ليس من باب التندُّر القول إن فحص سلامة النظر هو الإجراء القانوني الأكثر أهمية لتجديد رخص القيادة والمركبات، إذ تقع على العين المهمَّة الأصعب في القيادة الآمنة، وتجنُّب الحوادث القاتلة، في وسائل المواصلات، الخاصة والعامة. لكنَّ البعض يأخذون هذا الإجراء الاحترازي، كأمثولة ساخرة لغرض التندُّر السياسي، زاعمين أن من الأجدر تطبيق هذا القانون على من يقودون شعوباً بأسرها، إذ ينبغي أن يخضعوا للإجراء ذاته، للتحقق من سلامة حواسهم، وقدراتهم العقلية، ومثلهم وسائل حكمهم، وأجهزة سلطتهم: التشريعية والقضائية والتنفيذية، لتجنُّب وقوع كوارث تاريخية كبرى.
لكنَّ المفارقة أن الشعوب، وهي تمنح رخص القيادة الشرعية لزعمائها، وقد تقدَّمت بهم السن، تطوِّر، وإيِّاهم، أمراضاً ذهنية وحيوية مركَِّبة، تدفعها إلى التساهل بشأن صلاحيَّة العربة وسائسها، أهمها «متلازمة العين العارية». فحين تستشري حالة الكسل السياسي لحواس الشعوب في مراقبة حواس قادتها، ينقسم النقد إلى تيارين: براغماتيٌّ، تصنعه السلطة على عينها، ليقوِّم أداء السلطة بمنطقها، ويحرسها بأدواتها؛ وثوريٌّ، صنيع ذاته، تحاصره السلطة بالتشكيك والنبذ، فينحال، تدريجياً، إلى تكرار ممجوج ليس أيسر من وقوعه في اللامبالاة، بوصفها أعلى أشكال المبالاة. وفي الحالتين، تظل الخطورة قائمة في انحيال النقد، الذي لا يترتب عليه تحرُّك ثوري، إلى فعل «تطبيعيٍّ» للسلطة: يأخذ شكل النفاق أو السخرية. بمعنى أن عين المنافق-المتواطئ مع السلطة، وعين الساخر-الساخط عليها، تحققان شرط «العين العارية» التي توظِّفها السلطة لتثبيت أركانها.
حضور العين وغيابها
على الرغم من عدم اتساع المقام لتمرين بلاغي حول «العين العارية» في العربية، إلا إن الضرورة تقتضي التَّأمل في معنيين: الأول، بسيط، مطروح في الطريق، كثير التداول، يحيل إلى رؤية الإنسان بعينه المجرَّدة (بوصفها أداة النظر) لما حوله، حيث تتسم العين العارية بالفاعلية لارتباطها بأداء سلطوي تمارِسُ فيه الذات الناظرة «فاعليَّتها» على موضوعها. ويلحق بهذا المعنى بعض الاستخدامات التي تحيل إلى السلطة، على اختلاف شخوصها: رئيس البلاد، وطليعة الجيش، وشريف القوم، وما يُصنع على العين يكون في كنفها، وذو البصيرة، وحتى الجاسوس…كما تُستخدم العين العارية، في ثقافات أخرى، للدلالة على أن العين المجرَّدة قادرة على التقاط لغة جسد الآخر وتفسيرها دون توسُّل أي من المستويات اللغوية.
أما المعنى الآخر، فمركَّب، دونه الطريق والسابلة، نادر التداول، يحيل إلى الإنسان عينِه (بوصفها الذَّات الناظرة)، لترى وفقاً للشروط التي تكتنف عينَ-صاحبِها. وهذا معنى أقرب إلى المقولة الفقهية لـ«العين العارية»، أي العين «الـمُعارَة» بوصفها الشيء الذي تتم إعارته في نظام المعاملات، ليتم إرجاعها بعد إتمام مهمتـ«ها»، أو بعد تحقق «المنفعة»، لمن استعارها. هنا، تتسم العين العارية بالمفعولية على اختلاف شخوصها: إذ العين ذات الشيء ونفسه، لمن يشتري بالعين لا بالدَّين، وهي الحاضر من كل شيء، إذ يشير المثل-النصيحة على المرء ألا يطلب أثراً بعد عين «لمن ترك شيئاً يراه ثم تبع أثرَه بعد فَوْتِهْ»، وكذلك القول إن شخصاً ما هو «عبدُ عين» و«صديقُ عين»، أي إنه يخدِم أو يصادِق وقت ما تراه، ثم يكون مآله الزوال.
هنا، قد تسعف مقولة الشاعر ابن الأحنف: «نزفَ البكاءُ دموعَ عينك، فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرارُ؛ من ذا يعيرك عينه تبكي بها، أرأيت عيناً للبكاء تُعارُ؟» في تبيان البنيَّة المتحوِّلة، سياسياً، لوظيفة العين البيولوجية والأنطولوجية، وهي الإبصار والبكاء. ذلك أنه لا يصحُّ أن تُستعار العين للبكاء، اللَّهم في الأنظمة القمعية (كما حدث إثر رحيل « كيم جونغ إل » دكتاتور كوريا الشمالية الأسبق، ووالد الدكتاتور الحالي « كيم جونغ أون »، إذ حُكم على الذين «لم يحزنوا كما ينبغي» بستة أشهر من الأعمال الشاقة في معسكرات التدرُّب على «الوطنية» في العام 2011)، لكنَّها تُستعار لأداء مهمة سياسة في تأكيد الواقع أو إنكاره.
ومن يستطيع أن يدجن العين هو السلطة، سواء على نحو مباشر لمن سَهُل تدجين حواسه، أو عبر وكلاء سياسيين أو اجتماعيين أو ثقافيين أو اقتصاديين، لمن كانت حواسُّهم أكثر استعصاءً. وإذا كانت الحواس هي بوابات الوعي الفردي، في نظريات الفكر الكلاسيكية، وكان ثمة وعي ولاوعي، فردي وجمعي، يتمُّ التلاعب بهما، فما لنا لم نفكِّر يوماً، وعلى نحو جدِّي (بعيداً عن إيمانيَّات العجائز و«خداع الحواس» لدى مجتمع الفلاسفة من الغزالي حتى بورديار) في ماهية الحواس الجماعية، وكيفية التلاعب بها على طريق تعطيلها، وما قد يقود إليه ذلك من أثر في القبول الجماعي لفكرة خاطئة، أو خطيئة، حيث تفقد الجموع القدرة على الرؤية، مثلاً، أو النطق.
حجُّ العين واحتجاجها
قد تصلحُ أمثولة «الإمبراطور العاري»، سواء بنسختها المغربية الأصيلة أو الدنماركية الدخيلة، لتوضيح هذا الجدل اللغو-سياسي. تفيد الحكاية أن ثلاثة من المحتالين امتهنوا الحياكة، وزعموا أنهم قادرون على صناعة ثياب لا يراها أحد، وأن من يلبس هذه الثياب ولا تُرى عليه، يكون شريف النَّسَب، وفيَّاً للإمبراطور وسياسته الرشيدة، مناسباً لمنصبه، وإلا فهو عبد أو خائن، غير جدير بأن يكون من حاشية الإمبراطور، وأن تُظِلُّه حمايتُه.
تتصاعد الحكاية والحياكة حين يفتتن الامبراطور بفكرة الحلَّة الساحرة حدَّ تجريبها شخصياً، فيلبسها، ويمضي في موكبه المهيب، عارياً إلا من الوهم. ولكنَّ المفارقة تتصاعد في عدم انكشاف عُري الامبراطور، وانكشاف عُري عيون الوزراء والنُّواب والمعاونين وقادة الأجهزة الأمنية وأعضاء الحزب الحاكم وسحِّيجة السلطة الذين يهتفون للعري، ويؤدلجون الهزيمة… ولكنَّ عبداً (بالولادة)، في النسخة المغربية، أو طفلاً (بالعمر) في النسخة الدنماركية، ينغَّص على الجموع زهوهم، حين يصرخ بوجه الامبراطور «أنت عار»، والكسر والضمُّ يفيدان المعنى تماماً! هنا، لم يعد الدكتاتور هو العاري الذي لا يرى عريه أحد، بل العيون التي استُعيرَت ودُجِّنَت لئلا تراه. وبذا، فقد صارت للعين وظيفة أخرى غير الإبصار، هي العمى، وظيفة نقيضة لوظيفتها الوجودية الأصيلة لصالح وظيفة سياسية دخيلة، ألا ترى قماشة الوهم حين يكتمل «هابيتوس» الحواس في أبهى تجلِّياته. وهنا، ينطبق وصف حسين البرغوثي: «وبعض العيون مرايا، وبعض العيون غبار»، على العيون العارية، عيون الغبار، التي أحيلت إلى تقاعد بيولوجي وأخلاقي مبكِّر.
لكن الامبراطور ليس فرداً، بل منظومة علاقات سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، لا يتم تكريسها بقوة الجندي وصرامة القانون وحسب، بل بروافع متعددة تشكِّل الثقافة، وهي مناط الكتابة هنا، إحداها. فالثقافة قد تسهم، بشكل فعَّال، في تطبيع طغيان السلطة، إذ النتاجات الثقافية الناقدة للسلطة (وليست المؤيدة لها، والحاجَّة إلى قلاعها وحسب)، تعمل، في أحيان كثيرة، على تعزيز النظام عبر تطبيع جبروته، وبالتالي تطبيع الامتثال لإكراهاته السياسية. فنتاجات الثقافة الشعبية، من: نكتة سياسية، وكاريكاتير، وحداء، وهتاف، ومسرح ساخر، و«كوميديا ع الواقف»، ونقد شعبوي ناعم، وتعبيرات احتجاجية تنفيسية عبر وسائل التواصل الاجتماعي… كلها تقوم بالفعل ذاته على المدى الطويل.
يتكرر جبر السلطة، ويتكرر النقد الساخر، ويتعايش تطبيع الإكراه وتطبيع الامتثال في الآن ذاته. ثمة تعايش بلاغي، إذن، تزامله حرب وجودية طاحنة يشنها فاعل السلطة الجاد على مفاعيلها الهازلين. لا يتوقف أداء هذه الوظيفة على نتاجات الثقافة الشعبية، بل يطال، كذلك، نتاجات الثقافة العالمة، من شعر ومسرح ورواية، هي الأقرب إلى بنية السلطة، إذ يحظى منتجو هذه الأنواع الأدبية من المثقفين بامتيازات بنى السلطة، وعضوياتها، من: وزارات، وهيئات، وأمانات، ولجان ومجالس وطنية، وتشريعية، وتنفيذية، ومركزية، وثورية، واستشارية… إلى ماوراء ذلك من «منفعة» تبادلية جرَّاء إعارة عيونهم العارية لستر عُري النظام.
دكتاتور العين ومثقفها
أتوسل، هنا، سياق نصٍّ واحد، هو: « خطب الديكتاتور الموزونة ، 1986» لمحمود درويش، وأقارنه، سياقياً، بمسرحية عربية هي «الملك هو الملك، 1977» للسوري سعد الله ونُّوس، ورواية عالمية هي «خريف البطريرك، 1975» للكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، لتبيان أثر الكتابة في تطبيع جبر السلطة. تفصح هذه المقارنة السياقية عن تشابه الرسالة السياسية للنصوص؛ وكتابتها على أيدي مثقفين كبار من الجنوب العالمي؛ واقتراب كتَّابها من رأس السلطة في بلادهم؛ وإسهامها الفعَّال في تطبيع الدكتاتور عبر تعويمه، وتنكيره على وفرة من التعريف، ومسخرته حدَّ جعله سلعة تداولية شرعية الوجود وإن على شكل فكاهة سياسية لاذعة. غير أن استدعاء هكذا نصوص لا ينبغي أن يكون محاكمة بعد الموت Posthumous Trial لأصحابها، ولا لموضوعاتهم الفنية، بقدر ما هو تأمل في فاعليتها «الجمالية».
الـ «خطب»، هي نصٌّ «شعريٌّ» مطوَّل، آثر درويش، وبعناد دام حتى رحيله، عدم إدراجه في أعماله المنشورة، لاعتبارات سياسية وجمالية حكمت سلوك درويش الثقافي، ليس هنا موضع الخوض فيها، إذ وقفنا عليها في دراستنا بالإنجليزية The Political Darwish: In Defense of Little Differences, 2017 وقد وردت أولى الإشارات لهذا النص في كتاب «الرسائل» بين درويش وسميح القاسم خلال العام 1986، والمنشور في العام 1990؛ ومن ثمَّ نشرت تباعاً في «اليوم السابع» من باريس بين آب 1986 وحزيران 1987؛ ومجلة «أدب ونقد» في القاهرة في أيار 1997؛ ومجلة «الكرمل الجديد» في رام الله صيف 2011؛ حتى تمَّ نشرها في كتاب صادر عن دار راية في حيفا في العام 2013.
في التاسع من أيلول عام 1986، رد درويش على رسالة للقاسم، عنونها: بـ«…والدكتاتور»، حيث تبادلا الحديث عن الحرية بوصفها «وعي الضرورة»، ونعمائيات الشعراء، وقدَّم درويش ما عقلن به السخرية، وبرر به اهتمامه بالدكتاتور، فكرةً وممارسة. استهلَّ درويش كلامه بتبيان وظيفية السخرية في الحياة السياسية، معتبراً إياها، «بكاءً مبطَّناً»، و«يأساً قد تهذَّبَ»، لكنَّ ذلك لم يرق ليكون سبباً للجوء إليها، «بل لأنها لا تثيرُ الشفقة، ولأنها تنزلُ القاتلَ من منزلة الفكرة المُجرّدة، السلطة المُطلقة، إلى «إنسانية» تتعارض مع إنسانية البشر ومع الطبيعة الإنسانية، إلى «إنسانية» مُضحكة بقدْر ما هي مُرعبة».
أشغل درويش نفسه، بالدكتاتور حدَّ أنه عيَّن نفسه (هازلاً)، كاتباً لخطاباته، مشيراً إلى تأثره بتجربتَي الكولومبي ماركيز «خريف البطريرك» والغواتيمالي أستورياس «السيد الرئيس»، اللتين أمَّنتا لصاحبيهما، فضلاً عن إرثهما الأدبي الهائل، جائزة نوبل للآداب، رغم التلاسن الحاد بين الإثنين حول الروايتين. وفي غمرة هذا الاستدعاء، قارن درويش، بعين المثقف العارف بالسلطة والملابس لها، الواقع اللاتيني بالواقع العربي من حيث الاهتمام بشخصية الدكتاتور، وحضور تلك الشخصية الأسطورية في آدابـ«هم»، وغيابها في آدابـ«نا» رغم حضور «الدكتاتور فينا حدَّ التماهي، شخصاً وفكرةً… (وكونه) حولنا، بيننا، فينا»، معلِّلاً ذلك باختلاف شروط الواقع العربي التي ينبغي أن تكون «أكثر واقعية، وأقل تجريدية مع سؤال السلطة». فيما لـمَّح درويش، دون تصريح، إلى الباعث الفرجوي لكتابة ونُّوس لمسرحية «الملك هو الملك»، التي كادت تؤمِّن له جائزة نوبل لولا رحيله المبكر، وهو «التنكُّر» المتبادل بين الدكتاتور ورعيته «بتحويله إلى مضحك» رغم تحكُّمه بالمصائر، ودون أن يلاحظ أحد تبادلية الأدوار بين الملك والمغفَّل.
لقد بلغت رواية الدكتاتور Novela del dictador في أدب أمريكا اللاتينية ذروتها في عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، وتناولت علاقات المثقف، والسلطة، والكتابة. وقد تميزت، عموماً، بعدم إفراد شخصية تاريخية بعينها، بل رسمت صورة للدكتاتور يمكن خلعها على أي قائد سياسي، وقد ساعدت تقنيات الفانتازيا الساخرة تيار الواقعية السحرية في تكريس هذا النزوع الكتابي. كما أبرزت هذه الرواية النرجسيةَ الأبوية والذكورية الناتئة للكاتب وهي تضعه جنباً إلى جنب مع الدكتاتور، إذ يظهر كحارس للحكمة السياسية وسادن للتاريخ يحظى بدور ثقافي واجتماعي هائل، وكأنه والدكتاتور توأمان أنطولوجيان Each other’s alter-ego.
مستلهماً هذا الإرث، يتلاعب درويش بمهارة عالية بتفسير موقعه هو من الدكتاتور، ويغلفُّه، كالعادة، بالحديث عن الجماليات. فيتناول الخيارات الفنية لـ «خطب الدكتاتور»، بين جدِّية موسيقى الشعر وإيقاعه وقوافيه في موضوع هزلي، وأدائية ما قد تصعِّده الكتابة الجادة على هذا النحو من سخرية كاريكاتيرية كونها «تسلّطُ الحواسّ على النتوء، ولأنّ الدكتاتور نتوءٌ في الطبيعة». ويتعامل مع الدكتاتور بوصفه نكرةً سلطوية قابلة للتناتج، عصية على التخصيص الذي يوقع الكاتب في «خطر استثناء آخرين… ومخاطر الهجاء». ويتأمل شبهة التَّوالُج بين العين العارية للمثقف وعري الدكتاتور عبر «أنسنة الدكتاتور» وما يكتنفها من «افتتان خجول بسلطةٍ تتقاطعُ مع سلطةِ الكتابة» هو الضامن على نجاح عملية «التماهي» بمفردات درويش، أو «التقمُّص» بمفردات ماركيز، أو «التنكُّر» بمفردات ونُّوس. وقد وصف هذا التنافذ مع عالم الدكتاتور، بـ«المشترَك الضروري بين المؤلِّف والمؤلَّف»، الذي يؤمِّن متسعاً للضحك، تارة مع الدكتاتور، وتارة عليه، بين حدِّ النقد وحدِّ السخرية، حين تتسع حدقة العين العارية، ولا تعود تدرك الفرق بين خطاب «القائد العام» وخطاب «الشاعر العام».
ذئب العين وإنسانها
قد يكون من الإجحاف اعتبار «أنسنة الدكتاتور» التي يقترحها درويش قنطرةً فينَّة للكتابة عنه، إقراراً بشرعية وجوده، لكن «أنسنة الدكتاتور»، للمفارقة، تقود إلى شرعنة التفكير بمفرداته عبر إلزام المتلقي بتأمل فكرة المخلِّص، إذ الدكتاتور هو من يخلِّص الناس من بؤسهم، فيصير أولى بطاعتهم. والدكتاتور لا يتقاعد، ولا يبالي بالزمن، وكأنه يشارك الآلهة في خلودها، بل وينتحل بعض أسمائها من «الجلالة» و«السيادة». ولا يكاد أول دم يُسفك على مذبح بقائه، حتى يتذوق دم القربان، وسرعان ما يتحوَّل إلى ذئب ينهش لحم رعيته، على ذمَّة أرباب الفلسفة السياسية في وصف ولادة الدكتاتور. يتغوَّل القائد، يستذئب، يتوحَّشُ، فيما تنقاد الرعية إليه مسلِّمة، بلهاء، بعيونها العارية.
خلاصة القول، للتغلب على «متلازمة العين العارية»، نصيحتان: الأولى للسلطة ومثقفيها، إذ لا شيء يبرر عنف الامبراطور، ولا عريه، لكن التغطية على عريه بتطبيعه تندرج في حكم التواطؤ، والتواطؤ فعل سياسي واع، وهو في اللغة فعل جنسي تتحقق فيه المتعة، أو «المنفعة»، بين الواطئ والموطوء. وإذا كان لا بد من ثقافة للعري، فلتكن «طبيعية»، لا سياسة فيها ولا شهوة ولا خداع، ولتكن جرياً على تقليد الطبيعيين في حركات «ثقافة الجسد الحر Freikörperkultur (FKK)» التي لا يترتب على الاستمتاع بالتعري فيها أثر سياسي، ولا اجتماعي، ولا اقتصادي؛ والأخرى، للثورة ومثقفيها، صاغها، قبلنا، صديقنا فيصل درَّاج، حين أشار إلى نوع آخر من العبيد، الذين لا يجرؤون على كشف عري الامبراطور، إذ «لم تكن «مصاحبة التاريخ» مرآة لنرجسية مريضة، إنما كان «التاريخ» هو المجال الأوسع لتأمل الطبائع الإنسانية، وهذا التاريخ، في شكله الكوني اليوم، هو الذي يأمر «المغلوبين»، والعرب منهم، أن يقرأوا المواضيع جميعاً، من وجهة نظر «المغلوب»، الذي يتوالد غلبه منذ زمن طويل. وعلى أي حال، فالإنسان الذي لا يعرف هويته، لا يمكنه الحديث عن موضوع الهويات، والذي لا يعرف «من أين يأتي التخلّف»، لا يستطيع مساءلة «تآكل الجغرافيا»، والذي لا يسأل: «من أين جاء العبيد»؟ يظل عبداً طيلة حياته، من دون أن يدري».
*عبد الرحيم الشيخ- شاعر وناقد فلسطيني ولد في القدس لعائلة لاجئة من الرملة. يعمل أستاذًا للفلسفة والدراسات الثقافيّة والعربيّة في جامعة بيرزيت. يركز عمله الفكري على سياسات الهوية والقومية وتفسير الروابط العلائقية للسياسات، يعمل في الترجمة وفي نقده الفني يركز على التعبيرات البصريّة للهويّة الفلسطينيّة.