الحدث ــ محمد بدر
أصبحت نظرية الردع منذ منتصف القرن العشرين أداة أساسية في تشكيل وإدارة العلاقات الدولية، واستحوذت على اهتمام الباحثين والأكاديميين، وحتى يومنا هذا لا يزال الردع يشكل جزءا مهما من طبيعة العلاقات الموجودة في هذا العالم، بدءا من علاقة الأفراد ببعضهم البعض كظاهرة إنسانية طبيعية (ما قبل المفهوم السياسي)، إلى علاقة الدول والجماعات ببعضها كظاهرة سياسية.
ورغم تطور البحث في نظرية الردع، إلا أن علاقة الردع بين الدول والجماعات ظلت الزاوية الأكثر ضعفا في جوهر هذه الأبحاث والدراسات، وظل الاعتقاد لدى الباحثين والسياسيين والعسكريين أن ردع الجماعات المسلحة قضية معقدة للغاية، لأن الردع بمفهومه التقليدي يمكن فهمه وتشكيله من خلال نماذج رياضية (خاصة الردع النووي)، لكن ردع الجماعات يحتاج لدراسة مكثفة في بيئة "الجماعة العدو" سيكولوجيا ونفسيا وثقافيا وسياسيا وأمنيا، لذلك فإن تقديم مقترح نظري في هذا الإطار مسألة غير مجدية وغير قابلة للتنفيذ.
وكمعالجة لهذه الفجوة البحثية، عملت "إسرائيل" على خلق لغة مفاهيمية في قضية الردع للتعامل مع كل جماعة على حدا، وعلى أساس هذه اللغة المتغيرة، تكيّف "إسرائيل" سياستها وتراجعها وتغيرها إن تطلب الأمر، كما وتحاول في بعض الأحيان خلق شروط جديدة لتناسب لغة مفاهيمية معدّة لتكريس وترسيخ الردع اتجاه الجماعات المعادية لها. هذه اللغة تعتمد بالأساس على منطق السؤال والإجابة، من يدعم هذه الجماعة؟ ما هي مصالحها في هذه المسألة وكيف ترتب هذه الجماعة مصالحها هرميا؟ كيف ستستجيب للتهديد في هذا الظرف السياسي أو الأمني أو الاجتماعي أو الاقتصادي؟.. ومن خلال هندسة قائمة طويلة من الأسئلة وقراءة مكثفة متنوعة افتراضية للإجابات تحاول "إسرائيل" بناء فعلها تجاه هذه الجماعات.
إن العوامل الأهم والمركزية والحاسمة في خلق الردع بعد الإجابة على الأسئلة الظرفية، تتأثر بعدة مستويات، في مقدمتها القدرة الموضوعية لـ"إسرائيل" على إلحاق الضرر بالجماعة، وهذا العامل يتشكل من خلال ثلاث مستويات؛ خصائص الصراع وبيئة الجماعة والقيود المفروضة على "إسرائيل" كدولة معترف بها دوليا (مع الإشارة إلى أن إسرائيل لا تراعي المستوى الثالث كثيرا)، والعامل الثاني ذو علاقة بالكيفية التي تتربط فيها الجماعة بـ"إسرائيل" وهو ما يعرف بـ"صورة العدو" وهذا العامل متبادل بين الطرفين، والعامل الثالث متمثل بمصالح "إسرائيل" وكذلك الجماعة، وهنا لا بد من التأكيد أن هذه العوامل تؤثر على الجماعة و"إسرائيل" وليست ذات اتجاه واحد.
السيد نصرالله و"إسرائيل" ومعايير جديدة للردع!
في 30.3.1996 خطب السيد حسن نصرالله من خلال تلفزيون المنار ووجه رسالة للإسرائيليين، قال لهم فيها: "أعرف أنكم سكان شمال إسرائيل دخلتم الملاجئ هذا المساء، وأنا أنصحكم بالبقاء هناك الليلة، وغدا وبعد الغد، لأننا قررنا مهاجمتكم... لقد مرت الأيام التي تقتل فيها إسرائيل شعبنا بلا ثأر..". هذه الكلمات وما تبعها من فعل من قبل حزب الله، يعتبرها باحثون إسرائيليون في مجال الأمن أنها خلقت جديدا بالنسبة لـ"إسرائيل" في مفاهيم الردع واللغة المفاهيمية التي تتعلق في هذا المجال، بعد أن كان تأثير الأشخاص في معادلات الردع شبه معدوم.
يعتبر الإسرائيليون أن نجاح السيد حسن نصرالله في التعرف على الثقافة الجماهيرية في "إسرائيل"، ونجاحه أيضا في خلق اتصال جماهيري مع الجمهور الإسرائيلي متجاوزا صانعي القرار الإسرائيليين من خلال استغلاله للبيروقراطية الإسرائيلية، من أهم العوامل التي ساعدت في خلق تأثير من قبله على "إسرائيل" وصانعي القرار فيها وجمهورها، وأن قدرته على بث رسائل واضحة للجمهور في "إسرائيل"، دون الحاجة إلى "وسطاء"، حسّن قدرة حزب الله في الردع ورفع من مستوى الردع لصالح الحزب.
إن رسائل السيد نصرالله الواضحة والبسيطة للجمهور الإسرائيلي، ضاعفت من الضغط على الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي تأثرت لسنوات طويلة من صور وآثار الكاتيوشا والمقاتلين، وأصبحت قدرات السيد نصرالله كشخص على الردع، من أهم المجالات التي يبحث فيها الإسرائيليون، ومن أهم المفاتيح التي توصلوا إليها في هذا المجال، هو مصداقية الرجل، وبالتالي فإن الدعاية الإعلامية الإسرائيلية الموجهة للداخل والخارج اليوم، تقوم على أساس التشكيك بكلامه ومحاولة إثبات عدم دقته، والمتتبع للصفحات التابعة للناطقين العسكريين الإسرائيلين أمثال أفيخاي أدرعي يستطيع اكتشاف ذلك بسهولة.
جدلية الحضور والغياب والردع!
يكتب الإسرائيليون كثيرا في الآونة الأخيرة عن غياب أو حضور السيد حسن نصرالله، وتكتشف من خلال تحليل الخطاب الإسرائيلي، أنه قد شكل عاملا آخرا في علاقة الردع بينه وبين "إسرائيل"، وتشعر أن حدود العلاقة بينه وبين "إسرائيل، تجاوزت علاقة "الدولة" و"قائد الجماعة"، وهو شعور يمكن العثور عليه باستمرار من خلال ندمهم المستمر على اغتيال للأمين العام السابق لحزب الله السيد عباس الموسوي. قبل أشهر، كتب الجنرال الإسرائيلي روعي ليفي المتخصص في الشأن اللبناني قبل أن يكون مسؤولا لتلك الجبهة، أن "إسرائيل أخطأت في اغتيال عباس الموسوي".
الإسرائيليون مهوسون بهذا الرجل أكثر من مناصريه ومؤيديه، ويراقبون ظهوره وغيابه كما لو أنهم يتمنوا لو يستطيعوا تجنيد ظله لصالح المخابرات الإسرائيلية. قبل عدة أشهر، اعتبرت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أن ظهور السيد حسن نصرالله بشكل مكشوف بين الناس؛ هو رفع لمستوى الردع على الجبهة الشمالية من جانب حزب الله، وأن السيد أراد بهذا الظهور أن يقول للإسرائيليين إن "إسرائيل" التي بحثت عني سنين لن تجرؤ اليوم على مهاجمتي لأن قرار كهذا سيكون بمثابة جريمة ترتكبها "إسرائيل" بحق نفسها قبل كل شيء.
بعد 12 سنة على الأقل (حرب لبنان الثانية) من البحث عن مكان السيد نصرالله، ظهر بشكل علني مكشوفا للطائرات الإسرائيلية التي تجمدت حركاتها ضده أمام المعادلات والمتغيرات الجديدة في المنطقة. الانتصار الذي حققه محور المقاومة في سوريا، والخزان البشري من المقاتلين المأطرين في هذا المحور والذين أصبحوا على بعد كيلومترات أو مئات الأمتار من "إسرائيل"، وتمكن الحزب من استغلال الأزمة السورية لتهريب أسلحة دقيقة كاسرا قواعد التهريب، كل ذلك يدفع "إسرائيل" للتفكير جيدا قبل مهاجمة السيد نصرالله أو حتى محاولة المساس به.
لكن، ومع انطلاق عملية الدرع الشمالي التي أعلن عنها الجيش الإسرائيلي لتدمير أنفاق حزب الله التي تخترق الحدود باتجاه الحدود الإسرائيلية، عاد السيد واختفى من جديد. وبحسب تقارير إسرائيلية، فإن إعلاميين محسوبين على محور المقاومة حاولوا التواصل معه لإجراء مقابلات عن العملية الإسرائيلية إلا أنهم لم يتلقوا رد من الحزب، وأن ذلك له تفسير واحد؛ هو أن السيد يتابع التطورات عن كثب على الحدود في إطار غرفة عمليات شكلها الحزب، وأن الحزب لا يمتلك موقفا نهائيا من العملية.
ومرة أخرى يقع الإسرائيليون في هوس غياب وحضور السيد حسن نصرالله. محللون إسرائيليون كبار اعتبروا أن غياب السيد بمثابة رسالة تهديد لـ"إسرائيل" ورفع لمستوى الردع ولكن هذه المرة من خلال الغياب، على عكس ما كانت عليه الحال قبل أشهر. وبحسب هؤلاء، فإن الرسالة مفادها أن الحزب دخل حالة طوارئ استعدادا للمواجهة وبالتالي غيّر من التكتيك الأمني المتبع، وأن القادة في "إسرائيل" فهموا الرسالة وظلوا يأكدون أن العملية لن تتجاوز الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهذا التأكيد الإسرائيلي المتكرر دفع مراسلون عسكريون إسرائيليون للقول إن "غياب وحضور نصرالله جدلية ردع جديدة".