في الثالث والعشرين من كانون اول 2016، قبل عامين تقريباً حققت فلسطين، على ما قيل في حينه، انتصاراً عظيماً، إن لم يكن "فعلياً" فعلى الأقل من الناحية الرمزية بسبب القرار الحازم الذي أخذه مجلس الأمن في آخر أنفاس باراك حسين أوباما في البيت الأبيض. وعلى شاكلة قرارات مجلس الأمن جميعاً، هناك بند في النهاية يطلب من الأمين العام أن يتابع الموضوع الخاص بالاستيطان ووضع القدس...الخ وأن يزوده بتقرير كل ثلاثة شهور...الخ
ومثلما تعرفون فقد ذهب أوباما حمامة السلام السوداء، وذهب معه مشروعه الذي لم يتفطن لأهميته إلا في آخر عشر دقائق. مضت سنوات ثمان عجاف حصل في الأولى منها على "نوبل" للسلام بسبب خطاب جميل ألقاه في القاهرة ووعد فيه بأن يرعى الخروف إلى جانب الذئب، وبأنه سيملأ العالم عدلاً بعد أن ملأه آل بوش ظلماً وجوراً. بالطبع صدقناه من المحيط إلى الخليج ومن فتح إلى حزب الشعب إلى المبادرة إلى حماس. كنا بالطبع نريد أن نصدق. وهل كان لدينا خيار غير التصديق؟
القرار 2334 كان بلسماً تم دهنه بلطف لا حدود له على جراح الساسة الفلسطينيين المحبطين، وكان ترياقاً شفاهم من الألم كله وفتح بوابة الحلم على مصراعيها. كل ما تريده "فلسطين" كان متاحاً في القرار: "
إن مجلس الأمن، إذ يعيــد تأكيــد قراراتــه ذات الصــلة، بمــا فيهــا القــرارات (٢٤٢ ) و( ٣٣٨ ( و (446) و (452) و (465) و (476) و (478) و (1397) و (1515) و (1850)
وإذ يؤكـد مجـددا، في جملـة أمـور، عدم جواز الاستيلاء على الأراضي بالقوة،
وإذ يؤكد مجددا أن من واجب إسرائيل، السلطة القائمـة بـالاحتلال، أن تتقيـد تقيـدا صارما بالالتزامات والمسـؤوليات القانونيـة الملقـاة علـى عاتقهـا بموجـ ب اتفاقيـة جنيـف الرابعـة المتعلقـــة بحمايـــة المـــدنيين وقـــت الحـــرب والمؤرخـــة ١٢ آب/أغســـطس ١٩٤٩ ،
وإذ يـدين جميـع التـدابير الراميـة إلى تغـيير التكـوين الـديمغرافي وطـابع ووضـع الأرض الفلسـطينية المحتلـة منـذ عـام ١٩٦٧ بمـا فيهـا القـدس الشـرقية، والـتي تشـمل إلى جانـب تـدابير أخرى بناء المسـتوطنات وتوسـيعها ونقـل المسـتوطنين الإسـرائيليين ومصـادرة الأراضـي وهـدم المنـــازل وتشـــريد المـــدنيين الفلســـطينيين، في انتـــهاك للقـــانو ن الـــدولي الإنســـاني والقـــرارات ذات الصلة،
وإذ يعرب عن بالغ القلـق إزاء التهديـد الخطـير المحـدق بإمكانيـة تحقيـق حـل الـدولتين على أساس حدود ١٩٦٧ بسبب استمرار أنشطة الاستيطان الإسرائيلية."
هذا كله ورد في الديباجة/المقدمة، وبعدها لا يتوانى القرار عن تذكير إسرائيل بعدم شرعية الاستيطان أو تغيير الوقائع على الأرض في القدس...الخ صحيح أن القرار يطالب السلطة بوضوح بالالتزام ب "محاربة الإرهاب" الفلسطيني بالطبع لكنه في المقابل يتحدث بوضوح عن عدم شرعية الاستيطان أو تغيير الأوضاع في حدود الرابع من حزيران بما في ذلك القدس إلا عبر المفاوضات.
بالطبع المفاوضات كما يعلم أي مبتدئ في علم السياسة كما دشنته الجامعات ومراكز الأبحاث الأمريكية تعني رسم الوقائع التي يفرضها ميزان القوة على الأرض. لكن هل نستنتج أن أوباما والحزب الديمقراطي كانا بصدد تغيير "ثوري" في الموقف من قضية فلسطين أم أن الأمر كان مجرد مناكفة في آخر ربع ساعة نفذها أوباما نكاية بصفاقة نتانياهو وصلفه وغروره في تعامله مع الرئيس الأسمر؟
إذا جاز لنا أن نبالغ في التبسيط لقلنا إن الحزب الديمقراطي أنعم ملمسا في السياسة الخارجية من الجمهوري، لكن سياستهما في عناصرها الرئيسة تكاد تكون متطابقة. بالطبع هناك ارث طويل من "العداء" بين نتانياهو والديمقراطيين. انحاز بيل كلينتون لشمعون بيرس ضد نتانياهو في العام 1996 ، لكن بيبي تمكن من إلحاق الهزيمة بشمعون على الرغم من الفورة المتعاطفة التي تلت اغتيال اسحق رابين الذي حوله الاغتيال الى أسطورة. وأصبح شريكنا الأيقونة فيما كان يسميه الراحل عرفات: "سلام الشجعان".
لم يكن أوباما أقل انزعاجا من كلينتون فيما يخص نتانياهو، لكن حدود ما يستطيع تجاه ذلك ظلت قليلة في المستوى الواقعي. ربما بسبب ذلك فعل أوباما ما أمكنه لكي يختم حكمه بفعل رمزي يتناسب مع حصوله على نوبل في اليوم الثاني لدخوله البيت الأبيض. هناك ربح صاف آخر يتمثل في "معاقبة" نتانياهو على تعامله المهين مع الرئيس الأمريكي مستغلاً نفوذه في "أيباك" والكونغرس ذي الطابع الصهيوني الواضح.
غني عن القول إن القرار لم يكن معداً لكي يقص قطعاً من ارداف نتانياهو أو اسرائيل، ولذلك لم يكن من داع للمبالغة في تقديم التهاني العربية أو الفلسطينية. لكننا نتعلق بقش الانتصارات أيما تعلق.
كان بيبي على حق: أوباما صنع القرار 2334 ضد رغبة مصر والعرب في الخليج. وقد كان ذلك شأناً عابراً بالطبع، ولم يدم أكثر من الساعات القليلة المتبقية لأوباما في البيت الأبيض. بعدها عادت المياه تتدفق في النهر بقوة أكبر من أي وقت مع دخول ترامب "الشجاع" إلى البيت الأبيض ووصول الثلاثي محمد (ابن سلمان، ابن زايد، ابن راشد) إلى الهيمنة على القرار في الجزيرة العربية.
في الأحوال كلها لم يكن الرئيس الاسمر ليوافق على وضع إسرائيل تحت الفصل السابع أو إلحاق اي أذى جدي بها. لكنه كان يسمح لنا بممارسة الوهم إلى ما لانهاية بأن هناك طريقاً يؤدي إلى دولة فسطينية "مستقلة" في حدود العام 1967 عن طريق المفاوضات المباشرة بين "إسرائيل" و "الفلسطينيين". كانت الدولة العبرية ستبتلع ما تبقى من فلسطين على مهلها قطعة قطعة ودون أن تصاب بالتخمة أو صعوبات البلع.
ترامب ونتانياهو يريدان ابتلاع فلسطين علناً بقضمات كبيرة دون مراعاة أصول الاداب و"الديبلوماسية" المهذبة. يظن الرجلان أن الوضع العربي الخليجي/المصري يسمح بذلك فعلاً لا قولاً.
سحب ترامب/نتانياهو من أحمد مجدلاني ورياض المالكي أية فرص للتظاهر بأن هناك عملية "سلام" لا بد من مواصلتها أو إحيائها ...الخ هذا ما توهمناه في بداية الأمر، لكن يبدو أن حيلة الرجلين –وغيرهما من خبراء المفاوضات- لا يعييها شيء. وقد عاد مجدلاني والمالكي وغيرهما إلى تكرار القول بأن حل الدولتين ما يزال قائماً، وأن فرصه قوية بشرط وجود راع لعملية السلام. نادينا منذ بعض الوقت بضرورة الإعلان عن شغور وظيفة "راعي" للتسوية. كنا نمارس الدعابة، لكن يبدو أن العديد من المسؤولين في السلطة الفلسطينية يبحثون عن راع للعملية بجدية تامة، وهم يظنون أن من الممكن تشجيع روسيا أو الصين على القيام بذلك.
في هذه الأثناء تواصل إسرائيل ألعابها المعتادة المتصلة بقرض ما تبقى من فلسطين، ولسنا ندري هل سيظل شيء لكي نتفاوض عليه مع إسرائيل بعد عقد من الزمن أم أن السبت سيكون قد دخل في "أست" الفلسطيني هذه المرة مع خراب مالطا والبصرة وكل ما يتصل بفلسطين أرضاً وشعباً.