شهدت منطقةُ الشّرق الأوسط، خلال الأعوام الثّلاثة الأخيرة، هرولةً غير مسبوقة نحو إقامة علاقات، بمستويات متفاوتة، مع الكيان الصّهيونيّ الإسرائيليّ، إذ أَقْدَمَت قيادات عربيّةٌ مختلفة، ابتداءً من قطر، مرورا بالإمارات العربيّة المتّحدة، وانتهاءً بالمملكة العربيّة السّعوديّة، على تفعيل مبادرات سلميّة للتعاون مع إسرائيل، غالبًا ما كانت بوساطة أميركيّة، في سعيٍ إلى تقنين كاملٍ لمجمل العلاقات مَعَ الدّولة الصّهيونيّة. إلّا أنّ هذا المشهد الحديث، الغريب إن صحّ التّعبير، عن معادلات العلاقات التي حكمت الجانبين الإسرائيليّ والعربيّ، لم نكن لنراها حتّى الأمس القريب، وهو ما حَمَّلَ الأمرَ ثِقَلًا ومنحهُ بروزًا إقليميًّا ودوليًّا، وحوَّلَه إلى حديث السّاعة في الكثير من المنابر والمحافل الرّفيعة والهامّة، على كافّة المستويات، بينما الجميعُ يترقّبُ كيف ستتطوّرُ هذه العلاقات الجديدة.
لطالما أثَّرَت القضيّة الفلسطينيّة بشكل مباشرٍ على مجمل علاقات الدّول العربيّة مع إسرائيل، وبالإمكان أن نقول إنّها كانت الحائل دون تقدّم وتعزّز مثل هذه العلاقات. أساس المعادلة، ببساطة، يكمنُ في أنّ الدّول العربيّة لن تقيمَ وتجري أيّ علاقات سلميّة طبيعيّة مع دولة إسرائيل، طالما ظلّت دولةً مُحْتَلَّة للشعب الفلسطينيّ، متجاهِلَةً حقوقه في الأرض والمسكن وبمعالجة قضيّة اللاجئين الفلسطينيّين. هذه المعادلة ظلّت سارية المفعول، حتّى حرب أكتوبر/رمضان بين مصر وإسرائيل، التي وَقَعَتَ عامَ 1973، فألحَقَت ضررًا كبيرًا بالأخيرة، ليبدأ بعدها مشوار بناء علاقات دبلوماسيّة-اقتصاديّة-سياحيّة-ثقافيّة مع كبرى الدّول العربيّة. ومَعَ بداية الثّمانينات من القرن الماضي، بدأ مشوار العلاقات الرّسميّة بين مصر وإسرائيل، والذي تطوَّرَ في سنيِّهِ الأُولى، وإن كان ذلك بمستويات متفاوتة. بعد ثلاث سنوات من زيارة الرّئيس المصريّ الرّاحل، محمّد أنور السّادات، إلى إسرائيل، عامَ 1977، يمكننا القول إنّ الانطلاقة الرّسميّة للعلاقات بين البلدين، جاءت مَعَ عام 1980، وذلك مع إنهاءِ المقاطعة الاقتصاديّة المصريّة لإسرائيل، حينَ أُنْشِئت سفارتان في كلّ من البلدين. وقد كانت مصرُ أولى الدّول العربيّة التي كسرت الحَظْرَ العربيّ لدولة إسرائيل، أي أنّها أُولى العلاقات الرّسميّة من قِبَلِ دولة عربيّة بعد وقوع كارثة النّكبة عامَ 1948.
إلّا أنّ العلاقات الإسرائيليّة المصريّة ظلّت، حتّى الآن، ومنذ بدء العلاقات بين البلدين، تتأثّرُ بشكل مباشر، من أيّ عدوان تقوم به إسرائيل على الضّفّة الغربيّة، قطاع غزّة أو أي منطقة عربيّة أُخرى، لتفتر العلاقة بينهما وتتراجع مع كلّ عدوان، وكان أوج هذا الفتور الحرب الإسرائيليّة على غزّة عام 2012، التي أطلَقَ عليها الإسرائيليّون اسم "عامود السّحاب"، إذ قام الرّئيس المصريّ المُنتَخَب، محمّد مرسي، بسحب السّفير المصريّ آنذاك، من السّفارة المصريّة في مدينة تل-أبيب. وجديرٌ بالذّكر، في هذا السّياق، أنّ الرّئيس الذي أعْقَبَ مرسي، عبد الفتّاح السّيسي، قام بعدَ ثلاث سنوات من سحب السّفير، بإعادته، فيما تحمل الخطوة من رمزيّة لترميم العلاقات التي تصدّعت. هذا المثال البارز، من شأنه أن يمنحنا صورةً للتذبذب في العلاقات المصريّة الإسرائيليّة، التي تصل إلى الحضيضِ، مع كلّ عدوان إسرائيليّ، على الفلسطينيّين أو على إحدى الدّول العربيّة. ومن المهمّ أن نشيرَ إلى أنّ سحب السّفير المصريّ من إسرائيل، هو أقصى درجة "عقاب" قامت بها مصر ضدّ الإسرائيليّين، لتظلّ حالة "السّلام البارد"، على حدّ تعبير الدّبلوماسيّ المصريّ رفيع المستوى، الرّاحل بطرس غالي، سيّد الموقف. أي أنّ الإبقاءَ على حالة السّلم هي الهدف الأوّل من وراء العلاقات المصريّة مع إسرائيل، من قبل المصريّين، على الأقلّ.
في ذات الآن، ظلّت مصر الوسيط الأوّل والأخير بين الإسرائيليّين والفلسطينيّين، إذ يكادُ لا يمكن تصوّر المفاوضات بين الجانبين الإسرائيليّ وقيادة حركة حماس في قطاع غزّة، دون الوسيط المصريّ، الذي لعبَ دورًا هامًّا في كثير من المحطّات التّفاوضيّة بين الطّرفين، وكان أوجها في صفقة الجنديّ الإسرائيليّ الأسير، غلعاد شاليط، عامَ 2011.
لم ينظر الإسرائيليّون والمصريّون إلى السّلام بذات الوُجْهَة والزّاوية، فيمكننا القول إنّ إسرائيل سعت إلى تحصيل المزيد من التّعاون الأمنيّ-الاقتصاديّ-الثّقافيّ-التّاريخيّ، إلّا أنّها قوبِلَت ببرودٍ وفتورٍ من قِبَلِ المؤسّسة المصريّة الحاكمة. كافّة البروتوكالات المرفقة لاتّفاقيّة السّلام بين إسرائيل ومصر، لم تُطَبَّق بكاملها، بل يمكننا القول إنّها طُبِّقَت بِحَدِّهَا الأدنى، وذلك على خلفيّة الاعتراض الشّعبيّ والمؤسّساتيّ، والتّخوّفات المصريّة من "اختراق" إسرائيليّ للمشهد المصريّ، كما اعتيد وصفُ التّعاون. يمكننا على سبيل المثال، أن نذكرَ في هذا السّياق التّعاون الّزراعيّ والاستثمار البحثيّ التّطبيقيّ في حقول الرّيف المصريّ الزّراعيّة، وهو مشروع بدأ ونجحَ جزئيًّا، إلّا أنّه تمّ إيقافه من قبَل المصريّين، بعد فترة ليست بطويلة. وهذا المثال ينطلي أيضًا على باقي الحقول التّعاونيّة، الأمنيّة-الاقتصاديّة-الثّقافيّة وغيرها.
أّوْجَدَ السيسي معادلةً أمنيّة جديدة، وفقها، صارَ "العدوّ" الرّئيسيّ لمصر هو ما يُسَمَّى بالمنظّمات الإرهابيّة، مثل الإخوان المسلمين، تنظيم الدّولة الإسلاميّة في العراق والشّام (داعش)، القاعدة، والأهمّ من كلّ ما سبق ذكره أنّ نظام السيسي قد أدخل حركة حماس إلى قائمة الحركات التي وصمتها بالإرهابيّة لتُحْظَرَ كامل نشاطاتها. وقد كان لقضيّة الحدود المشتركة بين غزّة المحكومة من قبل حركة حماس وشبه جزيرة سيناء، بالغ الأثر على استصدار أمر الحظر، تحسّبًا لأيّ تعاون أمنيّ-عسكريّ بين النّظام الحمساويّ والخلايا المتواجدة في سيناء. عدا عن هذه الخطوات التي حظرت حركات ووصمتها بالإرهاب، فإنّ النّظام المصريّ قد استثمر في علاقات كانت حتّى الأمس القريب، فاترة أو غير جيّدة، ويدور الحديث عن السّعوديّة، الإمارات العربيّة، الأردن والمغرب، وهذا بحدّ ذاته، يشكّل منحًى جديدًا في العلاقات الإقليميّة المصريّة، وتغيير وُجْهتها.
وقد تعاونت إسرائيل مع النظام المصريّ فترة السيسي، من أجل إرساء ثباتٍ أمنيّ-عسكريّ في كلّ من قطاع غزّة وشبه جزيرة سيناء، وهو ما أنتَجَ تعاونًا استخباراتيًّا بين إسرائيل ومصر، من أجل الحفاظ على الستاتوس-كو المتواجد. ويُشارُ إلى أنّ هذه التّعاونات قد أفضَت إلى تعاون مع النّظام الأميركيّ، من قبل مصر، كوسيط وكبلد مشارِكٍ في الحلف "السُّنِّيّ" ضدّ إيران، وهو حلفٌ جَلَبَ معهُ تغييرات كثيرة على السّاحة الإقليميّة والمحليّة في مصر. وقد تجلَّت هذه المعادلات العسكريّة الأمنيّة الجديدة في تصريحات الرّئيس المصريّ السّيسي، الذي لم يتوان عن تعديد "حسَنات" التّعاون مع دولة إسرائيل، في سياق تعاونٍ إقليميّ. ولم يتوقّف التّعاون الإسرائيليّ المصريّ عن التّواصل والتّعزّز، فقد التقى مسؤولون إسرائيليّون بنظرائهم المصريّين، قبيل إعادة جزيرتيّ صنافير وتيران إلى المملكة العربيّة السّعوديّة، وذلك وفق تصريحات سياسيّين إسرائيليّين، ناهيك عن أنّ المصريّين قد استشاروا الإسرائيليّين في سياقات إقليميّة أُخرى، مثل سدّ النّهضة الأثيوبيّ وغيره وغيره من الموضوعات. وفي هذا السّياق أودّ أن أشير إلى اللقاء الذي جمع رئيس الحكومة الإسرائيليّ، بنيامين نتنياهو، مَعَ الرّئيس المصريّ، عبد الفتّاح السّيسي، على هامش قمّة الأمم المتّحدة لعاميّ 2017 و 2018.
المُتابعُ للمشهد الإعلاميّ المصريّ، عمومًا، وبالذّات بعد انقلاب السّيسي والإطاحة بحكم محمّد مرسي، يجدُ أنّ التّجنَّدَ الإعلاميّ، بكافّة الوسائل الإعلاميّة، المكتوبة، المرئيّة والمسموعة، لم يكن مسبوقًا، بل شكَّلَ قفزَةً نوعيّة في الإعلام المجنّد، بما تحمله الكلمة من معنى سلبيّ. المعارضة في الإعلام المصريّ لم تعد موجودة، وبات المشهد كلّه بلون واحد وأوحد، لون السّلطة. شهدَ الإعلامُ المصريّ تحوّلًا حادًّا غير مسبوق في حملته التّحريضيّة ضدّ حركة حماس الإسلاميّة في غزّة، خصوصًا بعد أن قامَ نظام السّيسي بتعريف حركة حماس على أنّها "إرهابيّة" وفق تشريع قضائيّ أثارَ جدلًا على مستوى الوطن العربيّ قاطبةً. انضمَّ الإعلامُ بكاملِ طواقمِهِ، منابرِه ووسائطه إلى التّحريض ضدّ حركة حماس وضدّ الفلسطينيّين عمومًا، واصفًا إيّاهم بالإرهابيّين، متّخذًا من الحركات الإسلاميّة المتطرّفة المتواجدة في شبه جزيرة سيناء، ذريعةً من أجل زيادة منسوب ونبرة الخطاب المعادي للفلسطينيّين.
صار الإعلام المصريّ كلّه مكوّنًا من جوقةٍ واحدة، تمتدح الرّئيس ليل نهار، غير متطرّقة إلى أيّ عيب من عيوبه أو إلى أيّ عطب يعتري حكمه. هذا الزّخم في التّجنّد كان له بالغ الأثر في التّأثير على وعي الجماهير المُنْهَكَة، في سعي لقوننة وتشريع حكم السّيسي. يُشارُ إلى أنّ تيّارات عديدة، إسلاميّة، علمانيّة وغيرها، من مصر ومن غيرها من الدّول، لا تؤمن بشرعيّة حكم السّيسي، معتبرةً إيّاهُ حكمَ انقلاب عسكريّ. وقد سعت إسرائيل، بجهود حثيثة، من أجل التّأثير على الولايات المتّحدة الأميركيّة من أجل ألّا تحتسبَ هذا الحكم الجديد للسيسي انقلابًا عسكريًّا، خوفًا من مقاطعة مصر ونظامها العسكريّ الجديد، الذي رحّبت به إسرائيل أيّما ترحيب، وهو الأمر الذي لاقى استجابة وتفاعلًا أميركيّين.
هذا العداء الذي تبنّته وسائل الإعلام المصريّة، رُوفِقَ بزيادة التّعاون الأمنيّ الإسرائيليّ المصريّ، وفي أوّل مرّة منذ إعادة شبه جزيرة سيناء إلى المصريّين، أتَاحَت إسرائيلُ مؤخّرًا للمصريّين إدخال معدّات عسكريّة ثقيلة، كالدّبّابات والطّائرات المروحيّة وغيرها، من أجل القضاء على الحركات الإسلاميّة. جلبت هذه الحملة ضدّ الإسلاميّين في سيناء الكثير من الانتقادات لحكم السّيسي، الذي باشرَ يعتقلُ القيادات الإسلاميّة المختلفة، دون تمييز ودون هوادة ودون رحمة.
وفي عام 2016، شاركَ السّفير المصريّ، حازم خيرت، بمؤتمر هرتسليا السّادس عشر، وهي خطوة أخرى من قِبَل نظام السّيسي، في التّقرّب الأمنيّ السّياسيّ مع الإسرائيليّين. وذلك في سعيٍ مصريّ إلى تعزيز التّعاونات الاستراتيجيّة الأمنيّة مع إسرائيل، في تجاهل شبه مطلق للفلسطينيّين وحقوقهم.
بعد العدوان الإسرائيليّ على غزّة عام 2014، والذي أطلقت عليه إسرائيل اسم "الجرف الصّامد" بينما أطلقت عليه حركات المقاومة الفلسطينيّة اسم "العصف المأكول"، صار السيسي وسيطًا مقبولًا وناجعًا بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين وبين الفلسطينيّين أنفسهم أيضًا (حماس وفتح)، إذ أنّ مصر كانت وظلّت حتّى الآن الوسيط الأوحد بين حركتيّ حماس وفتح.
المعادلة المصريّة الإسرائيليّة اليوم، في شكلها الحاليّ، تبتغي الحفاظ على المصالح الأمنيّة المشتركة، وتعزيز حكم السّيسي، الذي يؤمن بالتّعاون، الأمنيّ على الأقلّ، مع إسرائيل. لكن مصر بذات الآن، تلعب دور الوسيط بين إسرائيل وبين النّظام الحمساويّ الحاكم في قطاع غزّة، وهو الأمر الذي يجعلُ مصرَ تمسكُ الحبلَ من طرفيه، فهي القامعة للنظام الحمساويّ، وهي التي حدَّد قضاؤها أنّ حركة حماس تعتبر حركة "إرهابيّة"، وفي ذات الآن هو الذي يعملُ وسيطًا بين الفلسطينيّين وإسرائيل.
لا يعتزمُ الحكمُ المصريّ بقيادة السّيسي، تغيير بوصلة مصالحه مع إسرائيل، بينما لا يعتزمُ في ذات الآن تبنّي القضيّة الفلسطينيّة وروايتها، ليظلّ خصمًا شرسًا للفلسطينيّين، الذين ليس بإمكانهم، وفق المعطيات الحاليّة، الاستغناء عن دولة بمكانة وحجم مصر، حتّى اللحظة، خصوصًا وأنّ دولًا كبيرةً عربيّة أخرى، لم تنجح في دعم القضيّة الفلسطينيّة بالحجم الكافي، وهو ما أبقى على مصر وسيطًا لا يمكن الاستغناء عنه، وإن كان قاسيَ الحُكْمِ على المواطنين الفلسطينيّين. الوضع الإقليميّ أدّى إلى تعاون إسرائيليّ مصريّ متقارب، اقترب فيه الطّرفان أكثر من أي وقت مضى، لتُهَمَّشَ القضيّة الفلسطينيّة، أو لتأخذَ معايير جديدة وفق معادلة جيو-سياسيّة مستحدثة.