الحدث- ريم ابو لبن
على عتبات السفر ألقي التحية دائماً وتساورني الشكوك المطلة على عمر الطريق الطويل، حيث لا مفر من تكرار جملة قالها درويش في رحلة عبر المحطة "لا شيء يعجبني".
محطتنا لم تكن الأخيرة، فالبداية كانت "أنثوية"، حينما قست على جسدها تلك الفتاة العشرينية لتحشيه بـ"السجائر" علناً وأمام المسافرين المتعبين، لتفر به هروباً مروراً بـ الجسر الأردني باتجاه الأراضي الفلسطينية ومن خلال معبر الكرامة، وقد تتنصل من التفتيش وتفر هروباً كما غيرها، لاسيما وأنها تمارس فن "التهريب" لأول مرة.
هي لم تكن وحدها في تلك المساحة (الضيقة) التي يتسابق بها المسافرون لالتقاط أنفاسهم والنهوض مجدداً للبحث عن حقائبهم، وقد تتزاحم الحكايات داخل ذاك المكان المخبأ في الظل لتجد زملائها في ذات "المهنة" يصعدون عنوة بين المسافرين ليضعونهم في صراع داخلي وبه: "أأقبل بمساعدته وحمل علبة من السجائر، أم أرفض!".. وأنا رفضت وعاودت الرفض.
الساعة السابعة مساءً، لم يفارق أثر السجائر معطفها المائل على كتفيها، ولا حجابها الأبيض، حتى إن ثوبها الأسود الطويل المتدلي نحو قامتها القصيرة وجسدها الممتلئ بالهموم قد أوشك على البوح بما يحميه بجوفه، غير أن شعرها المخبأ والملامس لرياح خريفية اللون قد احتضن هو أيضاً أعواداً من السجائر "المهربة".
أقول للحاضر تحملنا قليلاً، فالحكاية لم تنته بعد...
لم تتوقف عيناي عن رصد كل الاحتمالات في تلك اللحظة، حينما حاولت الهروب من جسدها المعطش بـ"السجائر" لتبحث عن مسافر يمتطي حقائبه وترغمه على حمل جزء من همها في البحث عن قوت يومها، ومن مسافر لآخر.. دون جدوى، ولا أحد يحمل علب السجائر عنها، لاسيما وأن عدد الركاب كان قليلا على غير عادة في ذاك اليوم.
أقفلت حقائبي وجمعت أوراق السفر المبعثرة وصعدت بداخل الباص المتجه نحو صالة المغادرة الإسرائيلية، وعلى غير عادة أجلس في الكرسي الأمامي بالقرب من السائق كي أكمل حكاية قد تتلاشى تفاصيلها بعد أن يتحرك الباص.
امتلأت حينها بأسباب قد تجعل تلك الفتاة الصغيرة تقبل على ارتكاب فعل "التهريب" وبطريقة ملفتة، لا سيما وأنها كانت محاصرة بزملائها الشبان الذين لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين، وهم يتشابهون في آلية اقتناص الفرص للتهريب.
ولكن ما الذي دفعهم للوقوف على ناصية المحطة المؤقتة ويعلنون محاولتهم "التهريب" وقد ينجحون أو يفشلون، وفي الحالتين قد يكون مبررهم البحث عن "الرزق" في ظل عدم توفر فرص للعمل وارتفاع نسبة البطالة لدى المجتمع الفلسطيني.
مرت الدقائق ولم تنته الفتاة بعد من تخبئة علب السجائر أسفل ملابسها، حتى إنها تمكنت من غرسها بخوف داخل ملابسها الداخلية وفي حقيبة سوداء صغيرة وضعتها أسفل "إبطها" وهي تراقب المارة بعيونها، وأثناء ذلك كنت الشخص الوحيد الذي لم تقتنصه في تلك اللحظة، حيث بقيت جالسة في مقعدي داخل الباص وأرقب تحركاتها عن بعد دون أن أهمس لمن تجلس بقربي بأن أمامها فتاة "محشوة بالسجائر".
وبلحظة صمت، ابتسمت السيدة النابلسية وأدارت وجهها لي وقالت: "هل تشاهدين ما أشاهده...الله يعين الناس... أنا أعرفها إنها مطلقة وتطعم أطفالها".
في هذه الحالة على الأقل، يُستغل الجسد لإشباع جسد آخر، وفي حالات أخرى تُستغل النساء وبطرق مختلفة وبعمليات "التهريب" وبمقابل أجر بسيط بحسب أقوال الضابطة الجمركية، فيما ازدادت عدد النساء اللواتي "يمتهن" التهريب هذا العام، وقد أقدمن على استخدام أساليب جديدة وطرق مختلفة ومنها تخبئة أعواد السجائر داخل (مشبك الشعر) والذي تستخدمه النساء المحجبات لنفخ المنطقة العلوية من الرأس.
وفي معرض الوصف، أفادت الضابطة: "يضعن في منطقة الصدر... لم يتركن أي مكان".
أحياناً قد يفرون هروباً من عملية "التفتيش" وبفعل تزايد أعداد الركاب لا سيما وأنه يتم تفتيش قرابة 25 راكباً فقط في كل باص، وبهذا فلن تطال عملية التفتيش جميع الركاب، وبالمقابل من يشار إليه بعين "الشك" يتم تفتيشه وقد سجلت له بعض "الإسباقيات" ويعرف بأنه مهرب سجائر، وقد يتم اقتناصهم بناء على معلومات مسبقة فهم يشكلون مجموعات تهريب (منظمة).
وهنا، هل فرت هروباً من أعين المفتشين؟
في نهاية المحطة، إي في استراحة أريحا، ركض نحوي أحد السائقين دون أن أعلمه بوجهتي واعتمد على حاسته وقال لي: رام الله، ومن ثم حمل حقيبتي وأوصدها بجانب حقائب المسافرين داخل السيارة العمومية.
بعد بضع دقائق، سمعت صوتاً يهمس بالقرب من أذني: "هل شاهدتني؟!"
نظرت إليها وابتسمت قليلاً، ومن ثم خبأت ما لديها وقالت: "هو قوت يومي.. لا وسيلة أخرى أمامي".
وأكملت: "نعم جسدي محشو بالسجائر.. وأجسادهم محشوة خفية بالذهب".