 1991 وتوقيع اتفاقية أوسلو 1993، حدَّ أن محمود درويش غيَّر بعض مفرداتها، لكنَّها بعد التغيير وقبله، لا تزال صالحة، للقراءة، والاعتبار:
للْحَقيقَة وَجْهان، وَالثَّلجُ أَسْوَدُ فوق مَدينتنَا
لَمْ نَعُدْ قادرين على الْيأْس أكْثرَ مما يَئسْنا..
والنِّهايةُ تَمْشِي إلى السُّور واثقَةً مِنْ خُطَاهَا
فَوْقَ هذا الْبلاط الْمُبلِّل بالدَّمْعِ، واثقةً مِنْ خُطاها
منْ سيُنْزلُ أَعْلامنا: نَحْنُ، أم هُمْ؟ وَمَنْ
سوْف يتلو عليْنا "مُعاهَدَة اليأْسِ، يَا مَلِكَ الاحْتِضَارْ؟
كُلُّ شَيْءٍ مُعَدُّ لنا سلَفاً، منْ سينْزعُ أَسْماءنَا
عنْ هُويَّتنا: أَنْتَ أمْ هُمْ؟ وَمَنْ سوْفَ يزْرعُ فينا
خُطْبَةَ التّيهِ: "لَمْ نَسْتَطِعْ أَنْ نَفُكَّ الْحِصارْ
فَلْنُسلِّمْ مفاتيحَ فِرْدَوْسِنا لرسولِ السَّلام، ونَنْجو.."
للحقيقةِ وجْهانِ، كان الشِّعارُ الْمُقَدَّسُ سَيْفاً لَنا
وَعَلَيْنا، فَماذا فَعَلْتَ بقَلْعَتنا قَبْلَ هذا النَّهار؟
لَمْ تُقاتِلْ لأنَّك تَخْشى الشَّهادَةَ، لكنَّ عَرْشَكَ نَعْشُكْ
فأحْمِلِ النَّعْشَ كي تَحفَظَ الْعَرْشَ يا مَلك الانْتِظارْ
إنَّ هذا السلام سَيتْرُكُنا حُفْنَةً منْ غُبارْ..
مَنْ سيدْفنُ أَيامنا بَعْدنَا: أَنْت.. أَمْ هُمْ ؟ وَمَنْ
سوْفَ يرْفَعُ راياتهمْ فَوْق أَسْوارِنا: أَنْتَ.. أَمْ
فارسٌ يائسٌ؟ من يُعلّقُ أجْراسهم فَوْقَ رحْلتِنَا
أَنْتَ.. أَمْ حارسٌ بائسٌ؟ كُلُّ شيء مُعَدُّ لَنَا
فَلماذا تُطيلُ التفاوض، يا ملك الاحْتضارْ؟
*عبد الرحيم الشيخ- شاعر وناقد فلسطيني ولد في القدس لعائلة لاجئة من الرملة. يعمل أستاذًا للفلسفة والدراسات الثقافيّة والعربيّة في جامعة بيرزيت. يركز عمله الفكري على سياسات الهوية والقومية وتفسير الروابط العلائقية للسياسات، يعمل في الترجمة وفي نقده الفني يركز على التعبيرات البصريّة للهويّة الفلسطينيّة.