الحدث الثقافي- دفاتر
عندما أرسل إليّ الصديق المغربي حسن إبراهيمي كتابه "كسرة خبز" الذي يقع في 80 صفحة وصادر عن دار المختار للنشر والتوزيع عام 2018، الكترونيا لأكتب عنه، حاولت لحظتها أن أجتث الصقيع الذي يتلبس أصابعي نحو الكتابة لأتجاوز حالة العزوف التي تعتريني بسبب انشغالاتي فلم أفلح، لكن عندما وجدتها 80صفحة سررت؛ فهذا يعني أني سأنجزها في وقت قصير، لكن ما إن تجاوزت عتبة الكتاب الأولى حتى أدركت أني تورطت بجمال متشعب المدارك، وإني أعترف أن أصابعي التي لثمها البرد ما إن تسحّبت بتثاقل إلى شذرات هذا الكتاب حتى توهّجت من حيث لا أدري أو من حيث أدري، لا أدري، ف"كسرة خبز" لم تكن رواية بمقياس الرواية وإنما هي قطع أثيريّة دافئة حدّ الاشتعال، وُلدت من رحم الوطن الذي انتهى مخاضه في أكف ضمائرنا الحاضرة الغائبة، فنقلت رواية الواقع والتاريخ بترميز محترف عميق المعنى والدلالات، تفضي عن ثقافة كاتب تكللت بالحكمة والفلسفة وسعة الأفق وقوة اللغة وجزالتها، وهذه اللغة والحكمة طارت بذاكرتي مباشرة إلى كتاب "أوهام أوغسط اللطيفة" للكاتب الفلسطيني مشهور البطران مع اختلاف الشكل الأدبي إلى حد ما، ولن أجد أكثر تعبيرا عنها من جملته التي تصدرت هذه النصوص "شبق نصوص صدحت لثمالة أفواه على الرصيف" (ص4)، فهذه الحرية الخضراء التي ينشدها الكاتب انصهرت في دمائنا القانية بالحمرة التي نزفها شهداؤنا لتمنحنا الأمل من حال بائس!! هو تناقض ربما أو هي فلسفة الكاتب التي تستشفها من هذه النصوص، هو صراع بين الحب والحرب، بين الخير والشر، بين الموت والحياة، بين الظالم والمظلوم، بين السواد والبياض، لمن يستطيع أن يسبر غور الكلمة ليدرك جمال اللغة وأبعادها.
وأنا أتنقل بين شذرات هذا الكتاب وجدتني أتنقل في فلسطين بلدي بألمها ووجعها ومأساتها وخيباتها والأمل الذي يشرق من ثناياها مع كل ذلك، لكن ما إن أنهيتها تذكرت أن الكاتب مغربي وهذا يؤكد أننا كمثقفين في الوطن العربي "كلنا في الهم شرق".
عرّج الكاتب على كثير من الفواصل في أي وطن رزح تحت الظلم والقهر والاضطهاد، فهو ينقل صورة الوطن بكافة أوجهها في كل كتابه والتي تمثلت في "الفقراء، كسرة الخبز، أفواه المعتوهين، الدماء، الشهداء، الموت، التاريخ، الهزيمة...." فيقول مثلا ص5 "عانقتك في كل كسرة خبز تصدح في الشارع.. في وجه القمح.. في وجه كل المتارس التي تمنع المارة من اقتطاف وردة في كل حقل يسقى بدماء الشهداء.. لست سواك يا وطني".
في الكتاب إشارات إلى عدة فضايا:1-المواطن المخلص لوطنه ص6 "أسمو كشمعة.. أظل أسكب وجعي في كل ليل صرصار.... أشكو عنفوانا دامسا لكل وجع يلملم الانتظار". 2-الخيانة كسبب رئيس في ضياع الوطن ص6 "حين يغمرها الضوء تتساقط في قعر اللعب كعربون حبر تبدى في أغلال السجان.. كمومس يعبر دفتر الذكريات.... نامت ونام صيف في عين ضوء انفلت للسجان"، ص7"بدون حارس للقضية يتجول الذئب في كل أطراف الخدعة كل يوم". 3- مطلب الحرية الذي لا يغيب ص7"سأظل انتظر ولادتها في كل أواني السنين.. نعم سأنتصر للموت لكن إياك والخيانة". 4-الهزيمة كنتيجة لتردي الوضع ص8 "عري الهزيمة تدلى في سنين استوطنتها العمامة...وأثقلتك اللاءات يا وطني.."، ص21"تقتفي الهزيمة ميادين الصمت..". 5-غياب القضية كمحور رئيس ص8"بين قضبان الريح وقف التاريخ بدون قضية.. نامت أحداثه بدون أسئلة.. بدون قداسة..". 6-الحب في ظل الحرب ص8 "قد يكون السلام صغيرا في سننه المشتعلة في الانحناء لمعركة ستندلع بين شفتينا.. هي في طريقها إلى ابتسامتك التي تخلد عيدها..، ص17 "بين السر والعلن ارتشفت ابتسامتي بحر عينيك.."، وكذلك العشق ص32 "ترنحت أوتار عشق الساهرين فوق منصة ليل يدغدغ الحواس"،"وأرق الذكريات التي تلاحقنا"،ص30"تبللت عيناي بتعب الذكريات"،7-الشهادة تساوي (الحرية) ص9"لا يرقد الموت في عيون الشهداء فالانتصار يساوي مجرى التاريخ..". 8-العار الذي يلحق بالبلاد ص10"يختفي الليل كي يكنس عار اختفاء بزوغ الفجر في الظلام". 9-الصمت الذي كان ثمنا للحياة ص11 "يرتدي صمتي غمدا كلما أزلته يلمع الموت في حضن اللسان"، ص15 "لا شيء هنا سوى رزمة من أقراص الصمت..". 10-الخوف الذي يتملكنا من عدم الأمان ص12"بدون وسائد تنام الأرصفة عارية في عيني الناي"، وعدم الطمأنينة حتى أثناء نومنا ص13"أعارك النوم لأتجنب حلما يرحب به الانتظار". 11-الحيرة التي تعجزنا عن تحليل المجريات في أوطاننا ص12 "كزفرة للعتالين نمت في عنق تحلل الأحداث.. اتكأت على وسادة ظلم لم تنج من فوات الأوان.. تماما كذيل مشيئة تركن في ساق الفراغ". 12-غياب الأمل من حرية الشعوب بسبب الظلم المستشري ص13"لما ترهلت الحرية اختفت أمام باب التسجيل". 13-افتقاد الموت الذي اعتدناه ص12"بعد إصابة الموت بمرض ناولته أقراص للشفاء؟؟". 14-الجوع والفقر الذي أنهك البلاد ص14"تتساقط لوجود ثقب بكف يفصل اليد عن فم يذرف دموعا تخفي ألم الكف الذي أحرقه الرغيف". 15-كثرة الدخلاء إلى البلاد عنوة حتى أرهقوها ص13"خدوش الزمان العصيب في بلادي موحشة تماما كنوع الأفاعي في أحلام الرثة..". 16- التعب من انتظار الأمل ص14"في عنفوان الانتظار انكسر التوق..ألملم عنف الشوق في رجس الذكريات.."، وكذلك حالة التيه والضياع في هذه البلاد ص14"قادني النوم إلى حيث لا أدري وحين استفقت أيضا أخذني إلى حيث لا أدري، رفاقي لم أكمل المسير وانتهى الأصيل"، والأمل الذي يبرق بين حين وآخر ص23"بعد كل تعب أرقب لمحة حياة"، ص31"أرتاد أزيز الحلم أعلمه كيف أن صغاره لا يفترون"، ومع ذلك لانمل من التشبث بالأمل ص54"أنتظر حدثا خارج الزمان". 17-تخلص العدو من العيون التي تعمل لأجله إذا انتهى مفعولها ص20"استعصى على الأفاعي معرفة أقمشتها فأمرت بغسلها بالدماء". 18-الهجرة الملتصقة بالموت ص20"في أكياس الهجرة يحمل البحر أشلاء وطن جريح... لا شيء يتراءى في القفل سوى انسداد البحر". 19-الصمود رغم الألم المحيط ص21"لن يستسلم اغترابي.."، ص49" في عيني القلعة يحتسي الصمود أنفاس الجلاد.. كإله أعمى أتعبه الحلف ، ص24"سألت ابني عن سبب وقوف الأشجار.. فأجاب لأنها لا تصاب بالتعب..". 20-قضية المرأة والسلطة الاجتماعية ص26"بعدما فضّ الماء بكارتها انتفخ بطنها انكشفت قصتها فانهمرت دمعا أمام سلطة الزواج"، ص59"نصف حصان لكل امرأة وحلف القصف وهراء صغار الفقهاء.."، وكذلك أهمية دور المرأة في المجتمع ص45"ومن يعتقد أن النصر سيفتح أبوابه بددون نساء.". 21-التغني بأمجاد الماضي لرتق خيبة الحاضر ص29"أحيانا يجب الرجوع إلى الماضي للبحث عن قربان نقدمه لكل لحظة تنتصب بحثا عن عرين تجهم بالزمان". 22-معاركنا في الوطن العربي قائمة على الإشاعات والخدع وعدم التوثيق ص29"تقتات المعركة بالإشاعة وبأنياب الخدعة التي تفترس ركام الصمت". 23-لحظة التمرد على الظلم ص30"انتصب احتراق الأغلال بالمعصمين وبعزة تعارك هجوم الجلاد..". 24-وضع التعليم وعدم القدرة على النهوض بالمدارس ص34"لا تستيقظ المدارس في أفواه المتعلمين..". 25-النصر لا يتحقق إلا بالانتفاضة على الوضع الراهن ص34"تشرق الشمس بعدما تستفيق الأشجار وبعد انتفاضات الظلال ترفض أن تستعبد.."، وإلا فهزائمنا لا تنضب ص71"بعد انتصار كل هزيمة تنتصب التمارين مطالبة التاريخ بإعادة الاختبار". 26-اتخاذ ذريعة السلطة الدينية من أجل تحقيق مآرب ذاتية ونهب الوطن ص63"باسم الله نهبتم كل شيء.. باسم الله نهبتم خيراتنا..". 27-مصير الفناء والموت لمن يضع يده على الجرح ويحاول الإصلاح ص64"فحص الطبيب الأحداث فمات..". 28-الحياة لا تدوم على حال ترفع وتخفض كالأرجوحة لا يستقيم فيها شيء ص73"الحياة لعبة أرجوحة لا توازن بين اللاعبين..".
أورد الكاتب كثيرا كلمة (الأفاعي) ص22ص44ص46ص47ص50 وكذلك (التاريخ) (الظلام) (عري النجوم) ص27ص37"الأشجار" "البياض والسواد" "الخدعة" ص25ص29،....،وكلها إشارات إلى تردّي الوضع في الوطن العربي ودعوة إلى الصحوة والتنبه وقراءة التاريخ وأخذ العبر علّ وعسى.
ملاحظة: كل شذرة في هذا الكتاب تستحق تحليلا شافيا بشكل منفصل.