كتب: الأسير خليل أبو عرام*
يروق لي البدء بما قال أحدهم: ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل، وما قاله آخر حاثاً على العلم: أطلبوا العلم ولو في الصين، لأضيف وبدون تردد أو مبالغة أو وجل
"أطلب العلم ولو في السجن"
بنظرة فاحصة وتقييمية إلى الأعوام القليلة الماضية على بدء مسيرة التعليم الجامعي داخل قلاع الأسر نجد وبشكل واضح أن هذا المشروع الهادف والمميز وذو طابع الإبداع والتحدي للذات أولاً ولحكومة الاحتلال وسلطاتها المتطرفة على حد سواء قد أحدث قفزة نوعية وأحدث بوناً شاسعاً وتعبيراً جلياً وملحوظاً فكرياً وعلمياً وسياسياً وتنظيمياً ونفسياً لدى الأسرى الملتحقين بهذا البرنامج الريادي الذي أرسى أسسه المناضل د. مروان البرغوثي وقاده وأشرف عليه وباتت نتائجه واضحة وملموسة للقاصي والداني وسواء كان هذا التعبير على صعيد الأسير ذاته نفسياً ومعرفياً واجتماعياً أو على صعيد ذويه ومجتمعه ومحبيه نفسياً ومعنوياً ناهيك عن الجانب المعنوي لمن تحرر وقد أنجز وحصل على الشهادة التعليمية.
وشكلت هذه العملية التعليمية نقلة نوعية وحراكا ثقافيا وفكريا في أوساط الأسرى خاصة في ظل هذا الخواء الفكري والسياسي والثقافي لدى الفصائل الفلسطينية بشكل عام مما جعل العملية التعليمية تقدم بديلاً متميزاً، وقد أصبح التعليم الجامعي داخل السجون حقيقة راسخة وشكل تخرج عدد من الطلبة من حملة الشهادات من درجتي البكالوريوس والماجستير من جامعة القدس مصدر اعتزاز وفخر وباتت تتصدر إنجازات الحركة الوطنية الأسيرة بمجملها وإكليلاً يتوج جامعاتنا الفلسطينية وبخاصة التي لبت نداء الواجب الوطني واستجابت لمطالب الأسرى من خلال المبادرة التي قدمها الأسير مروان البرغوثي الذي يتولى إشراف وإدارة هذا البرنامج بالتعاون مع جامعة القدس، مما شكل جسر عبور وتحدٍ وقطع الطريق أمام محاولات حكومة الاحتلال العنصرية الساعية إلى حرمان أبناء شعبنا داخل سجونها من ممارسة حقهم في التعليم من خلال سنها لما عرف بقانون شاليط عام 2010 والقاضي بمنع الأسرى الفلسطينيين من إكمال مسيرتهم التعليمية في الجامعة العبرية المفتوحة والتي لم يكن مسموحاً غيرها حينذاك، والتي انحصرت الاستفادة منها ببضع عشرات من الأسرى ووفق شروط تتحكم بها إدارة السجون، بينما الدراسة الآن يتحكم بها الأسرى أنفسهم، وبذلك فإن لهذه المبادرة الوطنية الرائدة دوراً في تحرير الأسرى في هذا المجال العلمي والثقافي من قبضة السجان، وأعود مجدداً إلى مقولة "ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل وما ضاقت بلاد بأهلها لكن أحلام الرجال تضيق".
وبالرغم من ضيق السجون وقسوة ظروفها وظلمتها الحالكة وضيق العيش والحرمان وطول السنين وشدة الأحكام القسرية الإجرامية المفروضة على الأسير لكن ذلك لم يفقده الأمل وظل ينظر للحياة من خلال نافذة الأمل وبنظرة التفاؤل لأن الأسرى مؤمنون أن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
إن الدراسة الأكاديمية أدت إلى صقل الذات وإلى الالتزام بأهمية المعرفة وتعزيز الروح الثقافية والنقاش الفكري، ما عزز من معنويات الأسير واعتزازه بذاته، وشعر بتحقيق الذات والمكانة حيث استبدل رقم الأسير بالرقم الجامعي وشكل ذلك أحد أرقى أشكال مقاومة السجان الذي يحاول تجهيل الأسرى وقتل إرادتهم وروحهم وإضعاف إيمانهم بشعبهم وبقضيتهم ورغم كل الإجراءات التي لجأت إليها مصلحة السجون للتضييق على العملية التعليمية، إلا أن ذلك لم ينجح في إيقاف قاطرة العملية التعليمية التي انطلق قطارها وقد تخرج العشرات من حملة شهادات البكالوريوس والماجستير والذين أصبحوا رواداً للعملية التعليمية في كافة السجون ويقودون العملية التعليمية ويكافحون من أجل رفع مستوى الأسرى وتأهيلهم وتسليحهم بالثقافة والعلم وفق الشروط والقواعد التي حددتها جامعة القدس وكذلك جامعة القدس المفتوحة.
إن من يعيش التجربة من أمثالي والذي حرم من مواصلة التعليم بسبب الاعتقالات المتكررة والتي كان آخرها منذ عام 2002 حتى الآن، حيث لم أتمكن من إكمال دراستي الأكاديمية رغم أنني طالب مسجل منذ نهاية الانتفاضة الأولى في عام 1991، يقرّ بفضل هذا البرنامج وهذه الفرصة العظيمة تمكنت من الحصول على شهادة البكالوريوس وإنهاء متطلبات التخرج من جامعة القدس المفتوحة وحصلت على شهادة الماجستير في الدراسات العالمية مسار دراسات إسرائيلية من جامعة القدس.
إن الناظر لمساحات السجن على الرغم من ضيقها وقسوة بردها وشتائها وحر صيفها يجد هذه المجموعات والصفوف تنتظم على مدى ساعات النهار دون انقطاع وبشكل مضاعف من عدد المحاضرات في الجامعة خارج السجن والقيام بواجبات لإعداد البحوث والتقارير في كافة المساقات ونسبة الحضور هي مائة بالمائة ودون غياب والمحاضرة في حالة الماجستير تستغرق أربع ساعات ونصف متتالية وفي البكالوريوس ساعتين كاملتين وأنت ترى هؤلاء المناضلين الذين حرمتهم ظروف النضال والاعتقال من فرصة التعليم ترى عظمة هذه الفرصة النادرة، وأنا واحد من الأسرى الذين حالفهم الحظ ونالوا شهادة الماجستير من جامعة القدس قبل ما يزيد عن عام، حيث راقبت وكنت جزءاً من هذا الجهد الإنساني الذي بلغ من النجاح الوطني والرقي والتطور درجة تثير كل الإشادة والإعجاب، وكما ذكرت فإن رحلتي شاقة وطويلة بدأت في جامعة الخليل بسنة قبل اعتقالي ثم في جامعة القدس المفتوحة داخل السجن وإكمال درجة البكالوريوس ثم في جامعة القدس للحصول على الماجستير، وقد سارت هذه التجربة وشقت طريقها بتروي وحكمة متنقلة خطوة بعد أخرى ببطء وثبات وعكست صورة تعليمية مشرقة وأبدى الطلبة الأسرى التزامهم الشديد للحفاظ على هذا الإنجاز الهام والحيوي والحفاظ على مصداقية هذا البرنامج والوفاء بالأمانة كما تستحق، حيث تحولت ملفات التعليم إلى نوافذ أمل للحرية وانتقلت إلى حالة من النقاش والحوار الواعي والناضج الذي لا نظير له في أي مكان لأن في الحلقة أسرى (طلبة) جامعيين من فتح وحماس والجهاد والجبهتين الشعبية والديمقراطية يتحاورون ويصغون لبعضهم البعض ويطورون معارفهم وثقافتهم ويتناقشون في كل شيء وتعلو أصواتهم تارة ولكن في إطار الاحترام والإصغاء لوجهة النظر الأخرى، كما أن المدرسة الفكرية التي ينتمي إليها الأسرى في السجون فريدة من نوعها وغير معهودة في التعليم الفلسطيني وهي تنمي بشكل هائل أسلوب التفكير النقدي والإيمان العميق بالحرية ونسبية الحقيقة وسيادة العقل وأهمية الحوار والإصغاء والمطالعة وإنجاز الأبحاث وفق المعايير العلمية الصحيحة ورغم منغصات الأسر إلا أن هذا حول الزمن القاسي والمرير إلى أداة إنتاج وفعل لدى الأسرى وخلقت العملية التعليمية أجواء جديدة من التناغم والتفاعل الأكاديمي وغيرت من سلوك التفكير السطحي لدى الكثير من الأسرى الذين ما كان لهم أن يطوروا كفاءاتهم وينظرون للحياة بشكل جديد لولا التحاقهم بهذه المسيرة التعليمية المميزة، وفتح نافذة الأمل والتفاؤل أمامهم من جديد وبطبيعة الحال وبسبب الظروف فإن الطلبة يعيشون معا على مدار الساعة وبدون حواجز أو فوارق اجتماعية أو طبقية، كما أن الطلبة أكثر نضجاً فكرياً وسياسياً ولديهم رغبة جامحة في تحقيق حلم حرموا من تحقيقه في الماضي.
ويرى الأسرى سواء من يقوم بالتدريس أو الطلبة أنهم يقومون بتأدية واجب وطني وثقافي وأخلاقي وصقل لثقافة وفكر ونفسية المناضلين ليكونوا أكثر قدرة على المساهمة في بناء حلم شعبهم في الحرية والعودة والاستقلال.
إن هذه التجربة الغنية والفريدة لدى الطلبة الأسرى في السجون والتي كان يتوق الأسرى لتحقيقها قبل أعوام أصبحت حقيقة ملموسة ومنحت فرصاً كبيرة على كافة الصعد وشكلت نقلة نوعية للأسير وذويه وخلقت أجواء أكاديمية ما كان لها أن تكون لولا هذا القرار من جامعاتنا الوطنية ولولا الجهد الاستثنائي والمميز والنادر والمثمر الذي بذله الأخ والصديق د. مروان البرغوثي والذي قطف ثماره عدد كبير من الأسرى المناضلين على اختلاف انتماءاتهم الفصائلية، وإنني شخصياً فخور بهذه التجربة وبهذا الإنجاز وأشعر أنني ولدت من جديد رغم الأسر وأن التعليم منحني قدراً عظيماً من الحرية بانتظار الحقيقية القادمة لا محالة.
* المحكوم بالسجن المؤبد