السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

سأتلو حروف اسمك حتى مطلع الفجر. بقلم: مريم ريان

2014-12-24 08:52:29 PM
سأتلو حروف اسمك حتى مطلع الفجر.
بقلم: مريم ريان
صورة ارشيفية

 قصة قصيرة

تأخرَت اليوم، قالها، والتوتر يبدو عليه، يفرك بيديه صقيع الانتظار، رغم توقّد الشمس في صباح يفيض بحرارة غير عادية، سبعة شهور بعمر شقي جاء قبل الأوان يلتقيها، على المقعد ذاته آلاف الحكايا التي يسردها مع العشاق.. قصص متشابهة.. البدايات لهفة والنهايات باردة.. وما بينهما فراق.. لوعة القلوب المكسورة، وآهات العتبات التي شهدت على ألا تشهد على المحبين يوماً ما..  تداويها مزحة أو ضحكة أو حتى تكشيرة بعد لحظة وربما لحظات.. ببساطة.. لا جديد في الحب..!

العلاقات إنكار حواء بحثها الموجع عن آدم، قناع اللامبالاة الذي ترتديه ساعة التلاقي، فيما القلب يبتسم شوقاً لرؤيته.. هي شبع آدم من تفاحة محرمة يقطف أخرى بعد التوبة من جديد.. إنه وقت القطاف!.. حمراء للرشيد وخضراء للعافية وصفراء حضور الغيرة المؤقت، لتداعب القلوب قليلاً قبل رفع أوراقها إلى سماحة المفتي! فهو الشخصية الأبرز في العلاقات عامة، حيث فتواه لجام الكلام عند اللزوم، وحل الخصامات والنزاعات.. حاضر في المخادع الشرعية وغير الشرعية.. أو ليست الشرعية طموح الفتيات..؟ وقسم بوليس يطارد العابثين..؟ "حلها يا شيخنا.. إهمال الغريب شو عقابه"، قالها بصوت عالٍ جذب إليه أنظار بعض المارة.

فكرة تلو الأخرى تراود الشقي الذي تجاوزته الحياة مراراً، ليحترف أخيراً صيد الفراشات، يقصّ أجنحتها بقسوة، يضعها على جديلة صبية تلو الأخرى ساعة الظهيرة.. "ها أنا اليوم مثل أبله في محطة قطار.. لا تذاكر فيها ولا مسافرون..! جميع الركاب اختفوا وبقيت وحيداً. غبار الحزن يهب على قلبي، أنا الصياد تمكّنني الفريسة منها دونما تعب"، يقولها ويرمي بضحكة يغتصب شفتيه بها، تبدو الرغبة جلية في حبٍّ تملّكه بعض الوقت!

 نظر إلى ساعته مجدداً وانطلقت منه شتيمة.. "كم أصبح للوقت قيمة منذ التقيتها، أي تعويذة تلك التي ألقتها على جسدي المحموم بأجساد أخريات في غمرة لقاءاتنا، أمنح الأفكار تصريحاً للتظاهر في رأسي الكبير.. تتجاذبن أطراف الكلام، تحتد إحداهن على الأخرى.. تشكلن فريقين وتشعلن النيران .. إلى أن أصل إليك يا فتاتي في موعد الشمس، حين تدق أشعتها النوافذ المغلقة، وتفتح الستائر التي انسدلت ليلاً على ضوء القمر.. وخبأت العتمة.. فيهدهدهن التعب.. وأضعهن جميعاً في حضرتك، وأتأمل جمال إحداهن لتكون بداية حديث بيننا.. لا ينتهي".

"الضحية تجذب قاتلها؟ من أين جئتُ بتلك الجملة السخيفة؟".. فكر ملياً وعقد حاجبيه.. "يبدو أني تعرضت إلى ضربة على الرأس أو سقطتُ من الطابق الثامن لأتفوه بتلك الكلمات.. متى كان ذلك يا ترى؟ الخطوات تسافر بنا ضوئياً عبر الليالي..! ما أعجب الوقت حين يقرر الانتقام، فلا تدري حقاً كيف مضت الشهور.. مثل سراب في ساعة رملية مثقوبة.. تبدو الجملة مفترسة حد الهروب.. إني لأسمع صوت الصافرات.. والموج خائف من البحر لئلا يغرقه في ساعة غضب.. هناك حيث هي تقف على حافة الرصيف.. فالمرافئ وداع العاشقين وقت البكاء.."! قال الفتى.. "الكثير من الوهم.. والقليل القليل من الحقيقة.. وأنت بين هذا وذاك أرغب بك اليوم أكثر.. جسدان مثيران يعزفان معاً سمفونية، سأهديها بعد الرحيل لمخرج يضعها (تتر) مسلسل مدبلج يروي قصة تشبهنا"..

رمى بساعته بعيداً فليس للوقت قيمة بعد الفراق.. تأملها حين كانت تضع ركوة القهوة على عجل.. لئلا يسرق الغراب لحظة من عمر اللقاء.. وكيف ينشغل هو بشالها الأحمر، كلما نزل قليلاً عن كتفها تهرع أصابعه للإمساك به وتثبيته بالقرب من قلبها.."لم اليوم..!! لم تأتِ أبداً..؟! هل هو الموت الذي أخذك مني؟.. فللموت سلطان أقوى مني ومنك.. وصدقيني إن قلت لك إن الألم الذي أكره يتسلل مع الفكرة الكئيبة إلى روحي، وأنا المجنون أهذي بحب سيأتي بعد حين"!.. جاء حاملاً في يده جريدته وسجائره وبعض الأوراق للكتابة.. تماماً كما هو حاله في الصدفة الأولى.. ولا يدري حقاً لما جاء على تلك الهيئة اليوم!.. "ربما لتشهد أشيائي الصغيرة واقعة الحب من طرف واحد.. واختفاء الآخر في ظروف غامضة بعد جملة قاتلة"! عبس الفتى..

شبك أصابعه خلف رأسه وأرجعه إلى الخلف وأسنده وفي عينيه ظل الشمس من بين أغصان لا تهدأ.. يتأمل وجهها الجميل بعينيها الكبيرتين ورموشها الكثيفة، كانت في اليوم الأخير تضع كحلاً أسود، يرسم باحترافية منحنى يوصلهما إلى ضفة نهر بارد في لهيب تموز، شعر طويل يموج وسحر النظرات الحيية.. آه من وجع الذكريات.. الواحدة تلو الأخرى.. يطلقن معاً سراح الروح..! "كيف تجرأت على خيانتي تلك الفتاة"؟ باغتته كلمة "خيانة" ودوت عالياً كأنها الرعد، لم يتبعه برق يضيء حلكة الليلة الماضية.. "لم تأتِ".. وبدأ المطر يتساقط في جوف روحه ليملأه حزناً آثماً..حل الظلام الخريفي سريعاً.. فتراءت له الملامح الحبيبة.. "كنت على وشك أن أبوح لها بشوقي.. لكني وفوات الأوان رفيقان .. لا نفترق رغم تكالب الأحداث والمناسبات.. ومحاولات شتى من الأحباب لتفريقنا.. لكننا نِعم الصديقين اللدودين"!

"الآن الخيبة تجر أذيالها.. تمشي في الحديقة مطأطأة رأسها.. تتوقف أمامي.. تنادي باسمي فلا أجيب.. تضع إصبعها في عيني.. تصفعني على وجهي.. تمسك بطرف معطفي الطويل.. تثبته في شجرة وتصنع من الأكمام مشنقة وتنتظر.. وأنا لا أحرك ساكناً.. أعترف بأني اُبَيّتُ نيةً للتملص من صُحبتها المضجرة.. تمشي مبتعدة.. أراقبها دونما اهتمام.. أراها تدق باب الحديقة من الداخل.. تفتح لها المدينة بابها بتكاسل.. تختفي أخيراً عن ناظري.. لم أعرف في تلك الليلة أي الزوايا اختارت للمبيت"!

"أنت أيتها الرقيقة مثل وردة نرجس نبتت في وطن.. بعض منك يؤرقني.. يأتي إلي بلباس العيد..والحلوى الدمشقية، وقليل من الكلام المعسول.. ويرحل.. وبعضك الآخر ضل طريقه فلم يتسن لي مقابلته.. لا أعرفه.. كنت أود أن أحظى بفرصة اكتشافه.. والاقتراب من أسواره العالية.. والانقضاض على آلامه.. وكنت إذ ذاك أظن نفسي محوت الخيارين وحظيت بثالث من صنع يدي.. هو الانتصار لا رجعة عنه.. إلا أني وبكل كبرياء بعيداً عن عينيك بالأمس رحلت.. ولم أكن أعلم أنك لن تعودي إليّ اليوم.. وأن الهزائم التي تلازمني لن تقبل بهدنة أكون فيها أنا وأنت وقلبي.. وقصة جديدة وأول السطر.. أبدأها بحرفي وحرفك ونصنع معاً كلمتنا الأولى في سلسلة المفاوضات.. لكني أعترف بأني هزمت..".

"أين أنت اليوم؟.. هل تعلمين.. كنت إلى جانبك ليلة أمس.. أنا وأنت والليل.. نسرق من الزمان لحظات مذهلة.. سحر اللقاء الذي انتظرته طويلاً.. أنا وأنت والليل فلم نَفِقْ إلا على طرقات خفيفة للفجر على بابنا.. آه كم أنفاسك شهية عند الصباح.. أشعر بها.. وقبلاتك تسلبني عقلي.. في ذلك الحين لوحت للأقدار أن تلعب بنا ما تشاء.. وقلت لها لن يخيفني شيء أبداً.. فأنا وأنت والليل سنبقى ما شئنا نلعب لعبة الحب العظيمة.. لا شيء يفرقنا.. لا شيء.. لكنك لم تأتِ في أي موعد اليوم"..!

"كنت على وشك أن أبحث عن خيبتي وأستسمح منها وأعود من حيث أتيت.. لكني تعبت من كثرة الترحال.. فقررت التخاذل على المقعد التعيس.. وإلقاء كلمة تأبينية على روحي المسكينة أمام الأشجار وألعاب الصغار والرجل العجوز الذي يمشي مبتعداً، والبومة التي تحط على كتفي دون أن أشعر أنها مصدر شؤم لي.. أيتها الغريبة لقد ظننت بأنني عثرت عليك.. وها أنا أضيع ثانية وأضيع حبي.. أليست كلمة حب مبالغ فيها؟ إني لست أدري.. لكن حججك التي ستأتين بها غداً لن أصدقها.. واهية مثل خيوط العنكبوت.. لن أصدق أنك سُجنت وعُذبت حتى الموت لذا لم تتمكني من الحضور.. ولا أن يكون الباص الذي تأتين به كل يوم قد تم اختطافه من قبل أحد المرضى النفسيين، حتى وإن قلت إن هزة أرضية أودت بحياتكم جميعاً وجاء سيل جارف لم يبق على وجه الأرض غيري في تلك الحديقة اللعينة.. لن أصدقك.. أنت بالتأكيد ليلى التي أكلت الذئب.. فأنا أشعر بأني كنت صيداً وقع في شباك حسنك.. ألقيت تعويذتك علي.. ثم ألقيتني من فوق غصن يابس لتتلقفني أرض غريبة.. رمالها ألمي وصخورها غدرك.. يبدو أني أبالغ قليلاً في الكلمات التي أستخدمها.. لكنك تستحقين ذلك.. فأنت في لحظة غياب قتلتني"..!

تساءلت كثيراً من أنا؟ ما الذي حصل لذاك الفتى اللعوب..! منذ أيام وأنا أسترق النظر إلى الشاردات من طهر التقاليد إلى عهر جسدي.. وسط كم هائل من الدخان والكحوليات.. هن يغنين وترقص أثداؤهن وأردافهن وتميل الخصور النحيلة.. فأشعر بالنشوة تعتريني.. ها أنذا أتصبب شهوة.. وأشتم رائحة أجسادهن المليئة بالإغواء والإثارة.. تقترب إحداهن بثوبها الأحمر القصير.. وأزراره التي تدعوني إلى فكها قبل أن تلامسها أصابعي الندية بفعل النساء.. تجلس بإغراء في حجري.. وتلف يدها اليسرى مثل أفعى سامة حول عنقي.. فأرتعش.. أوشوشها بكلمات بذيئة فتضحك عالياً بدلال.. أمسكها من يدها وأنظر إلى أظافرها الملونة بالأحمر وأضعها فوق شفتي.. وأجرها نحو غرفة منسية.. فيها جميع العابرين من وطن إلى وطن.. فوق أجساد النساء!

"عنيف أنا.. مثل وحش مأسور في قفص يملكه أحد الأثرياء.. وقح.. أمارس البغي أمام الناس في العراء.. استغلالي.. أستبدل جسداً بآخر دون استئذان ممن حولي.. وعندما تحين اللحظة المنتظرة.. تنطفئ الأضواء.. لا أراني.. ولا أثر للضمير في أي من الزوايا.. فلا ألومُني.. ولا أتذكر غير نساء جميلات في العتمة حقاً لا أدري من أين أتين.. حينها فقط يضيء الكون.. لا أسمع صخباً ولا أرى أحدا.. أترقب ماذا بعد؟.. جاء ردك سريعاً فأنت تعلمين أني مثل موسى لا أطيق صبراً.. فبدأت بخطى واثقة تعبرين شارع الحديقة نحوي.. وأنا أعُد كم مرة لمعت السماء؟.. فكان ذلك عدد ابتساماتك التي ترسلينها مع النسمات العليلة.. وأتسمر في مكاني.. واقفاً أنظر إليك.. وتصيبني دهشة اللقاء مثل كل مرة سابقة"..

"أي تقاطع هذا ما بين الجمال القادم إليّ من حارات الشام العتيقة والوادي السحيق الذي وجدتني فيه!.. لا أعلم من أين جئت بثوبك الأبيض وإكليلك الوردي.. وصنعت من طهر قلبك كنزة صوفية لأرتديها ذات شتاء قارس.. لكن مقاسها أكبر مني بنمرتين..! من أين جئت أيتها القديسة.. وسط هذا الكم الهائل من الرذيلة التي أنغمس فيها كثيراً مذ خلفت بوعدك ولم تأت إلي.. وأقولها بصوت خفيض.. أستمتع جداً بمذاقها الحلو.. أوليس الحرام حلواً يا صغيرة.. أنا وأنت كنا في طريقنا إليه سكارى.. لا تنكري واقتربي قليلاً.. أليس هذا الذي ترغبين فيه منذ اللحظة التي عريتُ فيها جسدك بنظراتي الشهوانية؟ كنت أظنك ستهربين ولن تعودي من جديد.. لكنك جئتني في اليوم التالي بفستانك الأخضر الذي يظهر صدرك الغض وذراعيك الناعمتين وساقيك الجميلتين..".

أخبريني أين كنتِ.. وأنكري أمام السماء جميع الرجال الذين قضيت الليلة الماضية تتلوين بين أحضانهم.. عندها فقط سآخذك في نزهة إلى القمر.. وأداعب في طريقي النجمات.. وأكلل عرش الغرام بشهب روحك ليحمرّ قلبي.. وأضع في العتمة قُبلة على شفتيكِ.. وأنفث في روحك السلام.. فطوبى للأحلام".. أمسك الغريب بقصاصة ورق يحتفظ بها في جيب جاكيته الأزرق، وبدأ بالكتابة تحت ضوء القمر.. والعبوس لا يفارق محياه.. وفي ساعات الصباح الأولى غالبه النعاس.. فأغمض عينيه واستسلم لسبات عميق.. جاء حارس الحديقة ونادى عليه أكثر من مرة.. إلا أنه لم يجب، فتركه ومضى إلى غرفته الصغيرة داخل أسوار المكان الأمامية.. فنامت الحديقة بهدوء.

ظلٌّ ناعم يحجب أشعة الشمس.. يد صغيرة تمتد وتقطف وردة برية تدغدغ بها كفيها.. جلست الفتاة وبدأت تخبره قصة واقعية جداً.. من وحي حياة فتاة عادية.. "جاء أصدقاء والدي لزيارتنا نهار أمس.. ووقفت طويلاً خلف (المجلى) أنظفُ الصحون، وألمع الأرضيات، وأطعم إخوتي الصغار.. فنمت دون أن أفكر بشيء.. وللحقيقة لقد نسيت موعدنا.. تذرعت حين تذكرتك أني لا أعرف اسمك وليس من موعد بيننا حقاً..! إلى أن جاء الصباح.. فخرجت إلى الحديقة مُسرِعةً.. لألتقيك دون موعد مسبق على أمل أن أجدك بانتظاري، وها أنت هنا".

هنا فقط فتح عينه اليسرى ونظر إليها طويلاً.. "حافية القدمين شعر أسود جسد شهي، ترتدي فستاناً أصفر يشبه ابتسامتها".. وقف فجأة على قدميه.. ووضع بتململ قصاصة الورق مكانه على المقعد.. ومضى دون التفاتة وبعين مغمضة ولم ينبس بكلمة واحدة..

أخذت ندى الورقة وهي تنظر باتجاهه.. وبدأت قراءتها حين اختفى ذلك الرجل في البعيد: "أيتها الغريبة، في هذا اليوم تشهد حياتي ضياعات كثيرة.. فأنت قد رحلت بالأمس.. ونكثت العهود.. وأنا أعلنت ضعفي أمام غيابك القاتل.. وأخبرك في هذه اللحظة المقدر فيها أن أكتب إليك.. وأن تقرئيني أنت ربما غداً.. بأنني وسط مفترق الطرق هذا سأغفو ساعات طويلة.. فالحلم أجمل بكثير من الحقيقة التي ستخبريني إياها حين نلتقي.