ينشغل الكتاب والمفكرين والمثقفين وخبراء الآثار والمؤرخين والسياسيين العرب وغيرهم في إعادة كتابة الرواية الصهيونية أو التوراتية وعلاقتها في الواقع محاولين التأكيد أن فلسطين ليست هي المسرح الحقيقي للرواية التوراتية وان تلك الأحداث قد تكون حدثت في اليمن أو غيرها ويبذل أولئك جهدا منقطع النظير في سبيل إثبات روايتهم هم ردا على الرواية الصهيونية والأمثلة على ذلك كثيرة.
الكثيرين يؤكدون أن اليمن هي ارض التوراة ويوردون دلائلهم على ذلك وقد بين المؤرخ فاضل الربيعي وهو الأكثر انشغالا بهذا الموضوع إن "اللغة الرسمية اليوم في إسرائيل تُسمّى العبرية الصنعانية نسبة إلى صنعاء أو العبرية السبئية". أما الباحث اللبناني فرج الله ديب فيتساءل في أطروحته " التوراة العربية وأورشليم اليهودية " فيما اذا كان المسيح قد حضر الى الجزيرة العربية وتحديدا الى اليمن وهو يسعى للقول ان الجزيرة العربية هي ارض التوراة وهو ما سبقه بالقول به اللبناني كمال صليبي في كتابه الذي يحمل العنوان " التوراة جاءت من جزيرة العرب "
فرج الله ديب يقدم دلائل وإثباتات متعددة من أسماء الأماكن في اليمن محاولا أثبات أنها ارض التوراة فبرأيه أن " آزال" و"حضرموت" هما اسمان لاثنين من أبناء النبي نوح، و"آزال" هو اسم عاصمة اليمن حتى القرن السادس الميلادي. كما أن إبراهيم رحل من "أور قاصديم"، أي من بلاد بني قاصد، وهي اليوم منطقة "يافع السفلى" في محافظة لحج الجنوبية، إلى "مصر"، وهي منطقة بين مدينتي "يريم" و"إب" وسط اليمن. وهذا يعني أيضاً أنّ "مصر" المذكورة في التوراة ليست هي الدولة العربية الحالية إذ تناسى الفكر الغربي، بحسب ديب، أن مصر الدولة الحاضرة كان اسمها التاريخي بلاد القبط وليس "مصراييم ".
كمال صليبي وفي مقابلة مع مجلة دير شبيغل الألمانية يقول "اليهود لم يقطنوا أرض "فلسطين" وإنما مكثوا في مناطق من بلاد عسير مثل تهامة والسراة، ولم يأتوا إليها من مصر، لأن «مصرايم» المذكورة في التوراة هي قرية "مصرمة" الموجودة في جنوب غرب الجزيرة العربية"
بعض المفكرين اليهود أيضا ساهموا في تعميق مثل هذا البحث وطرح الأسئلة حول حقيقة مسرح الرواية التوراتية أو ارض التوراة فعالم الآثار اليهودي زئيف هرتسوغ يقول " الاكتشافات الأثرية الحديثة تتناقض تماما مع القصص التوراتية " ويتابع " علينا أن لا نواصل البحث عن دليل هو غير موجود أصلا " وهو هنا لا يسعى لإيجاد دليل او غير معني بالأمر ويبرر ذلك بقوله " أنه بعد مرور سنين عديدة على تأسيس إسرائيل، تطورت في البلد ثقافة إسرائيلية وأصبح الإسرائيليون في موقع يؤهلهم لأن يبحثوا عن الدليل بطريقة نقدية وليس القبول بالأساطير المسجلة في التوراة واعتبارها حقائق تاريخية " فهو اليوم لم يعد بحاجة لرواية بعد ان أصبح لديه ثقافة إسرائيلية وبالتالي لم يعد يخشى من نقد التوراة ونصوصها او البحث عن علاقتها بالحقيقة او تحويل الحقيقة للتوراة بدل تحويل التوراة للحقيقة ليصبح السؤال من الناقل للآخر المكان للتوراة أم التوراة للمكان عبر تحويل الزمان ذاته او لي عنقه ليخضع للرواية بدل لي عنق الرواية لتخضع للواقع المروي زمانا وفي الحالتين مهزلة وسواء صدقنا الرواية التوراتية عن القدس الفلسطينية او القدس اليمنية فنحن نكرس بشكل غبي ما تسعى إليه الصهيونية من إثبات حقها على الأرض ولن يجدي الاختلاف في الروايات عندها فلكل روايته وهو ما تريده إسرائيل والصهيونية السياسية.
الدكتور محمود أبو الهدى الحسيني وفي خطبته في 10/6/2010 في المسجد الأموي الكبير في حلب يقول " والقرآن الكريم تحدّث عن خروج بني إسرائيل من مصر، وبيّن أنهم دخلوا في بحر، وأنهم توجّهوا شرقًا، ثم جاء الحديث عن سليمان عليه الصلاة والسلام مُفصَّلاً يبيّن فيه ربّنا تبارك وتعالى أن سليمان عليه الصلاة والسلام قد أسس مملكة في جنوب الجزيرة العربية " ويذهب الدكتور الحسيني أكثر من ذلك في تقديم البينات في خطبته تلك نقلا عن صحيح مسلم " يقول ابن عباس كما في صحيح الإمام مسلم:
)سِرْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَمَرَرْنَا بِوَادٍ) بين مكة والمدينة، (فَقَالَ: أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ فَقَالُوا: وَادِي الأَزْرَقِ، فَقَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاضِعًا إِصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ لَهُ جُؤَارٌ إِلَى اللَّهِ بِالتَّلْبِيَةِ مَارًّا بِهَذَا الْوَادِي (وفي رواية أخرى في صحيح مسلم أيضًا ( فَقَالَ: أَيُّ وَادٍ هَذَا؟ فَقَالُوا: وَادِي الأَزْرَقِ، فَقَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السلام هابطًا من الثَّنِيَّةِ وله جُؤار إلى الله بِالتَّلْبِيَةِ "
في مدونة عمار السامر وبعنوان نظرة قرآنية في العهود التوراتية يكاد لا يترك أرضا في بلاد الشام وما بين النيل والفرات وإلا ويقدمها على أنها ارض الميعاد وانقل هنا ما نصه كما ورد في المدونة المذكورة على الشبكة العنكبوتية " يفرق اليهود بين ما يسمى بـ (أرض إسرائيل) ودولة (إسرائيل المعاصرة) فأرض إسرائيل تذكر التوراة حدوداً تفصيلية كبيرة لها تتجاوز حدود فلسطين. ففي سفر التثنية: "الرب إلهنا كلمنا… تحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من العربة والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعانيين ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات… ادخلوا وتملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم"[94]. وفي سفر التكوين: "في ذلك اليوم قطع الرب مع أبرام ميثاقاً قائلاً . لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات…"[95]. وكذلك في التوراة أن الرب كلم يشوع قائلاً: "فالآن قم أعبر هذا الأردن أنت وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لهم أي لبني إسرائيل . كل موضع تدوسه بطون أقدامهم لكم أعطيها كما كلمت موسى . من البرية ولبنان هذا إلى النهر الكبير نهر الفرات جميع أرض الحيثيين وإلى البحر الكبير نحو مغرب الشمس يكون تخمكم"[96]. وهناك تفصيل أكبر في سفر العدد: 34/1-12.
وهذه العهود التي تعطيهم كل هذه الأراضي الشاسعة تصطدم مع ما يسمى الآن بدولة إسرائيل لأنه ليس منها شيء خارج حدود فلسطين بل وفي جزء من فلسطين وهذا يقودنا إلى التفرقة بين ما يسمى بـ (أرض دولة إسرائيل) و(أرض إسرائيل) أو (أرض الميعاد). فما يسمى بدولة إسرائيل هو هدف مرحلي عند اليهود يتناسب مع الظروف الراهنة للعالم وبالذات ما هو داخل فلسطين وما حولها من الدول. وبعبارة أخرى هذه الدولة الآن تعتبر خطوة تكتيكية ونواة (أرض إسرائيل) أو (أرض الميعاد) وهي المذكورة في عهودهم التوراتية، وقد سبق أن ذكرت في (البعد العقائدي اليهودي في فلسطين) تصريحات زعمائهم في هذا المعنى وأضيف هنا ما قاله إسرائيل شاحاك: "ويجري التداول اليوم بعدد من الصيغ المتباينة لحدود أرض إسرائيل التوراتية التي تفسرها مراجع حاخامية كحدود تعود إلى الوضع المثالي، للدولة اليهودية. والصيغة الأبعد أثراً تشتمل ضمن هذه الحدود: كامل سيناء، وجزءاً من شمال مصر وحتى ضواحي القاهرة في الجنوب، وكامل الأردن وجزءاً كبيراً من العربية السعودية، وكامل الكويت وجزءاً من تركيا (حتى بحيرة فان) في الشمال، وقبرص في الغرب"[97]. "
هناك خطر كبير في سعي الكثير إلى نقض الرواية الصهيونية لأرض التوراة بالبحث عن بدائل لهذه الرواية لتحويلها إلى حقيقة وما كتاب فاضل الربيعي مثلا " فلسطين المتخيلة.. أرض التوراة في اليمن القديم " إلا نموذج يندرج في هذا الإطار وهو تقديم رواية بديلة بدل نفي الرواية من أصله وعدم الانشغال بإثبات عكسها.
المنشغلين بتصحيح الرواية التوراتية وعلاقتها بالمكان يساهمون بدراية أو بدون دراية في ترسيخ الرواية التوراتية بتحويل الصراع من نفي الرواية وإلغائها وانعدام علاقتها بالحق والواقع وتطور الأمم إلى تصحيح الرواية وهو ما يعني وقوع في الفخ الصهيوني نفسه بتأكيد وجود الحق مع تعديل المكان وهو ما يعني البحث عن صراعات فيما بيننا فقد يأتي باحث يمني او سياسي يمني ليقول للربيعي أن اليمن عربية فماذا سنرد عليه وهل يجوز القبول بالروايات الأخرى عن أن للرواية الحقيقية علاقة بالأرض ما بين النهرين النيل والفرات او ما بين النهرين مثلا واعتباطا دجلة والفرات ا وان ارض التوراة هي الجزيرة العربية او بلاد الشام او كلاهما وإذا أتينا بإثباتات عجيبة تعيد الرواية إلى ارض النيل والفرات وبلاد الشام واليمن والجزيرة العربية فسنكون كمن قتل نفسه بيده وألغى حقه بيده.
مهزلة السقوط في نقد الرواية التوراتية أيا كانت هي إمعان في التماثل مع الرغبة الصهيونية بالبحث عن الحق التاريخي وتأكيد علاقة رواية التوراة مع المكان أيا كان هذا المكان فالقول بان المكان اليمن ليس بعيدا عن القول انه الأرجنتين او أوغندا او مصر او العراق وغيرها وغيرها ونحن هنا كمن نسعى لجعل الجميع يقبل بان تكون الرواية الصهيونية هي الرواية الحقيقية ويصدقها بدل أن يصدق رواية بعض المنشغلين العرب الساعين لإيجاد بدائل لفلسطين كوطن للتوراة وأهلها لا السعي للكفاح لإلغاء الرواية أصلا وانعدام الحق فيها لأحد, وبالتالي فان الانشغال بعلاقة الزمان بالمكان وناسهما سيقود بنا للإتيان بحقوق عجيبة للصهيونية ونقدم لها ما تسعى لإثباته من الحق لها صحيح والخلاف على المكان لا أكثر في حين أن يما يجري على الأرض لا علاقة له بالدين ولا بالتوراة بل هو دين الامبريالية وقداسة أهدافها من أوجدت رواية توراتية واستندت إليها في تحقيق مصالحها بالسيطرة على المنطقة من خلال زرع الشرطي الامبريالي إسرائيل عبر ذر الرماد بالعيون بحكاية توراتية لا تغني ولا تسمن من جوع وعلينا قبل غيرنا عدم الانشغال بها وإلا سنكون كمن يشارك في نقاش حقه في وطنه من عدمه, وبالتالي فان علينا ان لا نشارك في مهزلة الحق الديني او التاريخي فحق الشعب الفلسطيني بأرضه لا يأتي بتقديم اليمن بديلا للرواية الصهيونية ولن يتم تحرير فلسطين بإرسال اليهود إلى اليمن باعتباره مسرح التوراة برأي البعض فالنص التوراتي صدق أم لم يصدق وبمعنى آخر كان حقيقيا أم محرفا هو نص الهي ولا علاقة له بالمكان فالأديان جاءت للبشر لا للأمكنة.