مقدمة:
يشهد الواقع السياسي الفلسطيني حالة جمود ومراوحة في المكان منذ حوالي العقد من الزمن ولم تفلح كل محاولات السلطة والأنظمة العربية في إيجاد أي اختراق، حيث يشكل الجمود السياسي الناتج عن حالة انسداد الأفق السياسي تحديا جديا ليس فقط للمدافعين عن الحل السياسي التفاوضي لجهة بناء الدولة الفلسطينية المستقلة، وإنما للشباب الفلسطيني الذي يتوق إلى دولة يتمتع فيها بمواطنته.
وقد جاءت قضية نقل السفارة الأمريكية إلى القدس محددة للأمل بإمكانية إعادة إحياء العملية السياسية، بما يفضي إلى نتائج متصلة ببنية الدولة الفلسطينية، يلقي بظلاله على المجتمع الفلسطيني. وقد فاقم في سوء الوضع السياسي الفلسطيني مجموعة من العوامل الذاتية منها:
الأدلجة: وهي كإطار فكري ناظم وموجه للتوجهات والعمل من عوامل النجاح، إلا أنها قد تكون مثبطة ومعيقة وسببا للفشل إذا كانت أيدولوجيا إقصائية شوفينية وهو أمر راجح الحدوث، خصوصا في ظل وجود أزمات اقتصادية أو سياسية وشواهد تاريخية قديمة ومعاصرة وحاضرة، وفلسطينيا وصل الأمر إلى رفع الأفكار الفردية إلى مستوى الأيدولوجيا بغية الحفاظ على المكاسب الفئوية أو للتهرب من مسؤوليات أو محاسبة مجتمعية.
العنف السياسي: يتحول التعصب والانغلاق الفكري بسهولة وسرعة إلى ممارسة عنيفة على مختلف المستويات، نجد ذلك متجليا بأبشع صوره على الساحة الفلسطينية في حملات الاعتقال المتبادلة بين سلطتي فتح وحماس مما يساهم في تكريس الانقسام ويؤسس لفترة طويلة قد تمتد لأجيال من التناحر والصراعات.
الراديكالية: وهي من أخطر ما يمكن أن يواجه الشباب تحديدا بسبب الطبيعة السيكولوجية لمرحلة الشباب، إذ إنها فيما تقدمه من طرح متشدد جدا يفهم لدى الشباب عموما بأنها المبدأية والالتزام الحديدي بالفكر والمنهج (المخلص) من كل المشاكل والصعاب.
تشظي المجتمع الفلسطيني نتيجة الانقسام على التوجهات ذات العلاقة ببنية الدولة، ما بين مؤيدي الحلول السياسية وأصحاب النهج التفاوضي.
حالة الانقسام:
يشهد الواقع السياسي الفلسطيني حالة انقسام شديدة تهدد مستقبل القضية الفلسطينية برمتها بين طرفين رئيسيين هما فتح وحماس. وما يتصل به من رغبة كل فصيل في الحصول على الشرعية الشعبية الحصرية، - وهو الأمر الذي يفرز من بين أعراض كثيرة التشنجات والتعصب بين مناصري الفريقين، وملاحظ أن سلطة الفريقين أثرت على الحواضن الفكرية والسياسية الأساسية لهما وخفتت صوت الأحزاب السياسية الأخرى.
لا زالت الأحزاب السياسية -لاحقا لاتفاق أوسلو- تواجه تحديا كبيرا لحالة الاستقطاب الدائرة في المجتمع الفلسطيني، التي أدت إلى إقصاء الكثير من الأحزاب السياسية الفلسطينية، وقد تشكلت تحالفات بين الأحزاب في غالبها العام على أساس عضوية منظمة التحرير من عدمه، وقد اتصفت هذه المرحلة بوجود مناخ من العنف السياسي، الذي هدد شراكة فئات مختلفة من المجتمع الفلسطيني سيما المرأة والشباب، وحالت دون دوران عجلة تداول السلطة في داخل الحزب السياسي من جانب وفي النظام السياسي بالكلية.
إن لتراجع تأثير اليسار الفلسطيني على قرارات منظمة التحرير أثرا بالغا في تردي الواقع السياسي وتطوره باتجاه النظام الحالي المتعلق بسلب حق التجمع السلمي والتعبير عن الرأي، وليس هذا فقط بل الأنكى من ذلك انحسار اهتمام الأحزاب اليسارية بالتربية الحزبية الفكرية لعناصرها وإعداد قياداتها الشابة، مما أدى إلى تراجع حضورها على مختلف الأصعدة النقابية والجماهيرية والشبابية، ولعل من أهم أسباب تراجع دور اليسار الفلسطيني:
انهيار المنظومة الاشتراكية وما نتج عنها من تراجع الإيمان بالأفكار التقدمية وضعف مصادر التمويل، في مقابل نهوض وتقدم الفكر الديني وتضخم مصادر تمويله، فالطبيعة تكره الفراغ والخواء العقائدي لدى الشباب الذي تسبب به تراجع اليسار وكان البيئة الخصبة للعقائد البديلة.
عدم اتفاق اليسار على خطاب جماهيري جامع على قاعدة وحدة الأفكار واستمرار الصراع على النسبة القليلة من المجتمع التي هي خارج الاصطفاف اليميني بجناحيه الوطني والديني (ثنائية فتح، حماس).
عجز اليسار عن إعادة بناء ذاته تنظيميا وفكريا وانشغال الكثير من قياداته في بناء وتضخيم منظمات أهلية لدرجة أن بعضهم حاول أن تكون تلك المؤسسات بديلة للأحزاب الأم.
ضعف اليسار حرم الشعب الفلسطيني من وجود خيار ثالث حقيقي يمكن أن يشكل رافعة للأداء الفلسطيني السياسي والنضالي وحدّ إلى مدى بعيد من قدرة اليسار على أن يكون معارضة فاعلة ذات أثر في الحياة السياسية الفلسطينية، وبعض المبادرات الخجولة التي يطلقها اليسار من حين إلى آخر لا تجد صدى بين الجماهير لمجموعة من الظروف والعوامل.
انسداد الأفق السياسي وأثره في تعزيز توجهات التطرف لدى الشباب
لا نحتاج إلى العناء لإثبات الارتباط بين انسداد الأفق السياسي لأي مجتمع وبين نمو التوجهات المتطرفة لدى شبابه فالشواهد العالمية أكثر من أن تحصر وتعد، فانسداد الأفق السياسي لا يأتي في بعده السياسي المجرد ولكنه يستتبع معه مجموعة من التفاعلات والتدخلات الرسمية وغير الرسمية التي بدورها تجر معها ردات الفعل المعاكسة، وهو أيضا في ظل النظام العالمي الحالي ومتطلبات النهج النيوليبرالي الذي يرافقه تراجع في الأداء الاقتصادي وتباطؤ في النمو قد يصل إلى الركود والتضخم وزيادة معدلات البطالة ونسب الفقر مما يزيد معدلات الجريمة والانحرافات السلوكية، وهو ما يدفع الحكومات الأكثر عراقة في الممارسات الديمقراطية والمجتمع الأكثر حضارية إلى الانزياح التدريجي أو المتسارع نحو التطرف للتعبير عن الاحتجاج والرفض.
وكثيرة هي المحاولات التي تناولت موضوع التطرف لدى الشباب وعلاقة ذلك بالاعتبارات السياسية والاجتماعية والظروف البيئية المحيطة الباعثة على الإحباط وفقدان الأمل، بعض تلك المقاربات النظرية تستند إلى مفاهيم علم الاجتماع وبعضها إلى أسس علم النفس الاجتماعي ومحاولات أخرى بالمزج بينهما وأخرى تناولت الموضوع في بعده السياسي، وهي جميعا محاولات قدمت ما يمكن الركون إليه كركيزه علمية متينة يمكن البناء عليها لإنجاز تدخلات هادفة إلى تقديم اقتراحات وحلول.
وتعكس الأرقام الصادرة عن جهاز الإحصاء المركزي[1] الحقائق؛ حيث نجد أن ما نسبته 24.3%من مجموع السكان هم في الفئة العمرية 18- 29 سنة وهي الفئة المتعارف عليها بأنها فئة الشباب. ويأتي الاهتمام العالمي والعلمي بهذه الفئة لما تمتاز به من خصائص لعل من أهمها أنها سترسم ملامح المجتمع لاحقا.
ولا يعكس الواقع الفلسطيني استجابة صناع القرار لاحتياجات الشباب الفلسطيني سواء كان تلك الاحتياجات افتراضية (وهي الاحتياجات التي يفترض المربون والباحثون والأهالي وصناع القرار أنها هي احتياجات الشباب) أو الاحتياجات الفعلية (وهي تلك الاحتياجات التي يرغبها الشباب سواء عبروا عن ذلك بوعي وتصريح كالحاجة للتعلم والعمل والترفيه أو عبروا عنها بلا وعي وبأشكال السلوك التمردي كالانسحاب أو المخدرات أو غيرها من أشكال السلوك الدال على الرفض والتمرد والاغتراب)، وللتدليل على ذلك نجد في دراسة أعدها جهاز الإحصاء المركزي عام 2011[2] حول احتياجات الشباب، والتي جاء فيها أن 83% ممن شملهم البحث عبروا أن خدمات الصحة النفسية على رأس أولوياتهم وتقدمت على حاجات الترفيه والمشاركة الاجتماعية، وهو أمر مبرر علميا كون المرحلة الأولى من عمر الشباب هي مرحلة بناء الهوية الذاتية، وتمتاز تلك المرحلة بالتقلب المزاجي والتشتت بين الاتجاهات والقيم، ولم نجد استجابة من صناع القرار لتلك الحاجة، وأدل من ذلك وأوضح أننا لا نجد من فئة الشباب (18-29 سنة) في مراكز صنع القرار ما يوازي نسبتهم في المجتمع والبالغة تقريبا 25[3]% (أي أننا لا نجد 25% من صناع القرار في المستويات المختلفة ضمن فئة الشباب، والأدهى أن هذه النسبة لا نجدها حتى في الهيئات والمؤسسات الخاصة بالشباب) سواء كانت على مستوى الأندية أو الجمعيات أو الهيئات المحلية أو غيرها، ولولا أن مجالس اتحاد الطلبة في الجامعات هي حكما من هذه لكان يمكن أن نرى أن من يقود تلك المجالس هم من غير هذه الفئة العمرية وإن كانت القيادة الفعلية لتلك المجالس هي بنسبة كبيرة خارجها.
مجالس اتحاد الطلبة كنموذج للممارسة الديمقراطية:
مجالس اتحاد الطلبة في الجامعات تكاد تكون المجال الوحيد الذي يشارك فيه الشباب – فئة الطلبة- بفعالية ومشاركة حقيقة في صناعة القرارات، وإن كانت نقابية إلا أنها يفترض أن تشكل التمرين الأول على الممارسة الديمقراطية والسياسية إلى حد ما، وهو الأمر الذي كان قائما حقيقة قبل قيام السلطة، إذ كانت الكتل الطلابية هي طلائع الأحزاب التي تمثلها وحاملة فكرها وعقائدها وقد كانت تحرص الكثير من الأحزاب على استثمار فرصة وجود أفرادها في الجامعات لتدريبهم وتعميدهم في العمل السياسي والنقابي بكل متطلباته من ثقافة وخطابة ومناظرة، وقد كانت تتنافس الأحزاب فيما بينها في توفير أفضل شروط التعلم اللامنهجي لعناصرها، وهي تجارب فلسطينية تستحق الدراسة، وكثير من القيادات المجتمعية والسياسية والناشطين هم من خريجي تلك الحقبة والتجربة، ونجد أن تخلي الأحزاب عن تلك الممارسات والمنهجية في إعداد أفرادها قد أفقرها وحرم الشباب من وجود ساحات تعلم واكتساب وبناء شخصية قيادية واثقة ومنتمية لقضية ولفكر نرى تجلياته في ضياع نسبة كبيرة من الشباب بين الإحباط والانسحاب وصولا إلى المخدرات والانحرافات السلوكية الأخرى والأخطر الانحرافات الفكرية والتي تتمثل في التطرف الذي نجد تجلياته في مختلف المناحي والأماكن؛ فالتطرف كبعد معرفي ينشأ ويتجذر في البيئات المغلقة التي لا تسمح للتنوع أو الاستماع للفكر المخالف على مختلف المستويات ابتداء بالأسرة وانتهاء بالمشاركة السياسية مرورا بالمدارس والجامعات والشوارع والمقاهي والنوادي وأماكن العمل، فنجد الأسر تتقوقع في منهجها وأنماط تفكيرها فارضة على أبنائها تلك المنهجية، وإن لم ينصاع الشباب لأسرهم إلا أنهم يكونوا قد طوروا تطرفا في منهجية نقيضة وهو ما لا نريد وكذا الجامعات والمدارس.
[Double Brace: لا يمكن لمجتمع متطرف في كل مؤسساته الرسمية وغير الرسمية أن يتوقع من شبابه أن يكونوا غير متطرفين فالمجتمع ينتج أجياله] ويزداد الفكر المتطرف توحشا كلما ساء الوضع الاقتصادي وانسد الأفق السياسي للتعبير ومحاولة التغيير ونحن نعيش أسوأ درجات البؤس الاقتصادي وكذلك التجمد السياسي؛ فالبطالة تكاد تصل إلى نصف القوى القادرة على العمل في بعض التجمعات والغالبية من العاملين لا يكاد دخلهم يكفيهم للحد الأدنى للحياة الكريمة. وفي البعد السياسي حدث ولا حرج، فالوطن منقسم بين نهجين متطرفين منهج (السلام) الذي لا يقبل نقاشا في منهجه فضلا عن سماع المنهج الآخر ومنهج (ثوري) وهو أيضا لا يسمع ولا يرى وبينهما ضاعت أجيال شابة وقسم الوطن حصصا لكليهما وغاب أي حظ لمن ليس منهما في أن يكون له أي شكل للمشاركة في صنع القرار أو حتى مجرد إبداء الرأي الحر المختلف عنهما دون خوف من تبعات نالت من تجرأ على ذلك.
ويمكن تلخيص الوضع الراهن السياسي الفلسطيني بالتالي:
انقسام سياسي جغرافي فتت الموقف الفلسطيني وأخرجه من سياق تحرري تكاملي إلى سياقات فرعية أبرز اهتماماتها إدارة المجتمع واستقطاب الشعبية، وتغيب الاستقطاب المبني على المحاججة العلمية والبرامج السياسية إلى شراء الولاءات والجماهيرية وإضعاف التعبئة الوطنية لمصلحة التعبئة الفصائلية.
ازدواجية التمثيل الفلسطيني والتناحر على اكتساب الدعم الإقليمي والدولي والتضحية في سبيل ذلك بجوهر القضية الفلسطينية.
تغيب الحياة السياسية العادية – رغم هشاشتها – قبل الانقسام والتخلي حتى عن شكليات العمل الديمقراطي وإحلال التدخلات الأمنية في كلا الجهتين كوسيلة للحفاظ على السلطة والوضع القائم.
عجز الأداء السياسي الفلسطيني في كلا الجانبين عن إيجاد اختراق حقيقي فعال في الواقع السياسي بما يشكل أملا يمكن للشعب الفلسطيني وخصوصا الشباب فيه من التمسك به.
الحفاظ على السلطة وما يستدعيه ذلك من خطاب تعبوي ينطوي على التعصب والتطرف والانغلاق الفكري، وهو خطاب سريع الجذب للشباب بحكم البناء السيكولوجي والمعرفي للمرحلة العمرية ولوجود الأرضية الجاهزة في التنشئة الاجتماعية والموروث الثقافي.
الخلاصة: نرى من كل ما سبق أنه يجب:
العمل على صياغة موقف سياسي فلسطيني يضمن التكامل بين المناهج بدل التناحر والتنافر.
العمل على إيجاد آليات عمل سياسية واجتماعية تضمن توفر الفرص للقادرين والراغبين على التنافس للوصول إلى مواقع صنع القرار بمستوياتها المختلفة.
العمل على إيجاد المساحات والمنابر التي توفر الفرصة للشباب للتعبير الحر عن مواقفهم تجاه القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة.
أن تعود الأحزاب إلى مدارسها الحزبية في تأهيل كادرها الشاب وتمكينه فكريا بما يضمن قدرته على المحاكمة العقلية الهادئة للطروحات والمفاضلة بينها على أسس علمية بدل اللجوء إلى التقوقع والانغلاق الفكري الذي يعد الدافع الأول للتطرف.
العمل على انتظام العملية الديمقراطية – الانتخابات- داخل الجامعات بشكل سنوي بما يضمن مشاركة جميع الطلبة لاختيار ممثليهم.
علما أن هذه الورقة صادرة عن المؤسسة الفلسطينية للتمكين والتنمية المحلية REFORM ضمن مشروع نشطاء سياسيين من أجل التغير.
تأتي هذه الورقة ضمن مشروع "نشطاء سياسيون من أجل التغيير" بالشراكة مع Norwegian People’s Aid، والذي يهدف إلى تحسين واقع مشاركة الشباب في عمليات صناعة القرار من خلال تطوير قدراتهم الذاتية وإعادة إنتاج المكونات الاجتماعية في قالب اجتماعي ثقافي قادر على إيجاد نشطاء اجتماعيين لديهم الرغبة والقدرة على النهوض بالمجتمع. هذا وسيعمل المشروع على تعزيز مشاركة النساء في صناعة القرار المحلي وبناء قدرات المشاركين الشباب على إعداد أوراق السياسات العامة، وكيفية تنفيذ حملات الضغط والمناصرة، ورصد مدى استجابة عمليات صناعة القرار لاحتياجات المجتمعات المحلية من خلال تنفيذ عدد من اللقاءات مع السياسيين والمؤثرين في دوائر صناعة القرار في مختلف المناطق من أجل إشراك الشباب في عمليات صناعة القرار، ومناهضة الاصطفاف وتعزيز العملية الديمقراطية.
2017[1] التعداد العام للسكان والمساكن
[2] جهاز الإحصاء المركزي ، احتياجات الشباب الفلسطيني 2011
[3] المصدر السابق