مرسي خالد أبو مخّ
بعدَ أكثرَ من سبعة عقود على وقوع النّكبة على رؤوس الفلسطينيّين، والمآسي والأهوال التي ألحقتها هذه اللحظة المفصليّة في تاريخ الفلسطينيّين خصوصًا، وفي تاريخ الأمّة العربيّة والإسلاميّة، عُمومًا، نَقِفُ الآنَ، الجماهير العربيّة داخل الخطّ الأخضر، 18 عامًا بعدَ الألفيّة الثّانية من الميلاد، لنشخّص وضعًا مُقْلِقًا في مشهد القيادة الجماهيريّة العامّة للأقليّة التي يفوق عددها المليون ونصف المليون نسمة، إذ أنّ القيادَةَ تبدو عاجزةً غير قادرة على طرح حلول فعليّة واقعيّة تقدّمها لمن يُفْتَرَضُ أن يمثّلوهم في البرلمان الإسرائيليّ خصوصًا، وقيادات جماهيريّة عامّة، بشكل أكثر تعميمًا.
يبدو سؤال ما هو دور القياديّ جماهيريًّا في أوساط الأقليّة الفلسطينيّة القاطنة داخل حدود الخطّ الأخضر، في واقِعِنا اليوم، مُلِحًّا أكثر من أيّ وقت مضى. يأتي هذا السؤال على خلفيّة تساؤلات كثيرة يطرحها أصحاب الأرض الأصلانيّين، مواطنو "دولة إسرائيل" من الأقليّة العربيّة، وهي أصوات أخذت تتعالى في السّنوات القليلة الأخيرة، تُوَجِّهُ أصابعَ الاتّهام إلى قياداتها العربيّة في الدّاخل، متسائلَةً عن الكثير من القضايا الجوهريّة الملحّة وعن الحلول والمقترحات التي تقدّمها القيادات العربيّة، مثل أزمة الأرض والمسكن، الوضع الاقتصاديّ المتردّي، الفروقات الطّبقيّة الكبيرة معَ أبناء المجتمع اليهوديّ، العنف المستشري وغيرها من الإشكاليّات بالغة التّعقيد التي تحتاج إلى حلول فعليّة على أرض الواقع. هذه الأصوات النّاقدة والسّاخطة، الآتية من قلبِ الشّارع والعاكسة لهموم المواطن البسيط ولطموحاته ولمعيقاتها، توجّه اللوم والنّقدَ إلى قياداتها العربيّة، ولسان حالها يقول، بصياغات مختلفة: كفى للشعارات للرنّانة، كفى للخطابات المترهّلة، كفى للخطابات المنهِكَة المُنْهَكَة، كفى لطحن الماء. وهذا الادّعاءات التي تسري على الألسن في الشّارع العربيّ، ويكتبها كثيرون من النّاشطين، من خلفيّات مختلفة ومن شرائح أجيال متفاوتة، تُطالِبُ بتغيير منظومة تعامل هذه القيادات مع السّلطات الإسرائيليّة، وذلك من أجل تحصيل المزيد من الميزانيّات ومصادقات المشاريع، التي يتعطّش لها المجتمع العربيّ إلى حدٍ كبير جدًا. علَت أصواتٌ أخرى قليلةٌ نادت القيادات البرلمانيّة بالاندماج في الائتلافات الحكوميّة، في سبيل تحصيل المزيد من الإنجازات الحقيقيّة، ذات الثِّقَلِ والأهميّة، مطالبينَ برلمانيّيهم بالابتعاد عن مقاعدهم الثّابتة في المعارضة، والتي باتَ النّاقدون يرونها "عَطَبًا" أو "خلَلًا" في الحنكة السّياسيّة، وإن تنافَت هذه الادّعاءات مَعَ تيّارات معيّنة رئيسيّة، مثلَ التّيّار الوطنيّ، إلّا أنّ الحاجَةَ والهامشَ قد أجبرَا المواطنين العرب، على مطالبة قياديّيهم بكسْرِ القواعد التي تبنّوها حتّى الآن.
عدّة أسئلة متفرّعة تُسْتَنْبَطُ من السؤال المركزيّ أعلاه: ألم ينجح مجتمعنا العربيّ في تنشئة قيادة قويّة، ذات تأثير ونفوذ، رياديّة، غير مساوِمَة، دبلوماسيّة، ذات رؤيا شموليّة، متداخلة بمجتمعها وتُجِيدُ التّحدّثَ ومخاطبَة الآخر الإسرائيليّ؟ لا يمكنُ الإجابة بشكل أُحاديّ بشأن الأسئلة السّابقة، لأنّ الواقع أكثرُ تركيبًا من الأسئلة، إذ أنّ القائد العربيّ المنشود لدى الجماهير العربيّة داخلَ إسرائيل، عليه أن يتحلّى بخصال ومقوّمات ذات خصوصيّة عالية، تتيحُ له أن يديرَ نقاشات داخليّة في مجتمعه وأخرى خارجيّة مع الآخر الإسرائيليّ اليهوديّ، بينما وُجْهَتُهُ هي تحصيل حقوق إضافيّة وضروريّة للمجتمع العربيّ المتعطّش للإنجازات على خلفيّة النّواقص الكثيرة التي تسوده، سواء من ناحيّة ماديّة أو من ناحية استثمار في القدرات البشريّة. ومن هنا يمكننا تفسيرُ التّغييرات التي طرأت على بعض القيادات في تعاملها مَعَ المؤسّسة الإسرائيليّة، لأنّ ما هو مطلوبٌ منها اليوم، أكثر تركيبًا ممّا كانت هذه القيادة ملزمة به خلال العقود السّابقة. جديرٌ بالذّكر أنّ شريحة الشّابات والشّباب أبناء المجتمع العربيّ في البلاد، قد رفعوا سقفَ مطالبهم من هذه القيادات، وباتوا أكثرَ إلحاحًا وإصرارًا عليها. هذا الجيل الشّابّ يطالبُ قياداته اليوم أن تكونَ حسّاسة لمشاكل مجتمعها الكثيرة، أن تكونَ واعيةً للخلفيّات المركبّة كونها أقليّة مُهَمِّشَة ثقافيًا، اجتماعيًا واقتصاديًّا؛ أن تكون على قدر التّحدّي والصّعاب، مهما كان مستوى تعقيدها؛ أن تكون منخرطة في مؤسّسات الدّولة المختلفة، في سعي لتحصيل إنجازات ملموسة؛ أن تكونَ ذات خطابٍ شموليّ يحتوي بداخِلِهِ الكثير من الخطابات، وإن بدت متناقضَةً في فحواها، لكن المهمّ بالنّسبة لهم هو أن تدخل كافّة الأطر والشّرائح المجتمعيّة تحتَ مظلّة خطابٍ واحدٍ. هذه الأسئلة والمطالبات عالية السّقف من شأنها أن تمنحنا صورةً أفضل وفهمًا أعمقَ لما تتواجدُ فيه القيادةُ العربيّةُ في بلادنا، من مصاعبَ وتحدّيات كثيرة، ابتداءً من مجتمعها، وانتهاءً بالمؤسّسة الإسرائيليّة الحاكمة، إذ أن المواطنين توقّفوا عن تقديم تنازلات لقياداتهم، بل صاروا يزيدونها تحدّيًا بمطالبهم المُحْدَثَة والمتلائمة مع القرن الحادي والعشرين.
هذه الادّعاءات، توجيه الاتّهامات والنّقد اللاذع للقيادات العربيّة، تُقَال وتُصَاغُ على خلفيّة ارتفاع حادٍّ طرأ في السّنوات القليلة الأخيرة، على نسبة ومستوى التّعليم الأكاديميّ؛ انخراط النّساء بنسبة أعلى، مقارنة مع العقود السّابقة، في سوق العمل؛ نسبة الخرّيجين/ات العرب ممّن يدرسون موضوعات هامّة، كالطّبّ، على سبيل المثال لا الحصر، ازدادت كثيرًا، خلال العقد الأخير؛ خرّيجو المواضيع ذات شروط القبول العالية، مثل الصّيدلة والهايتك، أخذت هي الأخرى في الازدياد والارتفاع. هذا التّقدّم في مستويات التّعليم والانخراط في سوق العمل ودمج شرائح كانت حتّى الأمس القريب، مهمّشةً، تُعْتَبَرُ إنجازات بالنّسبة للمجتمع العربيّ داخل إسرائيل، إلّا أنّ كلّ هذه الإنجازات، وعلى خلفيّة التّقصير المؤسّساتيّ من قبل الدّولة وعلى وقْعِ التّهميش الذي دامَ عقودًا طويلةً، لا يزالُ قاصرًا عن تحقيق ما يحتاجُهُ المجتمعُ العربيّ من متطلّبات ومن نواقِصَ.
هذه الشّروخات بين المجتمع العربيّ وقيادته، تأتي على خلفيّة شروخات عميقة بين هذه القيادة وبين المؤسّسة الإسرائيليّة الحاكمة، والتي كان أحدّ أهمّ محاورها المفصليّة الشّرخ الذي ولّدته "انتفاضة الأقصى" أو "هبّة الأقصى" التي اندلعت عامَ 2000، في أعقاب دخول رئيس الحكومة الإسرائيليّ الأسبق، أريئيل شارون، إلى باحات الحرم القدسيّ الشّريف، وهو ما أثارَ سخطَ الجماهير العربيّة داخل الخطّ الأخضر وفي الضّفّة الغربيّة، ما أدّى إلى احتدام الاحتكاكات بين المواطنين العرب الفلسطينيّين وبين قوّات الأمن الإسرائيليّة المختلفة، وعلى رأسها الشّرطة الإسرائيليّة، التي قتلت بدم بارد 12 مواطنًا عربيًّا ممّن يحملون الجنسيّة الإسرائيليّة ومواطنًا من سكّان دير البلح (اُسْتُشْهِدَ في مدينة أم الفحم)، في خطوةٍ ساهمت في توسيع الشّرخ القائم أصلًا بين الدّولة وبين مواطنيها العرب.
جاءَت أحداث هبّة أكتوبر لتخلط الأوراق لدى الأقليّة الفلسطينيّة في إسرائيل، إذ تأكدّت من حقيقة كونها مقصيّةً عن المشهد السّياسيّ المجتمعيّ برمّته، أقلّ ما يُقال، بحيثُ أنّ التّعامل معهم بتوجّه أمنيّ خالص، أبرَزَ وشدّد على أنّ الدّولة، بمؤسّساتها الرّسميّة، لا تزال تتعاملُ مَعَ سكّانها ومواطنيها العرب، على أنّهم أغيارٌ غيرُ مرغوب فيهم، في أفضل الأحوال. وأفضَت معاملة القوّات الأمنيّة الإسرائيليّة إلى نوع من الصّدمة، إن جازَ التّعبير، وذلك لاكتشاف الأقليّة الفلسطينيّة داخل إسرائيل أنّها "عارية"، وأنّ حقوقها، المكتسبة بشقّ الأنفس، على مدار سبعة عقود، تقف في مهبّ الرّيح. تجمَّعَ الشّارع العربيّ في القرى والمدن العربيّة داخلَ إسرائيل، ملتفّينَ حول الغضب والسّخط اللذين سادَا الشّارع، بينما اصطفّت القيادات الشّعبيّة والبرلمانيّة إلى جانب نبض الشّارع.
أدّى وقوف القيادات الشّعبيّة والبرلمانيّة، على حدّ سواء، إلى جانب نبض الشّارع العربيّ المقموع (في سياق هبّة أكتوبر) إلى رفع أصوات كثيرة تنادي بنبذ هذه القيادات، لأنّها تجتمع مع "العنصريّين من الشّارع العربيّ"، وفق ما صرّحت به قيادات إسرائيليّة يهوديّة، شعبيّة وبرلمانيّة، ناهيك عن كون الشّارع اليهوديّ في البلاد، قد أجَّجَ وزادَ من لهيب الخطاب المعادي للقيادات العربيّة. بكلمات أخرى، أدّى اصطفاف القيادات العربيّة المختلفة، إلى جانب المجتمع العربيّ الذي رَزَحَ تحت النّار خلال أحداث "هبّة أكتوبر"، إلى زيادة عداوة الشّارع الإسرائيليّ للأقليّة العربيّة، ولقياداتها على وجه الخصوص. تأليب الشّارع الإسرائيليّ ضدّ القيادات العربيّة، الشّعبيّة والبرلمانيّة، أفرَزَ شرخًا جديدًا انضافَ إلى رزمة الشّروخات القائمة أصلًا بين المجتمع الإسرائيليّ والأقليّة العربيّة التي تسكن داخله. لكن أحَدَ أبرز ما أنتجه المشهد القاسي لهبّة أكتوبر، برأيي الخاصّ، هو التّعامل مَعَ القيادات العربيّة، دون أن تولي لها أيّ ثِقَلٍ ودون أن تقيم لها أيّ حساب، وهو ما تطلَّبَ إعادةَ ترتيب الأوراق في سياق العلاقة القائمة بين قياداتنا وبين المؤسّسة الإسرائيليّة، على اختلاف فروعها، وذلك لأنّ "الضّربة" كانت موجعة للجماهير العربيّة ولمُختلف قياداتها، على تعدّد انتماءاتها.
وفي سياق حديثنا عن قيادة الأقليّة العربيّة داخلَ إسرائيل، يُطرحُ التّساؤُلُ عن توجّهات القيادات هذه في تعاملها معَ مجتمعها وفي تعاملها مع المؤسّسة الإسرائيليّة الحاكمة، فأيّ خطاب (Discourse) تتبنّاه قيادتنا الفلسطينيّة داخل الخطّ الأخضر؟ الخطاب القوميّ؟ الوطني؟ خطاب الاندماج في المجتمع الإسرائيليّ؟ خطابٌ انفصاليّ؟ خطاب الوحدة واللُحمة؟ خطاب إسلاميّ؟ خطابٌ مُتَأَسْرِلٌ؟ خطابٌ يبتغي اكتساب أكبر كمّ من الإعجاب (لايك) على صفحات الفيسبوك؟ خطابٌ يستدرّ عطف الجماهير ويخاطبها بلغة المشاعر لا بلغة العقل؟
أيّ دوائر انتماءات هي التي تعملُ اليومَ على السّاحة السّياسيّة المجتمعيّة في الدّاخل؟ وهل من دمجٍ/فصل بين السّياسة والمجتمع؟ تندرجُ دوائرُ الانتماءات الفلسطينيّة، ضمنَ سلسلةٍ من التّعريفات التي كانت ولا تزال تراوحُ مكانها، بينما لا غالبَ لخطابٍ معيّن على خطابات أُخرى، لأنّه، وكما سنطرحُ في مقالتنا هذه، فإنّ الخطابَ السّائدَ هو خطابٌ مُبَلْبَلٌ غيرُ ذي هُدًى، تبدو أنّ بوصلته قد ضاعت، أو على الأقلّ، قد أصابها عَطَبٌ.
عودةً إلى الوراء، أسَّسَ الحزبُ الشيوعيّ الإسرائيليّ، مَعَ قيام "دولة إسرائيل"، الحاضنة الأولى والكبرى للخطاب القوميّ الوطنيّ الذي نادى بالمساواة المجتمعيّة بين العرب واليهود داخل "دولة إسرائيل". وبرزَت قيادات مهمّة في هذه الحقبة التّاريخيّة الهامّة، مثلَ توفيق طوبي، إميل حبيبي، إميل توما، توفيق زيّاد، راشد حسين وغيرهم من القيادات الجماهيريّة السّياسيّة التي نادَت بالمساواة بين العرب واليهود داخل إسرائيل، وبحقّ تقرير المصير للفلسطينيّين في الضّفّة والقطاع (إضافة للمطالبة بحقّ عودة اللاجئين الفلسطينيّين).
لكن ما هي المحطّات الرّئيسيّة وما هي القفزات النّوعيّة التي شهدتها قيادتنا الفلسطينيّة في الدّاخل؟
بُعَيْدَ النّكبة التي حفرت نُدَبًا عميقةً في الشّعب الفلسطينيّ، لم تكُن هناك قيادات فلسطينيّة داخلَ الخطّ الأخضر، منظّمةً بشكل ممنهج و/أو متّحِدَةً تحتَ مظلّة واحدة و/أو تتبنّى خطابًا واحدًا وتمشي بحسبه. افتَقَدَ المجتمع الفلسطينيّ، بعيد النّكبة، طاقاته القياديّة، لأنّ النّكبة كانت (ولا تزالُ، بتفاوتٍ) تُلْقِي بظلالِها على الواقع اليوميّ الثّقيل لمن تبقّوا من فلسطينيّي الدّاخل ولم يُقْتَلَعُوا من موطنهم الأصليّ. وفي هذا السّياق لا بدّ من التّشديد على دور الحكم العسكريّ الذي فَعَّلَتْهُ "دولة إسرائيل" حيال ما تبقّى من فلسطينيّين داخلَ حدودها، في المثلّث، الجليل وفي النّقب. شَغِلَ الحكمُ العسكريّ لإسرائيل، الذي استمرّ قرابة العقدين (18 عامًا)، والذي طُبِّقَ منذ عام 1948 وحتّى عام 1966، كابحًا، معيقًا وحاجزًا قاسيًا لكلّ تطوّر في القيادة الفلسطينيّة المحليّة ممّن يسكنون داخلَ حدودها. زرعَ الحكم العسكريّ الإسرائيليّ، الخوفَ والرّهبةَ والنّكوصَ في نفوس الفلسطينيّين الباقين، وهو ما أثَّرَ بشكل مباشر على الحياة السّياسيّة للفلسطينيّين الذين باتوا أقليّة، مَعَ وقوع النّكبة وترسيم حدود جديدة.
19 عامًا فصلت بين النّكبة والنّكسة، اللتين أصبحَا مصطلحين دخلا قاموسَ كلّ العالم العربيّ، إلّا أنّ النّكسةَ عزَّزَت من الصّدمة في أوساط العرب عمومًا، والفلسطينيّين على وجه الخُصُوص، لِيَتَعزَّزَ المدُّ القوميُّ العروبيُّ، الذي أشعلت النّكسةُ فتيلَهُ في الموطن العربيّ عمومًا، ليصِلَ إلى فلسطين، حاملًا تفخيمًا وتغليظًا لهذا الخطاب.
الأحزابُ العربيّة في الدّاخل الفلسطينيّ، ذات الصّولات والجولات الانتخابيّة في البرلمان الإسرائيليّ، عليها اليوم، أن تنتقلَ من حالة ردّ الفعل (على الواقع الإسرائيليّ والتّعامل مع الأقليّة الفلسطينيّة) إلى وضعيّة المُبادرة، وهو، برأيي المتواضع، ما لم يقع ويحدث على أرض الواقع، في أيّ من النّماذج الحزبيّة التي شهدها الوضع الانتخابيّ في بلادنا.
أحداث "هبّة الأقصى" عامَ 2000، أخرجَت على السّطح أسئلة كانت مخبّأة، ووضعت علامات استفهام كثيرة بشأن نجاعة ما اعتيد على تسميته "العيش المشترك / التّعايش" بين المجتمعين العربيّ الفلسطينيّ واليهوديّ الإسرائيليّ؟ 13 مواطنًا عربيًّا، قُتِلُوا بدمٍ بارِدٍ، بينما لم يتمّ تقديم أيّ رجل أمن أو شرطيّ ممّن أقدموا على إطلاق النّار لأيّ مساءَلة قانونيّة أو محاسبة قضائيّة، لتتمخّض كلّ هذه الهبّة (لدى الجانب الإسرائيليّ) عن لجنة تحقيقات ("لجنة أور") التي أقرّت بالمعاملة الهمجيّة وبخفّة الضّغط على الزّناد التي لا تحتمل. كان الاسم الرّسميّ للجنة "لجنة التّحقيق الرّسميّة لاستيضاح الاشتباكات بين قوّات الأمن وبين المواطنين الإسرائيليّين في أكتوبر 2000"، والتي تمخّضت عن قراءة تحليليّة للواقع الإسرائيليّ، في سياق الأقليّة الفلسطينيّة داخله، مشيرَةً إلى شخصيّات في قيادة الشّرطة والجبهة الدّاخليّة من الإسرائيليّين، تساهلوا في إطلاق النّيران واستخدام القوّة، كما جاءَ في تقرير لجنة "أور". أودّ في هذا السّياق أن أقتبس من تقرير أور:
"يمكننا أن نلخّص بقولنا: في أحداث أكتوبر 2000، اهتزّت البلادُ. القلاقل التي وقعت في هذا الشّهر كانت غير مسبوقة. كانت الأحداثُ استثنائيّة وشاذّة من عدّة نواح. شارك بها الآلافُ، في الكثير من الأماكن، وفي ذات الآن. حدّةُ العنف والتّهجّم التي انعكست في الأحداث كانت عالية جدًا. وضدّ المواطنين وقوّات الأمن، اُستُخْدِمَت وسائل هجوميّة مختلفة، والتي اشتملت على إلقاء زجاجات حارقة، استخدام كرات حديديّة أُطْلِقَت بالمقلاع وبسرعة عالية، إلقاء حجارة بوسائل مختلفة، دحرجة إطارات سيّارات محروقة، وفي حالات عديدة، أُطْلِقت نيرانٌ حيّة. تمّ التّعرّض لليهود ومهاجمتهم بسبب كونهم يهودًا فقط، وتمّ تخريبُ ممتلكاتهم.... كانت هناك محاولات لدخول بلدات يهوديّة وتهديد سكّانها. أُغْلِقَت محاور رئيسيّة لفترات متواصلة، بينما تمّ تشويش الدّخول إلى بلدات يهوديّة بشكل كبير، وفي بعض الحالات، قُطِعَت هذه الطّرق لفترات طويلة. الهجوميّة والعنف تميّزا بإصرار كبير، امتدّا لفترات طويلة، وتواصلا أيضًا أثناءَ محاولات لكبحها من خلال استخدام وسائل لتفريق الجماهير" (المادّة من ترجمتي الخاصّة).
إلّا أنّه، ومنذ بداية الألفيّة الجديدة، فقد اختلفت قواعد اللعبة السّياسيّة اختلافًا كبيرًا عمّا كانت عليه في العقود السّابقة (ابتداءً منذ عام 1948)، إذ تعاظَمَ صوت هذه الأحزاب، وتعاظَمَت في ذات الوقت الأصوات العربيّة النّاقدة لعمل هذه الأحزاب (كخيبة أمل من إنجازاتها)، إضافَةً إلى دخول لاعب قويّ آخر إلى السّاحة العربيّة، وهي جمعيّات المجتمع المدنيّ، مثل مركز عدالة القانونيّ ومركز "مدى الكرمل للدراسات التّطبيقيّة"، وغيرها من المراكز البحثيّة والتّطبيقيّة والجمعيّات، التي تحوّلت إلى صوت قويّ مؤثّر، له نفوذه في تصميم وبلورة الوعي السّياسيّ للأقليّة العربيّة في الدّاخل.
الخطابُ القوميّ الذي تمّ ترسيخه لدى الأقليّة الفلسطينيّة داخل إسرائيل، تعزَّزَ أكثرَ فأكثر بعد "هبّة أكتوبر"، إلى جانب أصوات (أقلّ نسبةً) نادت بمحاسبة الذّات وإعادة النّظر فيما تمخّض عنه خطاب القوميّة. وبين خطابين، يبدوان متناقضي الجوهر، تفاعلت الجماهير العربيّة، إلى جانب قياداتها، في بحثها عن واقعٍ وعن مستقبل أفضلَ وأجودَ وأكثرَ أمانًا وأمنًا وتحقيقًا للذات، لكن ما هو مشترك لغالبيّة الأصوات العربيّة، على اختلاف مشاربها، كمَنَ في كون هذه الأقليّة منسلخةً عن مؤسّسات الدّولة الرّسميّة وبعيدة كلّ البعد عن مراكز التّأثير والنّفوذ.
يمكنني القول إنّ بدايةَ الألفيّة الثّانية قد كشفت تصدّعات في بنية القيادة العربيّة داخل إسرائيل، وأبرزت عيوبًا في أدائها، أكثر من أيّ وقت مضى، لأنّ هذه القيادات قد بدت مرتبكةً حيال الواقع المركّب والعنيف والمُهَدِّدِ، وهذا هو السّبب الرّئيسيّ الذي أدّى إلى ارتفاع الأصوات النّاقدة لنهج هذه القيادات، عملها وأدائها على أرض الواقع.
ولادةُ القائمة العربيّة المشتركة، جاءَ "بفضل" وزير الأمن الإسرائيليّ، المعروف بعدائه للأقليّة العربيّة داخل إسرائيل، على وجه الخصوص، وللفلسطينيّين عمومًا، بعد أن بادَرَ إلى رفع نسبة الحسم للأحزاب، وهو ما اضطرّ الأحزاب العربيّة إلى أن تتَّحِدَ "رغمًا عنها"، خوفًا من اضمحلالها أو اختفائها نهائيًّا عن السّاحة السّياحيّة وعن واقع الفلسطينيّين داخل إسرائيل. ولطالما نادت الجماهير العربيّة في الدّاخل إلى اتّحاد الأحزاب العربيّة من أجل زيادة عددهم ورفع سقف مطالبهم وإنجازاتهم، إلّا أنّ هذا المطلب قد قوبِلَ برفض هذه الأحزاب، بادّعاءات مختلفة، وقفت الهرميّة والتّراتبيّة في المناصب في خلفيّتها جميعًا، وهو ما عمَّقَ خيبة أمل الجماهير من قياداتها، التي لم تحصّل ما أرادته هذه الجماهير. وفي هذا السّياق يجب أن نشدّد على أنّ القائمة العربيّة المشتركة تشتمل على أربعة أحزاب: الجبهة الدّيمقراطيّة للسلام والمساواة (الحزب الشّيوعيّ الإسرائيليّ)؛ القائمة العربيّة الموحّدة (الحركة الإسلاميّة)؛ التّجمّع الوطنيّ الدّيمقراطيّ والحركة العربيّة للتغيير (د. أحمد طيبي). هذه المركّبات الأربعة للقائمة العربيّة المشتركة، عمليًّا ونظريًّا، من الصّعب أن تلتقي، وذلك لأنّ خطوطها الأيديولوجيّة لا تتقاطَعُ مَعَ بعضها البعض، إذ أنّ تيَّارًا تحرّريًّا أُمميًّا شيوعيًّا لن يلتقي مع تيّار آخر دينيّ إسلاميّ، ولن يتقاطَعَ معَ تيّار ينادي بالاندماج في المؤسّسات الإسرائيليّة الحاكمة. هذه الفروقات الكبيرة في الأيديولوجيا، برأيي، قامت بتعطيل التّفاعل الذي كان من المفترض أن يتمّ بين جميع المكوّنات، ومن هنا جاءَ وصفي لهذه الوحدة على أنّها "قسريّة"، قام "بفرضها" ليبرمان، لتتوحّدَ قيادتنا بفضل أحد أكثر الأصوات عنصريّة ضدّ العرب والفلسطينيّين. أضِفْ إلى أنّ هذا البعد الأيديولوجيّ بين مركّبات المشتركة، قد زادَ من التّوتّر بينها ومن احتدام الصّراعات الدّاخليّة. المشتركُ لمركّبات القائمة المشتركة، هي أمور قليلة جدًا: مكافحة عنصريّة "دولة إسرائيل"؛ مساواة في المواطنة المدنيّة؛ محاربة عنصريّة الشّارع الإسرائيليّ تجاه العرب. أمّا ما هو غيرُ مشتركٍ، فيزيدُ كثيرًا عن الثّلاثيّة التي توحّدهم.
قضيّتان جوهريّتان قسّمتا مركّبات القائمة العربيّة المشتركة وأدخلَتَا نزاعًا بين صفوف القيادات غير البرلمانيّة، هما: الموقف من السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة والموقف من الحرب السّوريّة ومن دول الخليج. فقد رفض التّجمّع الوطنيّ الدّيمقراطيّ، نهجَ السّلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، وتعاملها مع السّلطات الإسرائيليّة، منتقدًا التّنسيق الأمنيّ بالأساس، خلافًا للجبهة الدّيمقراطيّة للسلام والمساواة التي رأت في السّلطة قيادةً عُليا للشعب الفلسطينيّ، على اختلاف مواقعه. رفضت الحركة الإسلاميّة، في ذات الوقت، كيفيّة تعامل السّلطة مَعَ التّيّارات الإسلاميّة المتواجدة في الضّفّة الغربيّة. الحرب السّوريّة الأهليّة الدّائرةُ من أكثرَ من سبعة أعوام، قسَّمَت هي الأخرى الأحزاب المختلفة، ويمكنني أن أقول إنّها قد قسّمت المجتمع العربيّ بأكمله بين مناصرٍ لنظام الأسد ومعادٍ له. ناهيك عن كون هرولة دول الخليج إلى التّطبيع وإقامة علاقات مع إسرائيل، قد قسّمت الشّارع والقيادةَ العربيّة بين مؤيّدٍ وبين منافٍ لهذه السّياسات. هذه الموضوعات الجوهريّة التي تشكّل موضعَ خلاف بين الأحزاب، توضحُ لنا أنّ المشترَكَ أقلُّ بكثير من المختلف عليه بين صفوف قياداتنا العربيّة في البلاد، وهو ما من شأنه أن يُضْعِفَ التّأثير والنّفوذ التي بحوزتها.
شعرت الجماهيرُ العربيّة في البلاد بتهديدٍ وجوديّ في كثير من اللحظات والمواقف خلال "هبّة الأقصى"، وهو ما دفعها، وفق ما يتداوله نبض الشّارع لدى جماهيرنا العربيّة في الدّاخل، إلى استخدام العنف، دفاعًا عن أنفسهم، إذ وجدوا أنفسهم مقيّدينَ أمامَ مدٍّ من القوّات الأمنيّة التي تعاملت معهم وكأنّهم أعداءٌ يجب القضاء عليهم. تعاملُ قوّات الأمن مع الجماهير العربيّة لم يكن تعاملًا شرطيًّا مَعَ مواطنين، وإنّما كان ملائمًا أكثرَ لساحة اشتباكٍ بين قوّات أمنيّة وبين جماهير عدوّة.
التّعامل العدوانيّ الذي تبنّته القوّات الأمنيّة الإسرائيليّة لم يتوانَ عن استخدام ما هو متاحٌ له من قوّة، دون محاولة كبح جماح مدّ العنف والتّوتّر الأمنيّ، في سعيٍ للقضاء على الأزمة. جاءَت هذه الهبّة لتصفَعَ الشّريحة (أو الشّرائح) التي آمنت ببناءٍ مجتمعيّ مشترك بين المجتمعين العربيّ واليهوديّ في البلاد. حملت هبّة أكتوبر في طيّاتها صدمةً للجماهير العربيّة، وجعلتهم يتيقّنون من كونهم مواطنين من الدّرجة الثّانية أو الثّالثة أو الرّابعة.
اكتشفَ المواطنون العرب ممّن يحملون الجنسيّة الإسرائيليّة أنّ مواطنتهم مرهونة بولاءٍ أعمى مطلق للدولة، دون أن يتمتّعوا بأيّ ميزات، مَعَ الإصرار على إسقاط كلّ ما هو فلسطينيّ-عربيّ منهم. هذه المعادلة أثقَلَت كاهلَ المواطن العربيّ وجعلته يفهم أنّه لا مفرّ من العودة إلى الخانة الأولى، أي إلى خانة الهويّة وإعادة صياغتها وتشكيلها، بناءً على الواقع المركّب. إلّا أنّ هذه المعادلة لم يتمّ تحديثها، وظلّ المواطنون الفلسطينيّون يراوحون بين هويّتهم الفلسطينيّة وبين انتسابهم الإسرائيليّ، لتنتجَ صورة مركبّة يصعُبُ هضمها. الإسرائيليّ لا يتقبّل العربيّ، إلا بشروط قاسية، تُجرّده من مقوّمات هويّته.
قيادتنا العربيّة اليوم، عليها أن تجابه واقعًا أكثر تركيبًا وتعقيدًا ممّا كانَ عليه الوضع في العقود السّابقة، لأنّ الصّورة صارت أكثر تعقيدًا ولأنّ الواقعَ أملى ما فيه الكفاية من التّعقيدات السّياسيّة المجتمعيّة، وهو ما تجدُ هذه القيادة، صعوبَةً في توفيره. المجتمعُ الإسرائيليّ، في العقدين الأخيرين، التفّ نحوَ اليمين أكثر بكثير من العقود التي سبقته، وهو الأمر الذي عزَّزَ من مكانة ومن ثبات حكم رئيس الحكومة الإسرائيليّ الحاليّ، بنيامين نتنياهو. وقد استغلّ الأخيرُ معرفته بعنصريّة الشّارع الإسرائيليّ، في أكثر من موقع ومن حالة، مستخدمًا العربَ وسيلةً للتحريض أو لتمرير مآربه، وقد كان المثال الأكثر بروزًا في انتخابات البرلمان الإسرائيليّ العشرين، عامَ 2015، إذ توجّهَ إلى جمهور ناخبيه، "مهدّدًا" إيّاهم بأنّ "العرب يتدفقّون بجماهيرهم إلى صناديق الاقتراع"، ما أَلَّبَ الجماهير وحثّها بالفعل للخروج نحو الصّناديق، لماذا؟ لأنّ العرَبَ قد توجّهوا إليها، ومن المحتمل أن يقلبوا الصّورة، رأسًا على عقب. في هذه الحادثة "أقصى" نتنياهو العربَ من المشهد السّياسيّ، وهمّشهم إلى درجة وصْفِهِم على أنّهم من صفوف "العدوّ".
المتقصّي لدور أعضاء الكنيست العرب، مع احترامنا لهم، يكتشفُ أنّ دورهم كان، بشكل عامّ، في سياق الرّدّ وليس في سياق المبادرة، فهذه الشّريحة تُصْدِرُ أصواتًا معارضةً عالية في حالات "الخطر"، في مواقف يتمّ فيها التّهجّم على العرب/الفلسطينيّين وفي حالات الحرب، يكون التّوتّر عاليًا بينهم وبينَ نظرائهم اليهود في الكنيست، وكذلك فإنّ هذا التّوتّر يزدادُ بينهم وبين الشّارع الإسرائيليّ أثناءَ احتدام الأمور أمنيًّا.
لطالما اتَّهَم الشّارع الإسرائيليّ عمومًا، وشقّه اليمينيّ، على وجه الخصوص، البرلمانيّين العرب في الكنيست، على أنّهم "طابور خامس"، بينما اتّهمهم كثيرون بكونهم يستخدمون خطابًا ثنائيًّا، يستخدمون شقّه مَعَ العرب وشقّه الثّاني مَعَ الشّارع الإسرائيليّ. لكن، هل هذا ما وقَعَ بالفعل، وهل تبنّى البرلمانيّون العرب في الكنيست خطابين (أو أكثر) لدى شرائح جماهيرهم؟ منطلق هذه المقولة أو الادّعاء جاءَ أصْلًا من الموقع ذي الخصوصيّة العالية الذي يمتازُ به مواطنو إسرائيل العرب عمومًا، وبرلمانيّوهم على وجه الخصوص، إذ أنّهم يتداخلون في دائرتيّ انتماء متضادّتين: الهوية العربيّة الفلسطينيّة والهويّة/الجنسيّة الإسرائيليّة. حاول البرلمانيّون العرب في الكنيست، أن يخاطبوا جمهورين: الفلسطينيّ والإسرائيليّ، وهو ما "أوقعهم" في مطبّ ما أسموه "النّفاق" في الخطابات. هل نجحَ البرلمانيّون العرب في مخاطبة الجمهور الإسرائيليّ؟ إذا ما أخذنا نموذج البرلمانيّين العرب الذين قَدِمُوا من الحزب الشّيوعيّ الإسرائيليّ، الذي نادى بالمساواة المجتمعيّة، فإنّ خطابهم كانَ متوازًنا في سياق المجتمع الإسرائيليّ، بغالبيّته، ولم يتبنَّ تهجّمًا أو عدوانيّة تجاه الإسرائيليّين لكونهم يهودًا، وفي هذا الجانب، يمكننا أن نذكر الرّاحل إميل توما والبرلمانيّ السّابق عصام مخّول، اللذين تبنّيا ذات الخطاب تجاه الشّعبين. بالمقابل، وعلى سبيل المثال لا الحصر، وقف توفيق زيّاد في الجانب الآخر لمنتسبي الحزب الشيوعيّ، إذ أنّه كان مهاجمًا للشارع الإسرائيليّ، وهو ما ألَّبَ ضدَّه الكثير من الإسرائيليّين.
بعد مرور أكثر من سبعة عقود على النّكبة، وبعد أن شغل عشرات المواطنين العرب في "دولة إسرائيل"، منصب برلمانيّين في الكنيست الإسرائيليّ، نقفُ الآن أمامَ واقعٍ يتطلّبُ منّا إعادة حساباتنا في سياق القيادة، فإنّ شخصيّات برلمانيّة سابقة، مثل إميل حبيبي وتوفيق طوبي وعزمي بشارة، قد أسَّسَت لمشروع قياديّ مجتمعيّ، لكن هذه الشّخصيّات التي اتّسمت بكاريزما عالية، نفتقدُ إلى مثلها في واقعنا الرّاهن، وهو ما يقرّ به كثيرون. المجتمعُ العربيّ في الدّاخل يحتاجُ إلى ضخّ دمٍ جديد شابّ، من أجل إعادة صياغة معادلة القيادة ووُجهتها، إذ أنّ تذمرًّا كبيرًا قد طالَ برلمانيّين عربًا بسبب إشغالهم ذات المنصب، لسنوات طويلة، دون تحصيل إنجازات كبيرة للمجتمع الذي قدموا منه.
القيادةُ التي يحتاجها مجتمعنا هي قيادة تضعُ اصبعها على الجرح فتشخّص العطب والخلل وتباشر إيجاد سيناريوهات حلّ للأمر؛ قيادةٌ واعية لواقعنا المركّب، واعية لأصلانيّة المواطنين العرب ولقواعد المواطنة. نحنُ بحاجةٍ ماسّة إلى من يفهم بعمق، ماضينا وتاريخنا الحديث الدّامي، مَعَ فهم راهننا المركّب، بينما في جعبته تصوّر بشأن شكل مستقبلنا.
دوائر الانتماءات الكثيرة للعرب داخل الخطّ الأخضر، يجب أن تشكّل حافزًا وتعزيزًا لدور قيادتها، بدلًا من أن تشكّل مصدر قلق وتشويش. لا بدّ من التّعامل مَعَ دور البرلمانيّين العرب في الكنيست ودراسته من أجل استخلاص العبر من إنجازاتهم ومن إخفاقاتهم، خلال تجاربهم البرلمانيّة الغنيّة. سياقنا الثّقافيّ الغنيّ صارَ بعيد النّكبة مبتورًا، إلّا أنّه، وتحديدًا منذُ مطلع الألفيّة الثّانية، شهدَ بدايات إعادة صياغة، نتواجدُ اليومَ في أوجها.
بين الوجهة الإقليميّة العروبيّة وبين التّأسرل، راوحَ برلمانيّونا العرب في الكنيست، محاولين أن يصيغوا معادلةً رابحة لهم ولجماهيرهم، وهو، للأسف، ما لم ينجح في كثير من الأحيان والمواقع، لتأتي أهميّة دراسة هذه الأدوار وتقصّي احتياجات مجتمعنا من ناحيّة الهُويّة، الانتماء، التّربية والاقتصاد، لندمج ما بين قدرات هذه القيادة، تجارب برلمانيّينا السّابقين واحتياجاتنا المستقبليّة.
لا بدّ لقيادتنا أن تتعاملَ بأدوات معرفيّة وعلميّة مع الماضي والحاضر، ولا بدّ لها أيضًا من أن تفهم وتعي عمق وأهميّة دورها في بلورة الأجيال القادمة، مَعَ الأخذ بعين الاعتبار بأنَّ المواطن العربيّ البسيط في البلاد، يعي اليومَ، أكثر من أيّ وقت مضى، مدى إخفاق برلمانيّيه في تحصيل الكثير مما يطلبه، وهو (وعي المواطن البسيط) بات يشكّل تحدّيًا لقيادتنا الآخذة في التّجدّد وفي إعادة إحياء دورها الرّياديّ.