الحدث ــ محمد بدر
أتعبه ذلك النقاش حول مكان المطارد المفترض، قال أحدهم إنه قد يكون تسلل لغزة واستقر هناك. ما أكبر خيالات العامة، إنهم لا يعتقدون بأوسلو ممزق الجغرافيا ولا بوجود الاحتلال مغتصبها. ما أكبر غزة في وعيهم، وما أضيق الضفة في نظرهم. اتفق بعضهم على أنه قد تسلل للأردن، ومرة أخرى يتورط الخيال الفلسطيني باتساع العروبة التي ضيقتها اتفاقيات السلام وعبثيات التطبيع. في حضرة أحد المرضى دار هذا النقاش في يوم ليلي من أوله حتى آخر لحظاته، غيوم غطت السماء مؤذنة بيوم كبير لا في الأردن ولا في غزة، فقط في رام الله.
ليلا، وقف ضابط المنطقة الإسرائيلي وصرخ: "إذا انت زلمة اطلع.. أنا هيني عند بيتك..". على طريقة "المصارعة"، وقف الضابط يطلب النزال مع هذا المطارد... قد يتأخر قليلا أو كثيرا، لكنه قادم من اللانهاية إلى اللانهاية، إنه صراع بدأ قبل صراخك ومستمر إلى ما بعد صراخك، وما أنت إلا وصلة في خط الزمن الكئيب. يعاود ضابط المنطقة صراخه من جيبه المصفح ترافقه عشرات الآليات ثم يطلب أن يقابل فردا. فردا جلب كل هذه القوات لمكان واحد ضابطا الزمن الإسرائيلي على نفسه.
"اذهب وتتبعك دعوات المؤمنين".. من الجمل التي كانت ما زالت عالقة في ذهنه منذ أن شاهد "برومو" مسلسل القعقاع عندما كان في سجن رامون الصحراوي. انتظر ثلاثين حلقة مملة وخيالية حتى وصل لهذه العبارة الكبيرة، لم يكن يعلم ما هو السر الذي جذبه لهذه العبارة بالذات، ولماذا بحث عنها كل هذه الأيام وبهذا الالتزام. في ليلة من ليالي الشتاء، وبعد انتهى الجيش من تفتيش البيت، وبينما كان الجنود يستعدون للمغادرة ولم يغادروا بعد، قالت له أمه: "إن شاء الله ربنا بحميه، ومش مشكلة خلييهم كل يوم يجوا يكسروا البيت ويفتشوه". هل تشبه هذه الدعوة الحزينة تلك الدعوات التي جعلت من القعقاع قاهرا لا يُقهر؟.
"لم أكن لألمحك لكثافة الضباب والجنود والمطر"، ساعات فصلت بين هذه الكلمات وبين السيناريوهات التي رسمها المجتمعون حول المريض.. "من قال لك ذلك، المطر متضامن معي ويمنحني الحرية التي يسلبها من الآخرين.. الليل والمطر صديقان".. في شوارع رام الله يعود القعقاع مسيّرا بدعوات المؤمنين، ويلتقي بصديقه الذي جمعته به زنازين عوفر والمسكوبية. قاله له: إن ضابط المنطقة يريد أن ينازلك. ابتسم بقوة: أنا أطارده كل يوم، أعلم أن وجودي بعيدا عن عينيه قد أعماه لكثرة النظر وقلة الوصول.. يتعانقان، يفترقان.. يعود الصديق للبلدة فإذا بالحواجز تغلق مدخل القرية. يقولون إن الضابط عاد ليصرخ، وذهب المطارد لينام في مكان لا يعرفه حتى هو، هكذا قال لصديقه.
اغتيال مقاتل فلسطيني يُدعى محمد عاصي بعد اشتباك خاضه مع قوة خاصة بعدما تحصن في مغارة كانت مستقره الأخير، وصرّح مسؤول أمني إسرائيلي لصحيفة هآرتس أنه بعد 11 شهرا من المطاردة، استطاعت "إسرائيل" الوصول للمطارد البارع في التنقل والتخفي؛ الذي أوقف حرب 2012 على قطاع غزة.. بعيدا عن التصريحات الكبيرة، كل ما في الأمر أن الصيف نقله من المدينة إلى الجبل، وكانت تتبعه دعوات المؤمنين.