من بين أهم الأشياء التي يواجهها القائد الذي يحترف السياسة إلى حد اندغام حياته بها على نحو كامل مشكلة الخاص والعام وكيفية توظيف أولهما في خدمة الثاني. لقد أوضح آدم سميث منذ قرنين ونصف من الزمان أن أحدنا لا يمكن أن ينام نوماً طبيعياً إذا كان يعلم أن أصبعه الصغرى ستستأصل في اليوم التالي، ولكنه سوف ينام بشكل طبيعي فيما لو أخبرناه أن زلزالاً سيضرب الصين ويقتل مئة مليون إنسان. يمكن أن يكون شخصاً متعاطفاً وحساساً ويفكر في الموضوع مدة ساعة أو ساعتين، ولكنه في النهاية ينام بهدوء: ليست مشكلة الصين مشكلته على نحو شخصي، أما الأصبع الصغرى فهي مشكلته.
هكذا يبدو أن القائد الملهم في حاجة إلى إيجاد الطريقة الأنسب لكي تقترب الهموم العامة في أهميتها من مستوى الهموم الشخصية أو تتفوق عليها. وقد بدا للحظة تاريخية سريعة في الانتفاضة الأولى ان الهموم الشخصية قد اندمجت في الصراع اليومي الحي ضد الاحتلال.
لكن سرعان ما جاءت أوسلو وشرعت فوراً في ربط الأفراد بمصيرهم الفردي. وبدأت في زراعة غرس الرأسمالية الذي يزعم أن "الشاطر بشطارته، والأهبل بتروح عليه". وقد تعزز ذلك في سياق نزعة استهلاكية يدللها "اقتصاد سوق" ينص عليه الدستور الوحيد في العالم، ونعني بذلك بالطبع المادة 21 من دستور السلطة الذي ينص على أن هذا البلد يلتزم بالسوق الحر التزاماً لا هوادة فيه.
امتلأت الدنيا بالبضائع الاستهلاكية الفاخرة، وأصبح المتجول في رام الله لا يعدم سلعة متوافرة في دبي أو نيويورك. وسافر أهل فلسطين برعاية الأنجزة أو السلطة إلى أصقاع الدنيا. و"رشت" البنوك تسهيلات السيارات حتى اختنقت البلد مرورياً واختنق جوها تلوثاً. ودخل الناس في سباق حتى يحققوا ما حققه المحظوظون، فانفلت الفرد من عقاله الأخلاقي، وانتشر النصب والاحتيال والجريمة المدنية العفوية قبل المنظمة. هل حدث ذلك بخطة مبيتة أم أنه ناتج جانبي للاقتصاد السياسي لتسوية اوسلو؟ نحن على الأقل في وضع معرفي يسمح لنا بالقول إن هذا مخطط كله من قبل دوائر الأنجزة العالمية وحكومات الامبريالية الكبرى، ولكننا لسنا في وضع معرفي يسمح لنا بتقدير مدى إدراك السلطة وقيادتها السياسية والاقتصادية والأيديولوجية لذلك كله.
في أحيان معينة نقع تحت الانطباع بأن القيادات الفلسطيينة لا تقل حيرة عن الجماهير حيال ما يجب فعله كلما حدث "انفجار" شعبي". القيادة تمارس "انتظار جودو" كلما بدا أن "الهدوء" سيد الموقف. لكنها "تحوس" وتقع في حيص بيص كلما خرج الناس أو جزء منهم صغير أو كبير إلى الشارع. لكن هذا مثلما يعلم أي مبتدئ في علم السياسة لا يجوز بتاتاً: القيادة ليست موجودة "ديكور" من أجل المناسبات السياسية، من قبيل استقبال وفود سياسية أجنبية أو ممثلي التمويل الغربي. كلا القيادة موجودة لتلهم شعبها وتقول له ما يجب أن يفعل على وجه الدقة والتحديد. أما دعوة الجماهير إلى الحركة من تلقاء ذاتها، مثلما تفعل نداءات الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية وغيرهما في بعض الأحيان عندما تشجيع الجماهير على الحراك الغوغائي الذي لا يهدف إلى شيء واضح ومحدد، وإن ترافق مع شجاعة باهرة ومبهرة.
تقدموا أيها القادة من اليسار إلى اليمين إلى الوسط: إسلاميين، علمانيين، تقليديين، شيوعيين، مسيحيين، ليبراليين، ..الخ وقولوا للناس ما تريدون. ماذا يوجد على جدول أعمال الساعة؟ ردع إسرائيل عن التمادي في أعمالها في القدس؟ تكريس انفصال القدس عن "إسرائيل"؟ انتفاضة شاملة بأمل إنجاز دويلة فلسطينية مستقلة حقاً، مع حق العودة/بدون حق العودة؟ انتفاضة مدنية؟ فعل مسلح محدود بالسلاح الأبيض؟ ثورة مسلحة بالنار والحديد؟ لا تتركوا الناس لمصيرهم يضربون في أنحاء الفعل على غير هدى.
الجماهير تتحرك وتعود إلى الشوراع والأبطال الأفراد في الآونة الأخيرة قاموا بأعمال شجاعة وذكية ومؤلمة للعدو. لكن هذا المصابيح تحتاج إلى مواصلة تغذيتها بالزيت النقي كيما تظل الشعلة متوهجة. هذا فيما نتوهم هو دور القيادة الثورية القادرة على التقاط بوصلة التاريخ واتجاه حركته. لكننا حتى اللحظة نعجز عن إفراز نخبة سياسية تكون على مستوى جسامة المسؤولية التاريخية الراهنة التي تقع على عاتق شعبنا وأمتنا.