منذ أن تفتحت عيناي على هذه الدنيا وأنا أعجب لحال أبا عبد الله جارنا وابن حارتنا، الذي أزهر بستان حياته اربعة أطفال وهم عبد الله وعيسى ووليم وطفلة لا تسعفني ذاكرتي لاستحضار اسمها اليوم، بعد نصف قرن من انقطاعي عن زيارتهم والإحتكاك بهم، وأعتقد أنه انتهى بها المطاف مضيفة في شركة خطوط طيران عربية، وكانت ربما الأولى من بين مضيفات الخطوط الجوية العربية قاطبة. كان أبا عبد الله فلاحا طيبا، وتاجرا حصيفا، وقمة في التواضع والإنسانية، والأهم أنه كان مغامرا في باقة أسماء اطفاله، التي كنت أرى فيها تناقضات وغرابة غير قابلة للتفسير من قبل ولد لم ير من الدنيا أكثر من حدود مدينته التي يترعرع فيها، وحكايات جدته. لا أذكر أن أبا عبد الله تأخر يوما عن مشاركتنا أفراحنا وأتراحنا وزادنا، ولا أذكر أن والدي رحهما الله تأخرا عن القيام بواجب الحفاظ على جيرة مقدسة، والسهر في بيته حتى يلعلع مؤذن الفجر. وأعتقد أنه بقي على هذا الحال الى أن استودعته يد الرحمن في بيت الخلود.
دارت الأيام والتحقت بالجامعة مطلع السبعينيات، لأكتشف بأن الفلسطيني يمكن أن يكون طويلا أو قصيرا، ابيضا أو حنطيا أو سواداوي، يساريا أو شيوعيا أو فتحاويا، مسلماً أو علمانيا، ... أو مسيحياً ... يا للهول، فقد كان أبا عبد الله، ذلك الفلاح الطيب الأصيل، مسيحي أيضا.
العبرة هنا بأن الفلسطينييون لم يعرفو ابدا خلال تاريخهم بنوع علاقتهم بربهم، وإنما بمدى ارتباطهم بوطنهم وقضيتهم ومساهمتهم في تقدم مجتمعهم، ودرجة إبداعهم. وعرفوا في القرن العشرين بتفوقهم علميا وفكريا وأدبيا، وساهمو في بناء دول عربية شتى في مشرقها ومغربها، ولعبوا دورا أساسيا في اقتصاديات الدول المختلفة، كحالات فردية وجماعية، والتاريخ خير شاهد على ما ارمي اليه.
ونحن نحتفل بعيد ميلاد سيدنا المسيح هذا العام، يجب أن لا نقتصر احتفالاتنا على استذكار مسيرة عيسى بن مريم عليه السلام، الذي غير وجه البشرية في مجاله، ولكن باستحضار تاريخ أولئك الفلسطينييون المسيحييون الذين أضافو نكهة خاصة لتاريخنا المشرق المضيئ، الذين لربما لم نفطن يوما الى أنهم لم يتمكنو من الإبداع والتميز لولا تلك الحاضنة الدافئة التي ضخت في عروقهم محبة الوطن والتضحية لأجله وحمله في القلب والروح، وهي منظومة القيم والتوجيه التي صنعت منهم ما كان، اسرة لا تختلف ربما عن أسرة ابا عبدالله جاري وابن حارتنا الطيب، ولكنها مجبولة بتعاليم وسلوك الفلسطيني الطيب المسالم عيسى بن مريم. واحتفاء بهم في حضرة "الراعي الصالح"، اسمح لنفسي باستذكار بعضهم واللائحة طويلة جدا، واعتذر سلفا عن إغفال اي منهم فقد لا يتسع المقال أو المقام، والأهم أن ترتيب الأسماء في قائمتي ليس له أي دلالة.
أبدأ بأبانا معلمنا خليل السكاكيني، المسيحي المقدسي المعلم ومربي أجيال فلسطين الذي ترك بصماته على الثقافة العربية، وأرسى قواعد التربية الحديثة، وقد نشر له إثنا عشر مؤلفا، واعتقل في القدس أثناء الحرب العالمية الثانية وسجن في دمشق، والتحق بقوات الثورة العربية، وهو كاتب نشيد الثورة العربية.
إدوارد وديع سعيد مُنظر أدبي فلسطيني-أمريكي. كان أستاذا جامعيا للغة الإنكليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة ومن الشخصيات المؤسسة لدراسات ما بعد الكولونيالية. كما كان مدافعا عن حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني، وقد وصفه روبرت فيسك بأنه أكثر صوت فعال في الدفاع عن القضية الفلسطينية
إميل حبيبي أديب وصحافي وسياسي عمل متفرغا في إطار الحزب الشيوعي الفلسطيني وكان من مؤسسي عصبة التحرر الوطني في فلسطين. ظل حبيبي مذيعا في إذاعة القدس، محررًا في أسبوعية مهماز، كما ترأس تحرير يومية الاتحاد. وفي حقل الأدب، نشر عدة أعال أدبية تعتبر من روائع الأدب الفلسطيني والعربي، وقد جعلت تلك الاعمال صاحبها أحد أهم المبدعين العرب.
د. جورج حبش: طبيب الأطفال وضمير الثورة الفلسطينية، أحد مؤسسي حركة حركة القوميين العرب ، مؤسس وقائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وند ياسر عرفات.
مي زيادة: أديبة وكاتبة مشهورة في الوسط الثاقفي والأدبي العربي، تتقن تسع لغات، ولها العديد من المؤلفات التي تعتبر مرجعا للمكتبة العربية.
يوسف خليل بيدس: رجل الأعمال الذي حقق نجاحا باهرا وأسس بنك إنترا وطيران الشرق الأوسط وغيره من النشاطات الإقتصادية التي كان لها دور مهم في تقدم لبنان والعديد من الدول العربية وخاصة الخليج، وكان له املاك وشركات يمتلكها حول العالم، وقد قال عنه الجنرال شارل ديغول انه كان يتمنى ان يكون لديه وزير مالية بقدراته وطاقاته.
عزمي بشارة: مفكر وأكاديمي وكاتب سياسي وأديب فلسطيني، وكان قائدًا للتجمع الوطني الديمقراطي ، وهو معروف بإنتاجه الفكري الغزير وأبحاثه المرجعية في مجالات المجتمع المدني، ونظريات القومية وما أسماه "المسألة العربية"، والدّين والعلمانية، وعمله في تجديد الفكر العربي، وقد وتعرض لهجمات من الأنظمة العربية وبعض وسائل الإعلام التابعة لها لاتهامه بلعب دورٍ مهم أيام الربيع العربي، ولوقوفه في صفّ الشعوب العربيّة ضد أنظمتها
حنان داود خليل عشراوي: ناشطة سياسية، أستاذة جامعية وأمّ لبنتين، اختيرت في 1991 لتمثيل منظمة التحرير الفلسطينية في محادثات مدريد ، وانتهى بها المطاف عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
الأب الدكتور عطا الله حنا. من أشهر المدافعين عن القضية الفلسطينية، والناطق الرسمي باسم كنيسة الروم الأرثوذكس في القدس وفلسطين، التي تعتبر أكبر الكنائس المسيحية، ممثل الكنيسة الأرثوذكسية في لجنة التراث التابعة لمجلس كنائس الشرق الأوسط، وممثل الكنيسة الأرثوذكسية في الحوار الإسلامي المسيحي.
هذه عينة فقط، ولا يتسع المقال لذكر مئات المبدعين من الفلسطينيين المسيحيين، أمثال حسيب صباغ وسعيد خوري، والشهيد كمال ناصر ... الذين نشرو بانتمائهم ونجاحهم رسالة فلسطين حيثما حلو.
في يوم ميلاد الفلسطيني عيسى بن مريم "كلمة الله" و"نور العالم"، لنا أن نفخر جميعا بأن لنا في بستاننا كل هذا الإبداع، الذي ربما لا نتوقف عنده في كل يوم، على الرغم من أنه ضارب في جذور هذه الأرض. لهم جميعا، ولأبناء شعبنا بمسيحيه ومسلميه وعلمانييه، أقول كل عام وأنتم بخير، و"الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي، وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ، وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ".