ارتسم الحزن واضحًا على قسمات وجه، الفلسطينية روان علي (اسمها المستعار)، عندما أمسكت بيد صغيرها "عبد الرحمن" صاحب الشعر الأشقر، وغادرا الجمعية الوحيدة في قطاع غزة التي تهتم بأطفال مرضى التوحد.
فأمنيتها بأن تجد ثمة مقعد شاغر، داخل الجمعية، للعناية بطفلها مريض التوحد، الذي لم يتجاوز الأربع سنوات، اصطدمت بقائمة انتظار طويلة تسبقها، العشرات من الأطفال المرضى، الذين يبحثون عن العلاج.
وتقول الأم، العشرينية، "أنا في حيرة من أمري أين سأذهب وماذا سأفعل، لا مكان آخر أتجه إليه، هل يوجد معاناة وألم أكثر من هذا، أن يكون فلذة كبدي، مريض ولا يجد مكانًا لتقديم العلاج له".
وبعد أن أحكمت روان قبضة يدها على صغيرها الذي بدأ بالصراخ فجأة، وحاول أن يبتعد عنها: "لا أعرف كيف أتعامل معه، إنه دائم الصراخ، والبكاء، والضحك أيضًا، ولا أعرف ماذا يريد".
وتابعت روان، التي تحفظت على ذكر اسمها الحقيقي، أو التقاط صور لها ولصغيرها، خوفًا من نظرة المجتمع السلبية:" الوقت يمر، يجب علاجه، أين حقوق الأطفال في العلاج، أليس من حق ابني أن تتم معالجته، ودمجه في الحياة "
وأكثر ما يثير ألم روان ألا تجد أي جهة تهتم بابنها، في أسرع وقت ممكن، حتى تساعده على تحسين سلوكه، على أقل تقدير.
ولا توجد في قطاع غزة، مراكز وجمعيات حكومية، تقدم العناية اللازمة، لمرضى التوحد، إنما يقتصر الأمر على عدد محدود جدًا من الجمعيّات الخيرية.
ولا تكاد تتجاوز عدد الجمعيات والمراكز الخاصة، التي تقدم الرعاية لتلك الفئة، في قطاع غزة، الأربع جمعيات على مستوى القطاع، واحدة فقط مرخصة من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية.
ولا تتوفر إحصائيات رسمية، تكشف عن أعداد مرضى التوحد، من كافة الأعمار، كما قال رامي النتيل، مدير دائرة تأهيل الأشخاص ذوي الإعاقة، في وزارة الشؤون الاجتماعية بغزة.
وقال النتيل متحدثًا لـ"الأناضول"، إن هذه الفئة من ذوي الاحتياجات الخاصة، تحتاج إلى ميزانية ضخمة، لتوفير العناية اللازمة لها، ومراكز كبيرة جدًا، وهذا ما تعجز الوزارة عن توفير، في ظل الانقسام الفلسطيني، والحصار، والأزمة المالية التي تعاني منها".
وأضاف:" حتى الجمعيات الموجودة في قطاع غزة، متواضعة جدًا، ولا تمتلك الحد الأدنى من الامكانيات اللازمة، ولا يتواجد الأخصائيين، في هذا المجال، فقط، إنما الأمر يعتمد على خريجي أقسام التأهيل العام".
ويعتبر مرض التوحد من الإعاقات التي تؤثر على تطور القدرات العقلية عند الأطفال وطريقة تواصلهم مع الآخرين، ولا يستطيع الأشخاص المصابين إقامة علاقات، مع الآخرين ويعجزون أيضا عن فهم العالم حولهم.
ويعاني مريض التوحد، الذي لم يتم تحديد أسبابه علميًا، حتى الآن، من أعراض تتمثل في تشتت الانتباه، والعصبية، الشديدة، وقصور في التواصل مع الآخرين.
والدة الطفل عبد الله البرش، "7 سنوات"، المريض بالتوحد، تقول إن طفلها يتلقى العناية في جمعية "الحق في الحياة" بغزة، إلا أنها مع بداية لا تستطيع دومًا تدبر تكاليف علاجه ورسوم التحاقه بالجمعية".
وتضيف البرش لمراسلة الأناضول:" ابني يحتاج بعض الأدوية، ولديه نظام غذائي خاص به، وهذا ما لا نستطيع توفيره له دومًا، فزوجي لا يعمل بوظيفة دائمة، ولا يجد عملا يوفر من خلاله راتب شهري ثابت".
وطرقت البرش، كما تقول، عدة أبواب لجهات حكومية، طلبًا للعون والمساعدة، إلا أنها لم تجد الاهتمام بذلك، "أتمنى أن يتم تهيئة الظروف الملائمة لهؤلاء الأطفال، حتى يندمجوا في المجتمع"، حسب البرش.
وتتساءل "البرش" عن "دور الجهات الرسمية والحكومية في العناية بهذا الفئة من المرضى".
ويقول أحمد أبو ندى، أخصائي التخاطب وتأهيل مرضى التوحد، إنه "لا يوجد علاج لهذا المرض، فالمصاب به يعيشه معه طيلة حياته، لكن اكتشافه مبكران وتقديم الرعاية اللازمة، يساعد المريض على الاندماج مع الآخرين، وتجاوز العديد من الصعوبات في الحياة الاجتماعية".
ويصف خلال حديثه مع "الأناضول"، الأوضاع المعيشية لمن يعانون من هذا المرض، في غزة بـ "المزرية"، فالقطاع يفتقر للأخصائيين في هذا المجال، مضيفًا:" الجهات الحكومية لا تولي اهتمامها بهذه الفئة، مما ينعكس سلبًا على حياتهم".
ويرى أبو ندى أن "الخبرات في هذا المجال رغم أنها مازالت تعاني من الضعف الشديد، إلا أنها أفضل من الأعوام الماضية، لكنها تحتاج أيضًا إلى التدريب".
وحسب أبو ندى فإن المرض انتشر في غزة، بنسبة كبيرة في الآونة الأخيرة، مقارنة مع السنوات الماضية، فقبل نحو 6 أعوام، بالكاد كان يُسمع عن المرض في غزة، إلا أنه حاليا لا يكاد يمر يوم دون أن يسجل حالتين أو ثلاث.
واستطرد" بعض الدراسات أكدت أنه إذا تعرضت الأم خلال فترة الحمل إلى ضغوط نفسية، فهذا يرفع احتمالية إنجاب أطفال متوحدون، وفي غزة الحصار والفقر والحروب، خلّفت ضغوطًا نفسية حادة لدى الجميع".
ويتابع:" أطفال غزة عايشوا ثلاثة حروب، وشاهدوا الدماء وربما الجثث أو قد يكون أحد أفراد عائلتهم مات أمام أعينهم، مما قد يشكل ذلك عامل قوي في اصاباتهم بالتوحد المكتسب، الذي يمكن الشفاء منه".
ويعزو أبو ندى هذا التزايد أيضًا، إلى التلوث البيئي الذي خلفته الحروب الإسرائيلية، بسبب استخدام الاسلحة المحرمة دولية، كما أكدت بعض الدراسات، مما أدى إلى إنجاب العديد من الأطفال الذين يعانون إعاقات متعددة، ومن بينها التوحد وفق قوله.
وخلال ست سنوات، شنت إسرائيل ثلاثة حروب على قطاع غزة، أودت بحياة الآلاف من الفلسطينيين، كان آخرها التي شنتها مطلع شهر يوليو/تموز الماضي.
نبيل جنيد، مدير البرامج في جمعية الحق في الحياة، الجمعية الوحيدة، في غزة المتخصصة في هذا المجال، قال إن "إمكانيات جمعيته، لا تمكنه من استقبال أي من الأطفال المرضى".
وأضاف:" اضطررنا لإلحاق 6 أطفال في الفصل الواحد، وهذا ليس جيدًا على الإطلاق، وشاق جدًا، فأخصائي التوحد كحد أقصى يتولى رعاية طفلين".
ويحتاج مريض التوحد إلى مراقبة لساعات طويلة خلال اليوم، وأدوات وطريقة حياة خاصة، ومن الأفضل أن يشرف الأخصائي على مريض واحد فقط، وفق جنيد.
وأشار إلى أن عدم الاهتمام الرسمي، غياب الدعم والتمويل للجمعية، التي تعرض جزء منها للقصف خلال الحرب، يعيقان تقليل عدد الأطفال في الفصل الواحد، أو استقبال أي طلبة جدد".
ولفت جنيد إلى أن الحصار كان له دور في إيجاد صعوبات في عملهم، حيث منع إغلاق المعبر من استيراد بعض الأجهزة والأدوات، وأعاق أيضًا، سفر العديد من الأخصائيين للخارج لتلقي الدورات والخبرات، فمعظمهم هنا يعتمد على التعليم الذاتي".
وأردف:" على وزارة التربية والتعليم أن تفتح الأقسام الجامعية المتخصصة بهذا المرض، ولا تكتفي ببرامج الدبلوم العام في مجال تأهيل المعاقين".
وتحاصر إسرائيل غزة، حيث يعيش أكثر من 1.8 مليون نسمة، منذ أن فازت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالانتخابات التشريعية في يناير/ كانون الثاني 2006، ثم شددت الحصار إثر سيطرة الحركة على القطاع منتصف العام 2007.
وذكر جنيد أن هناك نحو 60 طفلا ينتظرون، الانضمام للجمعية لتقلي العناية اللازمة، لكنه لا يستطيع قبولهم، لعدم ملائمة إمكانيات الجمعية.
وتستوعب جمعية الحق في الحياة "خيرية"، التي تعتمد في جزء من تمويلها على رسوم رمزية من أهالي الأطفال، 66 طفل في البرنامج اليومي للتأهيل، و60 آخرين، تحت سن الرابعة، في برنامج التدخل المبكر.
ويقول جنيد، أنه ثبت بالملاحظة تزايد ملحوظ في عدد الأطفال المنتسبين للجمعية، بعد مرور وقت على انتهاء الحروب الإسرائيلية على القطاع.