حاجتنا لمثقف أو مبدع يرتبط عمله بأحلام الناس بعيداً عن المؤسسات القمعية أمر واقع لا مناص منه. وقد نفكر بأن المثقف لا يصنع الثورة ولا يقودها, وإنما يقوم بالتمهيد والتحريض وبكتابة أدب أو حتى إنتاج تحليلات قد يقتل بسببها( غسان كنفاني, لوركا). بعبارة أخرى نقول: بإمكان المثقف لو أراد أن يلعب دوراً نقدياً هاماً يمهد فيه للثورة, ولا أدل على أهميته من أفعال مصادرة تمارسها أنظمة تنهج أكثر من سياسة قمعية غرضها تهميش مثقف حقيقي لصالح آخر تحتويه السلطة من خلال مؤسساتها. وهنا نفرق كما فعل هشام شرابي بين أولئك الذين يمتلكون وعياً اجتماعياً خلواً من دور اجتماعي يؤازره, وآخرين يمتلكون دوراً اجتماعياً خلواً من وعي اجتماعي, ليكون القصور سمة غالبة للحالتين؛ فالمثقف هو ذلك الذي ينصهر وعيه الاجتماعي مع دور اجتماعي يؤسس وظيفة متكاملة بين الفكرة والشيء.
ما تقدم لا يعني أن المثقف ينوب عن الآخرين بالكامل أو أنه فوقهم, بدليل ذلك الحضور الواسع الذي شهدناه في بدايات الربيع العربي لشباب عادي لم نعرف عنه انخراطاً في مشاريع إيديولوجية محددة القسمات, وكل ما شاهدناه خروج عفوي إلى الشارع. ولعل التجربة التونسية تكون شاهداً خاصاً على دور لعبته النخب النقابية التابعة للاتحاد العام للعمال في الالتحاق بالثورة في بداياتها. وكذلك هيئات المجتمع المدني من أطباء ومحامين وإعلاميين ونجوم سينما, ليكونوا روحاً واحدة تهدم ثقافة السلطة. وهو الخروج الذي انبثقت عنه أشكال ثقافية وفكرية جديدة استند فيها الشباب إلى وسائط جديدة, على رأسها فضاء الشبكة العنكبوتية. علماً أن (الآخرين) نفسها قد تنطبق عليهم لفظة مثقف في عرف غرامشي الذي يراهم كذلك ما دام عمل الواحد منهم متصلاً بحقل من حقول إنتاج المعرفة أو نشرها.
وهنا ننوه إلى أن وسائط تقنية مثل التي ذكرنا رغم إيجابيتها, فإنها قد تكون عمياء في بعض الوجوه في غياب الضابط الأخلاقي وضمور النزعة الإنسانية. نذكر في هذا السياق ما لاحظناه في تكنولوجيا اليوم من إمكانية نشر - عن سوء نية أو سوء فهم- من شائعات باطلة تكون سبباً لنشوب نزاعات وعندما تعرف الحقيقة يكون قد فات الأوان وتكون الجثث تملأ الشوارع, لنكون قبالة تقدم تكنولوجي متسارع يستلزم ثورة حقيقية في السلوكيات. في سياق كهذا تلتبس فيه المواقف يأتي دور المثقف كي يعمل ذهنيته وأدواته ليفضح لغة كاذبة خاطئة قد تبرر قتل الأبرياء, وتجعل منه فعلاً وطنياً مشرفاً, مستخدمة في ذلك وسائل إقناع مختلفة منها كما يقول جورج أورويل, الإيحاء بهوية قومية عبر لغة تراهن على مشترك جمعي محاصر بأخطار يبرر أفعال قتل متعمد يكاد لا يخلو منه يوم واحد من أيام العرب هي أشد وطأة من أيام عرفناها في الأزمنة الغابرة.
أختم بالتنبيه إلى ضرورة إنتاج كتابة عربية من أجل جمهور عربي؛ ولكي يتحقق هذا الأمر يتحتم على مثقفينا جميعاً العمل وفي ذهنهم أنهم سيصلون على الأرجح إلى قطاع واسع من الجماهير. أمر يستدعي استخداماً لغوياً ذا طابع جماهيري يتناسب وأنواع المنابر العديدة المتوافرة في عصرنا هذا.