قد يكون للتغول الإسرائيلي في التعدي على السيادة الفلسطينية حجج أمنية معلومة، ولكنه بالضرورة يدفعنا لقراءة الرسائل السياسية التي من المفترض أن تكون واضحة.
وأولى هذه الرسائل تقول إنه وبالرغم من سنوات أوسلو العجاف، إلا أن حلم الدولة يجب أن يبصر حقيقة أن صفقة القرن إنما آتت لتخرجنا من دائرة الأوهام إلى تداعيات الوقائع التي تؤكد أن الكيان الإسرائيلي وحلفاؤه حول العالم، لن يسمحوا لنا ضمن موازين القوى الحالية، بإقامة دولة مستقلة ذات سيادة على كامل الأرض الفلسطينية المحتلة في العام 1967 وعاصمتها القدس، وإنما كل ما مر سابقاً لم يخرج من إطار التوظيف السياسي الاستراتيجي الذي تبنته العقلية الإسرائيلية طيلة العقود الثلاث الأخيرة مماطلة وتسويفاً وصولا إلى لحظة الحقيقة التي تشير إلى إمكانية إقامة "دويلة فلسطينية" هناك في المساحة الغير مرغوب بها، ألا وهي مساحة غزة التي سُمح "لجنودها المقاومين" أن يتقاضوا رواتبهم الآتية بواسطة دبابات الاحتلال وإن مُدت بأياد عربية مشكوك في انتمائها للقضية أو للحق سواء في فلسطين أو في غيرها.
وثاني هذه الرسائل تشير بشكل لا لبس فيه، أننا فيما يشبه "الحكم الذاتي" أو أقل قليلاً بحسب المزاج الإسرائيلي، وهو هدف صهيوني منذ قرن من الزمن، على حسب قول الرئيس محمود عباس في كلمته الأخيرة أمام المجلس الاستشاري لحركة فتح، وهو نفسه الأمر الذي يلزمنا بمصارحة أنفسنا بأنفسنا، لا لممارسة جلد الذات التي دفعت بعض الوجوه القيادية من حركة حماس إلى جانب شرائح مُتحزبة من مجتمعنا للشماتة حيناً، وللنضال الإلكتروني من وراء حجاب أحياناً كثيرة!.
والرسالة الثالثة التي يمكن أن نلتقطها في هذا السياق تذكرنا بما حدث في الانتفاضة الثانية من العام 2000 وحتى العام 2004، وبخاصة فكرة المس المباشر بالسيادة الوطنية، عبر المساس برمزية هذه السيادة متمثلة في حصار القائد الرمز "ياسر عرفات" في مقر المقاطعة، وما لهذا الحصار من دلالات سياسية أكثر منها عسكرية، إلا أن رد الشهيد الرمز حينذاك كان بليغاً وهو يردد: "يريدونني إما أسيراً أو طريداً أو قتيلاً.. وأنا أقول: بل شهيداً، شهيداً، شهيدا".
المهم في الأمر الآن، أن تداعيات المشهد باتت أكثر صعوبة بعد دخول الإدارة الأمريكية حلبة الصراع المباشر مع النظام الفلسطيني أولا عبر المس بالتمثيل الفلسطيني في واشنطن وإعلان القدس ونقل السفارة واستهداف الأونروا، ما يعني أن الأهداف الثلاثة هنا تتمحور في المس المعلن بالكيانية الفلسطينية ممثلة في منظمة التحرير الفلسطينية، مرورا بمحاولة سحب قضية القدس عن طاولة التفاوض، وصولا إلى إنهاء ملف العودة عبر استهداف الأونروا وما لهذا الاستهداف من دلالات سياسية، فضلا عن تحويل ملف غزة بوصفه جزء لا يتجزأ من مجمل القضية السياسية الفلسطينية إلى ملف إنساني على أقصى تقدير.
كل ما ذكر أعلاه يعد بشكل أو بآخر تنفيذاً عملياً لما أصطلح على تسميته بـ" صفقة القرن"، وإن بدأ الأمر دون إعلان واضح، جراء الرفض الرسمي والشعبي الفلسطيني، ولكنه أيضا قد يكون تشخيصاً للحالة الراهنة بكل أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية في آن، فضلا عن البعد الثقافي الذي اُستهدف ولا يزال لتزييف الوعي الجمعي للكل الفلسطيني أو للشريحة الأوسع منه.
ولكن هذا التشخيص لا يعفينا من طرح الأفكار والمقاربات التي من الواجب الوطني والأخلاقي أن نفكر بها والتي يمكن أن نلحصها على النحو التالي:
مثل هذه الاقتراحات بصرف النظر عن دقتها، وكي نحدد أولوياتنا في المقاومة ونقطع الطريق على من يدّعي المقاومة ويمارس كل ما من شأنه أن يؤدي إلى فصل غزة في سياق التطبيق الفعلي لصيغ ومفردات صفقة القرن، يمكن أن تكون أرضية خصبة للبناء عليها، المهم ألا نبقى أسرى الفعل وردود الفعل التي لا تغني ولا تسمن من جوع، وهنا يحضرني تصريح للقيادي الفلسطيني محمد أشتيه، أختم به بتصرف، "إذ يجب أن تعلم الحكومة الإسرائيلية أن نتنياهو إن أراد ألا يميز بين مستوطنة معاليه أدوميم وتل أبيب، فنحن من اليوم وصاعدا علينا ألا نميز بين يافا ورام الله مع كل فوارق التشبيه".. وما لهذا التصريح من دلالات وإشارات تقول بشكل واضح وجلي: يمكننا أن نعيد الصراع إلى مربعه الأول إما نحن أو أنتم.