الجمعة  22 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

تطريزةٌ بألف طلقة كتب: الواثق طه

2019-01-18 06:05:51 PM
تطريزةٌ بألف طلقة
كتب: الواثق طه
الواثق طه

قبيحٌ هو الجهل، وقبيحٌ هو التنكّر للذات والتاريخ، وقبيحٌ هو الادّعاء، وأقبح من الجهل معرفة جزئيّة شوهاء انتقائية تزعم الفهم، وأقبح منها اعتبارها شيئًا من "ثقافة"... شيئًا من ضمير يحترم عقل الإنسان.

أفرادٌ مثقفون، وعامّة، وسياسيون، وإعلاميون، نخبٌ في حقيقتها أفرادٌ متنافرون، ذبحونا إفتاءً في كلّ شيء، وتنكيرًا لكل ما هو مُعرّف لا يحتاج سوى قراءة ما في علم ما رُبّما يضيء على سلوكٍ تنطّحوا له بلا استعداد، وفكرة قتلوها بسكاكين كلمة لا مسؤولة... كأنّ يقول أحد ما: إنّ الثوب الفلسطيني لن يُعيد فلسطين... في حادثة رشيدة طليب... وأن يقول آخر: إنّ هذا استعراض للشهرة! وأن يزعم طرف في محصلة استنكار الموروث أنّ: بناء الحداثة والتقدم لا يلزم أن يستثمر في الماضي.

وفي سياقات مُختلفة يقول آخرون تجاوز دعوتهم الانعزالية رتم العصر ونهجه: إنّ "الغزو الثقافي" يستهدفُ إفناءَ حضارتنا وثقافتنا! وأكثر ما يثير الأسف حينًا والسخرية حينًا آخر، أن يشترك البعض في النهجين السابقين!

إنّ أوّل ما تفعله الدول والشعوب أن تسعى دومًا لتحقيق سُمعة تُضيف لها قوّة وهيبة أمام الشعوب الأخرى، سُمعة طيبّة تخدم مواردَ الشعب السياسية والاقتصادية... روسيا لم تتنكّر لمسرحها وموروثها الثقافيّ منذ القياصرة، والولايات المتحدة أصرّت أن تجعل من "الجاز" ثقافة عالمية، والأوروبيون صنعوا سحرًا لبلادهم من الكاتدرائيات، والرقصات الشعبية، أما كرة القدم فمردوداتها من سمعة واقتصاد، ومتعة، تتقاسمها أمريكا اللاتينية وأوروبا... كلّ ذلك ليس للرفاهية، أو تجهيل الشعوب كما يتّهم الخطاب الرجعي نمطَ العصر، بل لتحقيق المكاسب، واستمالة الشعوب، وتحسين العلاقات بين شعب وآخرَ لتكون المحصّلة مكسبًا يدعم خطوط السياسة والاقتصاد، هذا ليس زعمًا بل علمٌ يُدركه طرفان في المجتمع، الإعلاميون والسياسيون، ومن يهمه أن يعرف أكثر فليطرق بابًا من أبواب هؤلاء.

الثوب الفلسطيني، والدبكة، والكوفية، والأغنية الوطنية، والفخر بالحضارة والآثار، وابتكار أنشطة حداثية كلها قادرة على تحرير فلسطين، إن وُضعت في سياقات صحيحة وفي أساس العمل النضالي كما فعلنا سابقًا، وإن صار الفلسطينيون في مجموعهم سُفراء لثقافتهم، هذه إجابة صريحة واضحة أستنكر بها تلك الحملة الشعواء على ثوب "طليب"... وهدفي هنا ليس رشيدة، بل الحالة البائسة في التعاطي مع موروثنا الفلسطيني العام، إن التحديث والتطوير لا يجب أن يستنكر الماضي بل يبني عليه، ويستفيد منه، فلدينا من أصول ثقافية ما يكفي للعمل، واختراق الصورة المُتّخذة عنّا بين الشعوب إن كانت سلبية، وإن كانت إيجابية فعلينا المضيّ في تعزيزها وتحديثها وتطويرها والبناء عليها، وهذا لن يأتي إطلاقًا بالاستغناء عمّا نمتلك، أو الدعوة لإهدار مكتسبات الماضي بذريعة السعي نحو المستقبل، فالفرق واضح جليّ بينَ البقاء في الماضي والاستفادة من نواتجه.

كيف يمكنُ لحصيفٍ عارفٍ أن يستنكرَ الموروث الثقافي والحضاريّ، والمجلس الثقافي البريطاني على مرمى حجر منه في فلسطين، والمؤسسات الثقافية الألمانية والفرنسية وغيرها... إنّ هذه النماذج التي يطمح أن يحاكي تجاربها، كلّها مبنيّة على تصدير الثقافة الشعبية للدول، والتعريف بها... لغة وممارسات، وأدبًا، وفنونًا... كلّ ذلك ويخرج من يعيبُ التمسّك بقواعد وأصول وجمال اللغة العربية! ثم يبكي على "ميل الحال"...!

طليب اختصرت علينا بفعلة واحدة، ما كان يمكن أن يكلّفنا الأموال في إيصال رسالة تنال مصداقية في عقول شعوب العالم، رسالة مفادها أنّ الفلسطينيّ يخدم شعوب الأرض لا عالة عليها، ينتشر بينها وجزء من نهضتها بثقافته، وموروثه، ومعرفته... هو قابل للتطور، ومُنافس أممي شرس...

لم تتنكر طليب للمواطن الأمريكي، فالولايات المتحدة دولة تأسست على أرضية ممهدة بالثقافات المتنوعة، والتعدد العرقي، وقواسم الأرض المشتركة، إن ارتداءها للثوب الفلسطيني يشبه ارتداء الآخرين للكوفية في برلمانات العالم لإيصال رسالة داعمة لحقوقنا، ويشبه ارتداء المكسيكي الأمريكي لطاقيّته في الولايات المتحدة، ومُناقشة الكونغرس لحقوق الأعراق، واستيعابه لهم... تلك دولة لا تطالب مواطنيها سوى بالانتماء لها ولثقافتها لا التنكّر لموروثاتهم وأعراقهم، وعلاقة المواطن بممثليه التشريعيين ميزانها حقوقه، والقوانين التي في صالحه، والانتماءُ للدولة وقوانينها ودستورها.

كيف يمكنُ لشعب يستغني عن موروثه الثقافي ويستهين به أن يضع نفسه في خط المنافسة العالمية، وكيف يمكنُ لشعب أن يستغني عن قوّته الناعمة أن يجد حلفاء له في مختلف المجالات؟  وكيف يمكن أن نقول إنّ مثل هذه الأصول الثقافية لا فائدة منها بينما تسعى إسرائيل جاهدة لنسبها إليها؟ وإن لم تتمكن فهي تفعلُ بها أفعال التشويه، سواء إن كانت موروثات ثقافية أم نضالية وُسمت بها فلسطين، كما في ابتكارها للكوفية الإسرائيلية واستعانتها بكثير من منتجات هوليوود السينمائية لتوظيف الكوفية في المشاهد الإرهابية، وغير ذلك الكثير! وللتذكير فقط، احتاجت إسرائيل ليدعمَ فعلتها المسلحة، وقيامها، في فلسطين، أن تُعيد ترويج ديانتها، وأن تزيّفَ لها قوميّة، وأن تصنع ثقافة زورًا، ولُغة هجينة.

هذا نهج قديم جديد سياسيّ أممي يحتاجه الواقع تحت الاحتلال، والراغب في السيطرة، والطامح في الحرية، والمستقل، والساعي للتفوق... هذا النهج لغة للتعاطي مع الشعوب والتنافس معها... لغة سياسيّة إعلامية في السلم وفي الحرب.

النضال ليس بندقية فقط، حتى تلك البندقية استمدت رونقها وقوّة رسالتها التي تُلهم كلّ الذين لا ينظرون إلى سواها، من فعل نضالي شامل ارتكز على الثقافة أولا وأخيرًا... دون ذلك لا يبقى منها سوى فعلها العنيف، ورسالة مشوشة تنقصها الإنسانية والعدالة... إنّ أثرَ تطريزةٍ فلسطينية في عُمر التاريخ، يعادل ألفَ طلقة، ورمية رمح.