سواء كان رئيس تونس، المناضل المخضرم المنصف المرزوقي، أو رجل الدولة المخضرم أيضا الباجي قائد السبسي، أو زعيم النهضة راشد الغنوشي، فإن ما حدث في تونس يسجل كأول ايجابية للربيع العربي، الذي تأملنا فيه كموسم تغيير إيجابي للواقع العربي المتجمد والمكتظ بالعجز والتخلف.
إن الذي فاز في تونس ليس حزبا ولا شخصا ولا اتجاها، إن الذي فاز حقا هو الصيغة الواعية التي فرضها الشعب التونسي ومجتمعه المدني المتطور، وهي صيغة عصرية بامتياز، تجعل من تداول السلطة عبر صندوق الاقتراع هو أساس الحكم وضمانة استقراره.
لقد استعادت تونس روحها التي كادت تسلب حين فرضت عليها أجندة ولو إلى حين، تشدها إلى الوراء، وتمنع عنها فرصة اللحاق بركب الحضارة ، ذلك أن تونس، البلد ذا الإمكانات المتواضعة، والتي تشكل السياحة أهم مصادر دخله القومي، والتي تحررت من الاستعمار الفرنسي بفعل الذكاء والدهاء، فرضت نفسها وهويتها الأصيلة مرتين، الأولى حين انتفضت على الديكتاتورية والاستبداد والفساد، وأطاحت بنظام زين العابدين طويل الأمد وكثير الأخطاء، والمرة الثانية حين رشدت اتجاه الإسلام السياسي، فأبعدته عن الإرهاب والاستئثار بالسلطة، لمصلحة ديموقراطية حقيقية يعيش في أفيائها كل التونسيين بصرف النظر عن انتماءاتهم الفكرية والعقائدية والسياسية.
لقد أهدت تونس أمتها العربية نموذجا يستحق أن يقرأ جيدا كي يحتذى ويستلهم في بناء الدول الحديثة، بعيدا عن القبيلة المستشرية في القرن الحادي والعشرين، وبعيدا كذلك عن الطائفية البغيضة، التي أودت بكيانات قائمة، وتهدد بإغراق منطقتنا بالدم دون مبرر.
وتونس التي احتضنتنا في أشد مراحل تاريخنا حرجا، وعدنا منها مباشرة إلى الوطن، والتي قال فيها شاعرنا الخالد محمود درويش، إنها البلد العربي الوحيد الذي لم نخرج منه مطرودين.
وتونس التي فتحت لنا الأبواب على العالم، وقدمت لنا النصح والارشاد بكل حميمية وإخلاص وحرص، يجب أن تكون ملهمتنا في هذه المرحلة التي يمزقنا فيها الانقسام، وتطحن عظامنا فيها آلة الاحتلال الثقيلة والمدمرة، ملهمتنا في بناء الذات وتأسيس الديموقراطية، وتكريس الحداثة في حياتنا، سواء حصلنا على استقلالنا أو ونحن في الطريق إلى ذلك.
إن تونس هي الأقرب من نواح عديدة لواقعنا، وحتى في طريقتها للحصول على استقلالها، هي الأقرب إلى تجربتنا التي تقوم على أساس التدرج في تحقيق الهدف الأسمى، ورغم أننا في البدايات، قلبنا ظهر المجن لفكرة المجاهد الأكبر الحبيب بورقيبة، التي نصحنا فيها بأن نأخذ ونطالب، وكانت نصيحته مبكرة جدا، حيث أخذنا بها بعد عشرات بل مئات آلاف الشهداء والجرحى والمعتقلين. إن تونس والحالة هذه، تصلح لأن تكون نموذجا نستنسخه على واقعنا وخصوصا في أمر التعايش الداخلي بين قوانا السياسية والاجتماعية، التي تشكل أساس دولتنا العتيدة.
قديما قيل.... "الحكمة يمانية"، وحديثا يجدر أن يقال كذلك.. الحكمة تونسية، فلنأخذ من تجربة هؤلاء الأحبة والأصدقاء التاريخيين لفلسطين في كل العصور، ما ارتضوه لأنفسهم من طريق، وبكل الحب نقول ومن صميم القلب.... ألف مبروك لتونس.