الإثنين  25 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"الحدث" تختار شخصية فلسطين لعام 2018

2019-01-01 11:25:30 AM

 

أسرة تحرير الحدث

 

إنه كريم يونس

عندما اخترنا في صحيفة الحدث أن يكون كريم يونس الشخصية التي يحقُ لها أن تُتوج كشخصية محتفى بها عن عام منصرم، أردنا أن تتجاوز الكلمات معايير "إسرائيل" في النظر ليونس ورفاقه الأسرى من داخل فلسطين التاريخية على أنهم شأن إسرائيلي محض، وأردنا أن نتجاوز كل الاستجابات الضمنية المؤسفة لهذا المبدأ، المتساوقة مع الترويج لفكرة "الإرهابي المحتجز" بدلا من "المقاوم الأسير" والتي ترجمت عمليا من خلال القبول باستثنائه من صفقات التبادل و"إفراجات حسن النوايا".. إنه اعتذار لـ 36 عاما من الأسر والتجاهل، واتهام لـ 36 عاما من الشعارات والمتغيرات التي بدأت تأخذ منحى متسارعاً تلمسه يونس وعبر عنه في آخر تصريح صحفي نهاية العام 2018.

بعد 35 عاما من الاعتقال، يتغير مطلب كريم يونس الرئيسي من تحريره من الأسر، والإفراج عنه، إلى تحرير المؤسسات المساندة للأسرى من القيد السلطوي غير المفهوم أحيانا والقيد الاحتلالي المفهوم دائما. 

إنها مطالبة تكشف عن خطر يتلمسه الأسير من تهميش قضية الأسرى، وطردها من المركز ومن محوريتها في إبقاء الصراع معنوناً بمستعمِر ومستعمَر، ليقف يونس بجسده الضعيف وسنينه الستين جدارا استنادياً خلف الجدار الأخير (مؤسسات الأسرى) ليسنده من تراكم الضربات ممن يفترض أنهم الأمناء على قضية الأسرى.. يعتقد وهو العارف، أن هذا الجدار يُراد له أن يُهدم بإملاءات أمريكية إسرائيلية، بعد أن سرقت معايير الاثنين كل هذه السنين من عمره لكونه من الداخل التاريخي فلسطينياً. 

يدرك يونس أن وزارة الأسرى هي الوزارة السيادية الوحيدة من بين كل وزارات السلطة، التي تفرض وجودها الجغرافي دون أرض، لأنها تهتم بالفلسطيني بغض النظر عن تقسيمات الاحتلال الجغرافية، ففي حين تمارس كل الوزارات عملها في مناطق السلطة، كانت وزارة الأسرى ترعى الفلسطيني ابن حيفا ورام الله وغزة.  

إنها الزنزانة، لا شيء غيرها، تلك التي تكسر المشهد المقدس لدوام حال المُستعمِر بصمودِ المستعمَر، ليبهت الشرفُ المُدّعى، ويصمِد الأصلُ في الجذور.

كريم يونس قصة أخرى

كريم يونس قصة أخرى؛ شكل جديد من أشكال الحضور المشتبك مع الغياب والحظ الأخلاقي للفصائل الفلسطينية والسلطة الفلسطينية. ومن خلال وجوده الوسيط، كتابا ومقالة وصورة ومساحة مليئة بالعذاب والتساؤلات، يفتح المناقشة من جديد، من وراء المواجهة والحديد، بسؤال واحد غير معقد، "هل أنا فلسطيني"؟.

وتبحث الحاجة صبحية التي تجاوزت الثمانين عاما وابنها كريم الذي تجاوز الستين، عن إجابة منطقية لهذا السؤال المؤسف، بعد كل صفقة تبادل وبعد كل "إفراجات حسن نوايا" وبعد كل صورة غلاف في مطلع كل سنة على إحدى الصحف، منذ 36 عاما.

الولادة والنشأة

ولد كريم يونس يوم 24 ديسمبر 1956 في قرية عارة في الداخل الفلسطيني المحتل. درس المرحلة الابتدائية في قريته عارة، ودرس الثانوية بمدرسة الساليزيان في الناصرة، والتحق بقسم الهندسة الميكانيكية في جامعة بن غوريون في النقب. خلال دراسته الجامعية تعرف الأسير يونس على عدد من قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية، وانتمى لحركة فتح وسافر إلى إيطاليا وهناك تم تنظيمه بشكل فعلي لمجموعات فتح العسكرية، وأوكلت له مهمة تزويد المجموعات المسلحة التابعة للحركة في الداخل بالسلاح.

                       كريم يونس الثاني من اليسار، صورة تجمعه مع أشقائه

في ديسمبر 1980، كان الضابط في الجيش الإسرائيلي "أبرهام برومبرغ" في طريقه من إحدى قواعد الجيش الإسرائيلي في الجولان إلى مستوطنة "زخرون يعقوب"، عندما داهمته سيارة يقودها كريم برفقة قريبه ماهر يونس، فأطلق ماهر النار على الضابط "برومبرغ" وأصابه في رأسه، ثم ترجل الاثنان وصادرا سلاحه. بعد العثور على "برومبرغ" بيومين، أُبلغت عائلته بخبر وفاته، وبدأت عمليات تحقيق استخباراتية إسرائيلية بحثا عن أشباح فلسطينية حققت هدفها وانسحبت بسلام.

                                  الضابط الإسرائيلي القتيل "برومبرغ"

مفارقة وتاريخ

المسافة بين مكان سكن الأسير يونس والضابط القتيل "برومبروغ" عدة كيلومترات فقط، وكأن قدر تراب حيفا أن يجمع قسرا بين يونس الأصلاني و"برومبرغ" البولندي الطارئ، أحدهما قادم من عمق التاريخ مع ثبات الجغرافيا، والآخر قادم من اللاتاريخ وكل مفارقات واختلافات الجغرافيا.  

في ثلاثينيات القرن الماضي، وصل الحاخام البولندي "أبراهام برومبرغ" إلى مدينة حيفا في فلسطين بعد رحلة تنقل فيها بين ستكهولم وأمستردام وبروكسل، محاولا إقناع اليهود بالمجيء إلى فلسطين واستعمارها. قبل قدومه لفلسطين، وتحديدا في عام 1930، كان الحاخام "برومبرغ" قد حصل على منصب كبير بين الحاخامات اليهود البولنديين، وكان من أكثر الحاخامات سعيا لتجنيد النصوص التوارتية لصالح الحركة الصهيونية، خاصة وأنه كان أحد المفسرين المعتمدين للتوارة في الوسط الحاخامي في بولندا، وتركزت محاولته التأويلية والعملية على إقناع  اليهود هناك بضرورة الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها.

لا تتفاجأ كثيرا عندما تكتشف أن الضابط الذي قتله كريم يونس ورفاقه من سلالة هذا الحاخام الاستعماري، وتتضح لك المعايير أكثر حينما تقرأ التقرير العسكري الذي نشره الجيش الإسرائيلي بعد مقتل"برومبرغ"، وجاء فيه أن القتيل ترك تعليمه وتجند في الخدمة العسكرية في سن مبكر ليخدم في سلاح المدرعات في الجولان، إيمانا منه بضرورة القتال في الجيش الإسرائيلي، فلم يسجل في ملفه أي غياب خلال خدمته العسكرية، وأنه خدم  في سلاح المدرعات في مرتفعات الجولان.

الاعتقال.. استمرار الملاحقة

في 6 يناير 1983 اقتحم جيش الاحتلال كلية بن غوريون في النقب المحتل، واقتادوا يونس من مقاعد الدراسة إلى زنازين الشبح والتحقيق. وبعد جولات طويلة من التحقيق، حكمت المحكمة الإسرائيلية عليه وعلى رفيقه ماهر بالإعدام شنقا، لكن الاحتلال عاد وحكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة.

في عام 1985 جرت صفقة تبادل للأسرى بين الجبهة الشعبية القيادة العامة والاحتلال، أُفرج بموجبها عن 1187 معتقلا مقابل الإفراج عن ثلاثة جنود إسرائيليين. كان يونس يخطط ورفاقه الأسرى المحررين في الحافلات التي تستعد للانطلاق من قلب الأشياك إلى الحرية، للحياة والأجيال، بدءا من قبلة يد الحاجة صبحية.. فجأة، يصعد عدد من السجانين الحافلة، نادوا باسمه، ردّ فرحا ظانا أنهم يقومون بالتأكد من هويات المفرج عنهم، قالوا له: "أنزل من الحافلة.. لن يتم الإفراج عنك"، فاستمرت لحظات العمر المعذّب بلا انقطاع.

وأصبح يونس من بعدها رمزا لتنكر الإسرائيلي لوعوده، ولم تستطع الفصائل حتى آخر صفقاتها التي جرت عام 2011 من معالجة هذه القضية، التي لا تخص يونس وحده، بل أسرى الداخل المحتل، حيث تتعامل معهم "إسرائيل" على أنهم "مواطنون" لأنهم يحملون الجنسية الإسرائيلية، وبالتالي تتذرع "إسرائيل" في كل مرة بأنهم شأن إسرائيلي داخلي. وهذا الفشل في الإفراج عن يونس ورفاقه لم يلاحق الفصائل فحسب، بل السلطة كذلك، حيث كان المقرر أن يفرج عن يونس في عام 2014 ومعه 30 معتقلا من معتقلي ما قبل أوسلو، ضمن اتفاق بين السلطة و"إسرائيل" برعاية أمريكية، إلا أن "إسرائيل" أوقفت الإفراج عنه وعنهم مرة أخرى.

                                             كريم يونس قبل اعتقاله بفترة وجيزة عام 1980

يونس والشاباك والإعلام الإسرائيلي

في غمرة الحديث عن الضغط الأمريكي على "إسرائيل" في عهد أوباما للإفراج عن الدفعة الرابعة، بدأت عائلة الضابط القتيل "برومبرغ" بتجييش الرأي العام الإسرائيلي ضد الخطوة الإسرائيلية التي كانت متوقعة في حينها. وقامت العائلة بإرسال الرسائل التحذيرية إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، من مغبة القيام بخطوة كهذه، وعندما تأخر نتنياهو في الرد على رسالتهم وقبل سفره لواشنطن للقاء الأمريكيين في 2013، كتب أحد أقارب الضابط القتيل على صفحة نتنياهو على الفيسبوك: " السيد رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو... حتى يومنا هذا، لم تزعج نفسك بالرد على رسالتنا حول مطالبتنا بعدم الإفراج عن الأسرى الذين قتلوا الضابط برومبرغ.. نعود وندعوك بعدم الاستسلام لمطالب الولايات المتحدة والرئيس محمود عباس بالإفراج عن هؤلاء القتلة.. لدينا وثيقة أصدرها الشاباك في عام 2004 وتؤكد بشكل صريح على أن كريم وماهر يونس من الأسرى الأكثر نشاطا في الجوانب الأمنية الخطيرة في السجون.. ندعوكم مرة أخرى، لعدم الإفراج عن هؤلاء القتلة.. اعتنوا بجنود الجيش الإسرائيلي في الماضي وفي الحاضر، واتركوا هؤلاء القتلة خلف القضبان".

عائلة القتيل "برومبرغ" ليست وحيدة في التحريض على الأسير يونس، بل إن الإعلام الإسرائيلي يراقب تفاصيل حياة يونس وبيته ومن يزور عائلته ومن لا يزور.. في 9 سبتمبر 2017، شنت وسائل الإعلام الإسرائيلية هجوما حادا على عضو اللجنة المركزية في فتح اللواء جبريل رجوب لزيارته عائلة الأسير يونس واللقاء بوالدته، واتهم الإعلام الإسرائيلي الإدارة المدنية الإسرائيلية بمنح تصاريح دخول لأفراد من القيادة الفلسطينية دون متابعة الأماكن التي يتوجهون إليها في الداخل المحتل، وهو ما اعترفت به الإدارة المدنية مؤكدة عدم علمها بزيارة الرجوب لوالدة الأسير يونس.

قبل زيارة الرجوب بعام، كان الإعلام الإسرائيلي قد شن هجوما آخرا على الرئيس محمود عباس بسبب استقباله لوالدة الأسير يونس الحاجة صبحية، واعتبر الاستقبال دلالة على دعم الرئيس لـ"الإرهابيين".

                       زيارة جبريل الرجوب لمنزل الأسير كريم يونس عام 2017

االله ليس فصيلا ولا سلطة

ماذا يتوقع من تجاوز الثمانين؟ أي شعور يلازمه ولحظات ما تبقى من عمر تترنح بيد القدر؟.. لا تزال الحاجة صبحية تؤمن بأنها لن تغادر هذه الحياة دون اللقاء بكريم المدلل، كريم ثمرة زواجها الأول، وابنها الذي حملته من مدينة لمدينة حين بلغ من العمر عاما واحد.

حتى وإن يئست من كل الفصائل والمنظومات السياسية، إلا أنها تؤمن بأن الله ليس فصيلا ولا سلطة، وغير مستعد لمواجهة وجهها الحزين بلا ثمن وبكل التبريرات والأعذار.. مؤمنة أن الله يناور في ما تبقى من عمرها مع الأشياك والقضبان، مؤمنة بانتصار مناورات الله، مؤمنة بأنها ستنتصر في اشتباكها الخطير مع اللحظات.

تؤمن الحاجة صبحية أكثر أن فلسطين لا تقبل القسمة ولا تقبل المعايير الاستعمارية، وتعتقد بأن كريم ابن حيفا هو نائل ابن رام الله وفارس ابن غزة.. تؤمن بما لا يؤمن به سياسيو واقعية النفق الحلزوني المظلم، الذي وبحسب تعبير أحد الشهداء يدخله الثائر واقفا ويخرج منه راكعا.. تؤمن أن كريم ليس منهم ولن يخرج راكعا، كما لم يخرج جائعا من غابة الجوع في إضرابه الأخير، وعاد منتصرا بذاته رغم تآمر المحيط.

 

                 صورة تجمع الأسير كريم يونس ووالدته الحاجة صبحية في سجن هداريم عام 2017

 

 

   رسالة بعث بها الشهيد ياسر عرفات إلى الأسير كريم يونس عبر إحدى جمعيات الداخل خلال مفاوضات التسوية

 

إنه المستثنى من وقتهم، من هم أمام القضبان حرساً في السجن، وآخرون خارجه يقايضون لا يتفاوضون باسمه.

المتممُ لعلامات نصر القضية.

غير المنهزم لضيق الواقع، وانفلات عروة الاتصال بين المحسوس والملموس.

الأسير كريم يونس، وكل أسير فلسطيني في سجون الاحتلال الإسرائيلي.