روىّ في السياسة والفكر
تفتحُ تصريحات كلا الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني والَّتي تأتي على هامش السِّجال الدَّائر حول التَّحرُّك الفلسطيني باتِّجاه المجتمع الدَّولي لوضع جدولٍ زمني لإنهاء الإحتلال؛ البابَ على مصراعيه أمام شتَّى الإحتمالات؛ وأمام اتِّخاذ أكثر من خيارٍ يرى كلا الطَّرفين إمكانيةً الُّلجوءِ إليها؛ في حال بقيت الأزمة قائمة بينهما؛ وهو الإحتمال الأرجح بكلِّ الأحوال.
ليس آخر تلك التَّصريحات؛ تصريح " يوفال شتاينيتس " وزير الشؤون الإستخبارية الإسرائيلي؛ الَّذي قال فيه: "على إسرائيل التفكير جدِّياً بتفكيك السُّلطة الفلسطينيَّة في حال واصلت الأخيرة نهجها الحالي بالتَّوجه إلى مؤسَّسات المجتمع الدَّولي لإنهاء الإحتلال". يأتي هذا التصريح في سياق التصريحات الَّتي أدلى بها كلٌّ من " بنيامين نتنياهو " وافيغدور ليبرمان" واللذان حذّرا كذلك قيادة السلطة الفلسطينية من الإستمرار في ذات النَّهج المُفضي إلى طرح موضوع إنهاء الإحتلال ضمن جدول زمني على مائدة النِّقاش الدَّولي؛ عبر مجلس الأمن.
في المقابل تتواتر التصريحات الفلسطينيَّة وعلى لسانِ أكثر من مسؤولٍ فلسطيني حول مسألة مكانة السلطة الفلسطينية ومستقبلها في ظل الممارسات الإسرائيلية؛ وحول مستقبل العلاقة مع إسرائيل؛ وقد سمعنا مؤخَّراً أكثر من مسؤولٍ فلسطيني يتحدَّث بذات الُّلغة وبذات المفردات حول عدم إمكانية الإستمرار بقبول الوضع القائم ضمن مفهوم " سُلطَة بلا سُلْطة واحتلال بلا ثمن "؛ وتتواتر تلميحات وتصريحات المسؤولين الفلسطينيين حول إمكانية الذَّهاب إلى خيار مناقشة حل السلطة الفلسطينية؛ بحيث تتحمَّل إسرائيل كامل التَّبِعات القانونيَّة والسياسية والمالية والأخلاقيَّة والواقعيَّة والإجرائية، عن استمرارها بممارسة سياساتها كقوَّة احتلال واقعيَّاً وعمليَّاً؛ فيما تتنصَّل من المسؤوليَّات المترتِّبة على ذلك قانونيَّاً وإداريَّاً وماليَّاً وأخلاقيَّاً.
في هذه البيئة من التناقض على مستوى الرؤية لمستقبل العلاقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل؛ ولمُستَقبل عمليَّة التسوية السياسية برمَّتها؛ تبرز أهميَّة مُلاحظة مسألتين أساسيَّتين تُمثِّلان جوهر المعضلة في العلاقة ومستقبل العلاقة بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.
المسألة الأولى هي: الفهم الخاص الَّذي يحتفظ به كل طرف للإطار المرجعي لتلك العلاقة القائمة بينهما؛ ففيما ترى إسرائيل أنَّ الإطار المرجعي لعلاقتها بالسلطة الفلسطينيَّة يستند إلى التزام السلطة ببروتوكول الإتفاق الإنتقالي وملحقاته الإداريَّة الدَّاخليَّة والأمنية بالدَّرجة الأساسيَّة – الَّذي ما زال قائماً من وجهة نظرها – والقاضي بممارسة السلطة لصلاحيَّاتها كسلطة حكم إداري ذاتي محدود، ضمن المناطق الَّتي لها عليها ولاية قانونيَّة وإداريَّة؛ فيما تُطالبها بأكثر من ذلك في المجال الأمني تحديداً؛ دون أنْ يكون لها الحق بممارسة سياسة خارجيَّة.
ومعنى ذلك - من وجهة النَّظر الإسرائيلية - أنَّه ليس من حقِّ ولا من صلاحيَّات السلطة الفلسطينيَّة أنْ يكون لها سياسة خارجيَّة فعَّالة مستقلَّة تستهدف بناء شبكة علاقات دوليَّة؛ أو حتَّى القيام بنشاطات سياسيَّة خارجيَّة فعَّالة على أساسٍ سياديّ؛ إذْ يتوجَّب على السلطة الفلسطينيَّة أنْ تتجنَّب طرح أي مسألة تَتَّصل بعلاقتها بإسرائيل أو بمستقبل تلك العلاقة خارج سياق المفاوضات الثُّنائية بين الجانبين. لذا فإنَّ إسرائيل تعتبر أنَّ السلوك الفلسطيني - الآنف الذِّكر - هو خارج فضاء الإطار المرجعي الَّذي يحدد مبررات وأهداف وجود السلطة الفلسطينية من وجهة نظر إسرائيل.
ويكفي هنا الإشارة الى أنَّ الفهم الفلسطيني هو على النَّقيض من ذلك تماماً؛ إذْ يرى الجانب الفلسطيني أنَّ الإتفاق الإنتقالي من المفترض أنَّه قد طواه الزَّمن منذ فترة طويلة؛ منذ نهاية عام 1999؛ وأنَّ إسرائيل قد تنصَّلت من معظم التزاماتها الجوهريَّة وحتَّى الشكلية منها تجاه ذلك الإتِّفاق وفي حدوده الدُّنيا - وهذا بالمناسبة صحيح تماماً – ويرى الجانب الفلسطيني أنَّ الإطار المرجعي الأساسي للعلاقة السياسيَّة بإسرائيل يجب أنْ يستند الى الإلتزام الإسرائيلي بمسألة إنهاء الإحتلال حتَّى حدود الرَّابع من حزيران عام 1967؛ بما في ذلك القدس الشَّرقية؛ كمحصِّلة لعمليَّة التسوية برمَّتها وبغض النَّظر عن أيِّ اعتباراتٍ أخرى.
أمَّا المسألة الثَّانية فتتعلَّق بعدم وجود إجماع حتَّى الآن في إسرائيل - بين أطياف الخارطة السياسية المتنوِّعة والمتفاوتة وحتَّى المتناقضة - لمستقبل السُّلطة الفلسطينيَّة ككيان قانوني ومادي؛ أو حتَّى لمستقبل عمليَّة التسوية بكلِّيَّتها؛ بل إنَّ الوقائع والمجريات تؤكِّدُ على تعمُّق النِّقاش في إسرائيل حول مسألة مستقبل العلاقة مع السلطة الفلسطينيَّة ومبررات وأهداف تلك العلاقة ضمن مروحةِ محاولة توظيفها في خدمة السياسات الإسرائيلية الَّتي تستهدف إدامة الإحتلال بصيغ أكثر ليبراليَّة وأقل كلفة؛ تحت عناوين الحدود المؤقَّتة والترتيبات الأمنيَّة الفعَّالة؛ ضمن كيانٍ فلسطيني يبدو أكبر من مجرَّد حكم إداري ذاتي؛ ولكنَّه يجب أنْ يكون إسرائيليَّاً وتحت كلِّ الظروف أقل من دولة كاملة السِّيادة.
في هذا السِّياق يمكننا أنْ نفهم السلوك الإسرائيلي تجاه السلطة الفلسطينية منذ نشأتها؛ والَّذي تراوح بين محاولة عزلها – كما حصل إبَّان الإنتفاضة الثانية في عهد الرَّاحل ياسر عرفات – أو التَّهديد بتفكيكها في أكثر من مناسبة؛ ليس آخرها هذه المناسبة المتَّصلة بالتَّوجه الفلسطيني الى مؤسَّسات المجتمع الدَّولي.