تصميم النظم الانتخابية وإجراء الانتخابات ليست مسألة فنية بحتة، كما أنها ليست طريقا واحدا لتطبيق الديمقراطية، كما يعتقد البعض. وإنما جوهر الانتخابات ونظمها هي مسألة سياسية بالأساس، تعتمد على النقاشات والتفاهمات بين القوى المجتمعية والسياسية المنظمة. وفي هذا السياق، تشكل النظم الانتخابية أحد أبرز أدوات إدارة الصراع وتوزيع القوى في المجتمع، حيث يترتب على اختيار النظام الانتخابي تبعات كبيرة على مستقبل الحياة السياسية وإنتاج نظام سياسي بمواصفات محددة. وتتأثر مسألة اختيار النظام الانتخابي في الديمقراطيات الناشئة عادة إما بافتقاد القوى السياسية، أو بعضها، لإدراك أهمية النظم الانتخابية في تحديد مخرجات النظام السياسي والحياة السياسية بعد نتائج الانتخابات، أو بالعكس، قد تستغل بعض القوى معرفتها ووعيها بأهمية النظم الانتخابية، فتقوم "بتفصيل" و/أو اختيار ما يناسب مصالحها الحزبية. وهذا ما يفسر استمرار إجراء التعديلات على قوانين الانتخابات في الديمقراطيات الناشئة.
وبالتركيز على الحالة الفلسطينية، ومحاولة إماطة اللثام عن تجربتها الخاصة في تصميم النظم الانتخابية، يلاحظ مدى "توظيف النظم الانتخابية" لخدمة مصالح حركة فتح بالأساس. فقد جرت الانتخابات العامة الأولى في العام 1996 وفقاً لقانون رقم (13) لسنة 1995 بشأن الانتخابات بالاعتماد على نظام الأغلبية النسبية الانتخابي، حيث تم تقسيم الضفة الغربية وقطاع غزة إلى 16 دائرة انتخابية لانتخاب 88 عضواً للمجلس التشريعي الفلسطيني. وقد أتاح نظام الأغلبية للناخب الفلسطيني الحق في التصويت لعدد من المرشحين يساوي عدد المقاعد النيابية المخصصة لدائرته الانتخابية أو أقل، ويكون الفوز وفقاً لهذا النظام من نصيب المرشحين الذين يحصلون على أعلى الأصوات في المقاعد النيابية المخصصة لكل دائرة انتخابية. ولم يشترط هذا النظام الانتخابي الفوز بأغلبية مطلقة من عدد أصوات المقترعين. وقد خصص القانون عددا من المقاعد للمسيحيين بحيث وزعت بموجب مرسوم رئاسي. كما وتم تخصيص مقعد واحد للطائفة السامرية في دائرة نابلس.
ومن تحليل واقع النظام السياسي الفلسطيني حينها، كونه سلطة ناشئة يقودها الزعيم التاريخي الشهيد ياسر عرفات بعد توقيع اتفاقيات أوسلو، ومقاطعة حركتي حماس والجهاد الإسلامي، بالإضافة لمقاطعة عدد من الفصائل الرئيسة لمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد لاءم هذا النظام تلك المرحلة، وأنشأ مجلسا متجانسا، ومن لون سياسي واحد (حركة فتح)، وفاز الرئيس عرفات فوزا ساحقا بمنصب الرئاسة على منافسته الوحيدة المرحومة سميحة خليل.
وبتاريخ 18/6/2005 أقر المجلس التشريعي قانون الانتخابات العامة رقم (9) لسنة 2005، حيث اعتمد فيه النظام الانتخابي المختلط الذي يجمع مناصفة بين نظام الأغلبية النسبية (الدوائر)، ونظام التمثيل النسبي (القوائم). وزاد هذا القانون الجديد عدد أعضاء المجلس التشريعي الفلسطيني بـ 44 مقعدا ليصبح 132 عضواً، يتم انتخاب 66 عضواً وفق نظام الأغلبية النسبية بحيث يتم توزيع المقاعد على الدوائر الانتخابية وفق عدد السكان في الدائرة، وبما لا يقل عن مقعد واحد لكل دائرة، فيما يتم انتخاب الـ 66 عضواً الآخرين وفق نظام التمثيل النسبي (القوائم المغلقة) باعتبار فلسطين دائرة واحدة. كانت النتيجة وجود نظام انتخابي "مشوه".
يمكن القول بثقة، إن هذا "التشويه" للنظام الانتخابي ونتائجه المتطرفة كان أحد أهم الأسباب المسؤولة التي أدت إلى كارثة الانقسام السياسي الداخلي بين الضفة الغربية وقطاع غزة عام 2007. فبينما اكتسحت حركة حماس مقاعد المجلس التشريعي في الانتخابات العامة التشريعية التي جرت في 25/1/2006، فقد تركز فوزها الأساس في أغلبية المقاعد الفردية التي خصصت للدوائر، مقارنة بالتصويت للقائمة النسبية الموحدة الذي كان متقاربا جدا بين حركتي حماس وفتح، إذ لم تحرز كتلة حركة حماس سوى 29 مقعدا مقابل حصول كتلة حركة فتح على 28 مقعدا.
إن تحليل نتائج الانتخابات يظهر أن حركة فتح قد خسرت مقاعد بعض الدوائر الانتخابية الفردية على الرغم من أن حصيلة الأصوات التي حصدها مرشحو الحركة تفوق بكثير ما حصلت عليه حركة حماس، مثلما حصل في دائرة سلفيت مثلا، وذلك لأن النظام الأغلبي/ الفردي يعتمد الفوز به على وجود تنظيم مركزي قوي وتصويت والتزام صارم، وهو ما أخفقت فيه حركة فتح، حيث كثر مرشحوها المتنافسون في الدائرة الواحدة.
وطرأ التغيير الأساسي الثالث على القانون الانتخابي في الثاني من أيلول 2007، وتمثل بإصدار الرئيس الفلسطيني محمود عباس قراراً بقانون رقم (1) لسنة 2007 بشأن الانتخابات العامة، يقضي بإلغاء قانون الانتخابات الفلسطيني رقم (9) 2005، واعتماد مبدأ التمثيل النسبي الكامل في انتخابات المجلس التشريعي (نظام القوائم) باعتبار الأراضي الفلسطينية دائرة انتخابية واحدة، بدلاً من النظام المختلط المحدد في القانون رقم (9) لسنة 2005 والذي نظمت الانتخابات التشريعية الأخيرة لعام 2006 على أساسه وبموجبه. وعليه، يتم انتخاب جميع أعضاء المجلس التشريعي وفق نظام القوائم المغلقة على مستوى الوطن، ويتم توزيع المقاعد على القوائم الانتخابية بطريقة نسبية وفق طريقة "سانت لوغي". ومن الواضح أن هذا التغيير للقانون الانتخابي جاء بناء على تجربة انتخابات 2006 وفوز حركة حماس بها وذلك في محاولة لتلافي تكرار هذا الفوز مرة أخرى.
إن التعديلات المتكررة على قوانين الانتخابات وتحديدا ما يتعلق منها بطبيعة النظام الانتخابي، تدل على إدراك "اللاعبين" الفلسطينيين بأهمية النظم الانتخابية في تحديد توزيع خارطة القوى الحزبية ممثلة بعدد المقاعد في المجلس التشريعي، وعلاقة النظم الانتخابية في إنتاج وتحديد طبيعة النظام السياسي المتوقع بعد إجراء الانتخابات وفقا للنظام الانتخابي الذي يتم اختياره وتصميمه لهذه الغاية. كما تؤشر تعديلات النظام الانتخابي أو رفض التعديلات على وعي وإدراك القوى الفلسطينية المؤثرة بأن النظام الانتخابي هو ترجمة للأصوات التي يتم الإدلاء بها إلى مقاعد باستخدام أحد النظم الانتخابية سواء الأغلبية أو النسبية أو المختلطة، بالإضافة إلى المعادلة الحسابية التي تستخدم لاحتساب المقاعد وبنية وشكل ورقة الاقتراع، وطبيعة التصويت فيما إذا يصوت الناخب لمرشح واحد أو لقائمة سواء أكانت مفتوحة أم مغلقة أم محددة لعدد من المرشحين بالارتباط مع عدد المقاعد المخصصة للدائرة الانتخابية. فضلا عن ذلك، فإن للنظم الانتخابية علاقة مباشرة برسم حدود الدوائر الانتخابية، وتسجيل الناخبين، وتصميم ورقة الاقتراع، وطريقة فرز الأصوات، والمدة المطلوبة لإعلان النتائج، بالإضافة إلى قضايا عديدة أخرى.
وبمعنى آخر، يمكن للنظام الانتخابي أن يجعلنا نتنبأ بالفائز/ين في العملية الانتخابية، ونتوقع شكل الحكومة سواء حكومة أقلية أو ائتلافية، أو تفرد حزب أو قائمة واحدة بالسلطة، وتقدير توزيع خارطة القوى الحزبية في المجتمع. غير أنه لا بد من التنويه بأن أهم مميزات النظام الانتخابي المناسب و"الذكي" هو ذلك الذي يحافظ على جميع القوى المتنافسة "داخل اللعبة" دون إقصاء أو تجاوز، بنفس الوقت الذي لا يسمح للخاسرين بالعمل من خارج النظام ولا يتيح للقوى غير القانعة بنتائج الانتخابات من اللجوء إلى وسائل غير ديمقراطية في العمل للانقلاب على الرابحين.
نظريا وواقعيا، تصنف النظم الانتخابية الأساسية في العالم في ثلاث عائلات أساسية، يندرج تحتها 12 نظاما رئيسيا، أهمها: نظام الصوت البديل، ونظام يوردا، ونظام الكتلة، ونظام الفائز الأول، ونظام الصوت المحدود، ونظام القائمة النسبية، ونظام النسبية المختلطة، ونظام التمثيل النسبي، ونظام الصوت الواحد غير المتحول، ونظام الصوت الواحد المتحول. وبدون الخوض بالكثير من التفاصيل الفنية حول مميزات وسلبيات كل نظام، إلا أنها تتمحور جميعها حول الموقف من العمل الحزبي وتشجيعه، وفرص تمثيل المرأة والأقليات، وعلاقة النظام بإعادة الاستقرار إلى المجتمعات المنقسمة، وتنظيم قواعد "اللعبة" السياسية تحت سقف واحد، وهو ما فشلت فيه حتى الآن جميع المحاولات والمبادرات المتعلقة بإنهاء الانقسام الداخلي الفلسطيني وإعادة الوحدة وترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، في الوقت الذي يعارض البعض الانتخابات تحسبا لأية نتائج غير متوقعة تؤدي إلى مزيد من التشرذم والانقسام.
ومع التلويح بإجراء الانتخابات العامة الرئاسية والتشريعية في عديد المناسبات، والتي كان آخرها الإعلان عن حل المجلس التشريعي في كانون الأول 2018، والتوجه للدعوة إلى الانتخابات خلال فترة الستة أشهر المقبلة، فإن هناك خطرا مستمرا يتعلق بإمكانية التوافق على عقدها بالإضافة إلى ضبابية توقع النتائج، وإمكانية أن تقصي تلك النتائج أطرافا أساسية أو تاريخية من القوى المجتمعية الفلسطينية، وتعمق حالة الانقسام أكثر بدلا من أن تكون الانتخابات حلا لهذا الانقسام البغيض، مع ترجيح دائم لمنع إجراء الانتخابات في القدس من قبل الاحتلال الإسرائيلي، علاوة على العديد من المعيقات الأخرى.
ويبقى السؤال المفتاحي ما المطلوب للخروج من "عنق الزجاجة" هذا فيما يخص الأنظمة الانتخابية التي أنتجت الانقسام الداخلي؟ ولتقديم جواب مبدئي على هذا السؤال، يمكن تقديم مساهمة متواضعة في الإجابة لمحاولة تلمس الحل في هذه المرحلة المعقدة. وربما من المحتم الآن أن نبدأ بتحديد معايير تتصل بماذا نريد، وماذا لا نريد، حتى نضمن تصميم نظام انتخابي ذكي وفعال يحظى بالإجماع سواء للانتخابات العامة أو لانتخابات المجلس الوطني أينما أمكن ذلك، ويكون خاصا بفترة التحرر الوطني، حتى نضمن سقفا جامعاً لجميع "اللاعبين" والقوى المجتمعية والسياسية.
أما أهم ملامح عناصر النظام الانتخابي المقترح للانتخابات العامة في الضفة الغربية وقطاع غزة:
1. نظام التمثيل النسبي الكامل، واعتبار الوطن دائرة واحدة، وهو ما يتيح إمكانية حل مشكلة تصويت المقدسيين أو أي تجمع فلسطيني آخر في حال تم منعهم من فتح المراكز والإدلاء بالأصوات، وهو النظام الأكثر استخداما وعدالة على مستوى العالم.
2. تكون القوائم مفتوحة وفقاً لنظام الصوت الواحد المتحول، حيث يأتي الاختيار وترتيب الناخبين داخل القائمة الواحدة وفقا لإرادة الناخبين، ما يضمن أن تقوم القوائم والأحزاب باختيار وترتيب المرشحين حسب معايير الكفاءة والمؤهل العلمي والنزاهة، وإلا فإن الناخبين أصحاب الحق الأصلي هم من سيقومون بهذه المهمة.
3. يشترط في جميع القوائم مراعاة التمثيل الجغرافي وتمثيل المرأة والشباب.
4. تخصص مقاعد مضمونة "للأقليات" (الطائفة المسيحية والسامرية) بالإضافة إلى تخصيص نسبة للمرأة لا تقل عن 25%، كما ويراعى أيضا تمثيل الشباب ومشاركتهم لضمان تفاعلهم وإعادة الأمل إليهم وعدم عزوفهم عن الانتخابات.
5. تخفيض نسبة الحسم إلى أدنى حد ومحاولة أن لا تتجاوز الـ 1%.
6. ضمان مقعد واحد كحد أدنى للفصائل التاريخية في منظمة التحرير.
7. لا يحصل أي من المتنافسين على أكثر من 35-40% كحد أعلى من المقاعد المخصصة للمجلس التشريعي، حتى ولو حصل على أعلى النتائج.
8. تجري الانتخابات الرئاسية على جولتين في حال لم يحصل أحد المرشحين على أكثر من 50% من أصوات الناخبين من الجولة الأولى، حيث يتنافس الحاصل على أعلى الأصوات مع الحاصل على ثاني أعلى نسبة أو عدد للأصوات.
9. عدم تغيير النظام الانتخابي إلا بعد تفاهم وتوافق بين مختلف القوى المجتمعية والسياسية الفلسطينية.
ومع أن هناك صعوبات كبيرة وتحديات فنية ولوجستية ستواجه تصميم وتنفيذ هذا النظام الانتخابي المعقد، إلا أن النظام قابل للإعداد والتنفيذ، وينشئ قواعد جديدة للعمل السياسي الفلسطيني تبنى على الشراكة وعدم الإقصاء، ويسمح بوجود الجميع تحت قبة واحدة، ويمنع تفرد أي حزب أو قائمة بمقاليد الحياة السياسية خلال مرحلة التحرر الوطني.
أما انتخابات المجلس الوطني في الشتات، فيمكن تنفيذها من خلال البدء بتحديد خمس أو ست دوائر انتخابية رئيسية كبرى بالاعتماد على عدد الفلسطينيين المتواجدين في كل دائرة انتخابية، والاتفاقيات التي يتوجب على دولة فلسطينيين توقيعها مع الدول المستضيفة للسماح للفلسطينيين هناك بإجراء الانتخابات فيها، بالإضافة إلى حملة التسجيل الإلكتروني والمباشر التي يجب أن تفتح في أقرب فرصة، ويجري تنفيذها وفقا للمعايير نفسها الواردة في النقاط 2، 3، 4، 6، 7 أعلاه، وفي الأماكن التي يمكن إجراء الانتخابات فيها، وليس بالضرورة وفقا لمبدأ التزامن.