كتب المدير العام السابق لمؤسسة الضمان الاجتماعي
بداية لا بد من التأكيد أنني وكما هو حال الشعب الفلسطيني كاملا مع تطبيق قانون ضمان اجتماعي عادل لكافة العاملات والعاملين. حيث وكما نصت عليه المادة 22 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بأن لكل مواطن الحق في الضمان الاجتماعي مثل حقه في التعليم وحقه في الصحة، كذلك ينص القانون الأساسي الفلسطيني في المادة 22 أيضا على أن "القانون ينظم خدمات التأمين الاجتماعي والصحي ومعاشات العجز والشيخوخة".
وفي هذا المقام، فإنني على يقين بأن المواطنين على مستوى من الوعي والدراية ويعلمون بهذا الحق وبأهمية الضمان ويرغبون به، ولكن السؤال هنا لماذا لا يريدون تطبيق الضمان الاجتماعي عليهم؟ ما الذي يخيفهم؟ وكيف يمكن تجاوز مخاوفهم؟ هذه أسئلة مشروعة وهامة جدا وهي الأساس الذي يمكن الانطلاق منه نحو تطبيق قانون الضمان الاجتماعي ولكن في الوقت الصحيح والظروف الملائمة.
حتى أكون عادلا فلا بد من إعادة التأكيد على قضايا هامة تتوفر للعاملات والعاملين من خلال تطبيق الضمان الاجتماعي، فالضمان الاجتماعي يعتبر الركن الأهم في توفير الحماية الاجتماعية ويوفر عدة خدمات تأمينية في حالات الشيخوخة والعجز والوفاة وكذلك في حالة إصابة العمل وما ينتج عنها من تعطل أو عجز أو وفاة، بالإضافة إلى منفعة الأمومة للمرأة وهذه قضايا يؤدي توفرها إلى شعور العاملين بالطمأنينه والأمان على حياتهم وعلى مستقبل أسرهم، وعلينا أن نعي أن نسبة بسيطة فقط من العاملات والعاملين يعملون في ظروف عمل مناسبة ويتقاضون حقوقهم في نهاية الخدمة وغيرها من الحقوق، فنسبة من يعملون في الشركات الكبيرة والمتوسطة المنظمة وفي البنوك والمؤسسات الدولية لا تشكل سوى 25% من القوى العاملة في القطاع الخاص، أما ما تبقى وهم 75% من القوى العاملة فصوتهم غير مسموع ولا يتقاضون حقوقهم وهذه المشكلة قائمة منذ زمن طويل ولكن المشكلة أنها مستمرة بالرغم من وجود قانون العمل المقر منذ عام 2000، وهنا لا بد من التأكيد أن الحل لهذه المشكلة الكبيرة والأساسية ليس بتطبيق الضمان الاجتماعي وإنما الحل بيد الحكومة بشكل عام ووزارة العمل بشكل خاص وكلاهما مقصر بشكل واضح، حيث إن كلاهما يعلم ما هو مطلوب ولكن لم يضعا لا الخطط ولا آليات التنفيذ بالرغم كما ذكرنا أعلاه من مضي ما يزيد عن 18 سنة على وجود قانون العمل، فحق العامل في مكافأة نهاية الخدمة وحق العامل في أجر لا يقل عن الحد الأدنى للأجور البالغ 1450 شيقلا والذي أقر في عام 2012 ، وللأسف لم يتم العمل على تطبيقه وإنما بقي حبرا على ورق وتذكرت وزارة العمل أن تصدر قرارا بالخصوص وهو أيضا حبر على ورق بتاريخ 1/3/2017، وكذلك حق العاملة في الحصول على إجازة أمومة لرعاية جنينها، كل هذه الحقوق كفلها قانون العمل ولكن لم تطبق حتى الآن فهل تطبيق قانون الضمان الاجتماعي سيفرض على أصحاب العمل وبسرعة البرق تنفيذ نفس الحقوق التي فرضها قانون العمل خلال السنوات الطويلة الماضية؟ وللعلم فقط وحتى لا يكون مستوى تفاؤلنا ورديا فإن نسبة الشمول أي نسبة تطبيق الضمان في الأردن هي 73% أي أن 27% من المنشآت في الأردن ما زالت متهربة من تطبيق الضمان الاجتماعي علما بأن قانون الضمان الاجتماعي مطبق في الأردن منذ 38 سنة.
وعودة لأهمية الضمان الاجتماعي فكما ذكرنا يستفيد منه العامل باعتباره التأمين اللازم في حال العجز الطبيعي على سبيل المثال، فكل عامل معرض لأن يصبح عاجزا عن العمل بسبب المرض كأن يتعرض لجلطة أو ما شابه في منزله أو وهو مجاز في عطلة داخل البلد أو خارجها، كما أن هذه الجلطة أو النوبة قد تؤدي لوفاته وهنا تكمن أهمية الضمان الاجتماعي بما يوفره من دخل للعامل في حال عجزه أو لأسرته في حال وفاته. كذلك توفير الدخل للعامل في حال الشيخوخة (التقاعد) هو أمر هام ويؤدي إلى حماية المتقاعد من العوز حيث يتوفر له دخل طالما هو على قيد الحياة، وحقيقة بموجب قانون الضمان الاجتماعي الفلسطيني سيتوفر هذا الدخل للمتقاعد على عمر الستين في حين أنه في معظم الدول وخصوصا الأجنبية فإن سن التقاعد هو 65 أو 67 سنة. كذلك للضمان الاجتماعي أهمية كبيرة بما يوفره من مزايا في حالات إصابات العمل ومنذ اللحظة الأولى للاشتراك في الضمان الاجتماعي، حيث تتولى المؤسسة عملية العلاج وتوفير الدخل خلال فترة العلاج بنسبة 75% من الأجر الأخير الذي كان يتقاضاه المصاب، وفي حال ثبت عجزه عن العمل بنسبة تزيد عن 75% فإنه يتقاضى دخلا بنسبة 80% من الأجر الأخير الذي كان يتقاضاه قبل الإصابة.
نعود للتساؤلات بأنه طالما أن الضمان الاجتماعي مهم ومفيد ويوفر حماية اجتماعية ودخلا للمشتركين في حالات عديدة كما ذكرنا، فلماذا يرفضه المواطنون؟ بالرغم من أنهم يعلمون كل هذه المزايا للضمان الاجتماعي؟ والبعض الآخر متحفظ جدا على التطبيق ويشترط العديد من التعديلات على القانون قبل التطبيق؟
الجواب واضح وكما يراه المعترضون وبما لا يدع مجالا للشك هو أولا عدم الثقة بالحكومة التي أصرت وتصر على التدخل في مؤسسة الضمان الاجتماعي وفي مجلس إدارتها وفي إدارتها التنفيذية.
فاستمر رئيس الحكومة بالحديث حول الضمان وأنه سيتم تطبيق قانون الضمان وأن من يعتصمون ضد الضمان مسيسون أو غير واعين لأهمية الضمان وأن عددهم بسيط، وهذه التصريحات شكلت حالة استفزاز للعاملين والمتظاهرين ضد الضمان الاجتماعي خصوصا وأن من خرجوا للشارع هم بالآلاف وجمعوا التواقيع التي تزيد عن مئة وثلاثين ألف رافض لتطبيق القانون، ولا بد من الإشارة إلى أن عدد العاملات والعاملين المستهدفين للاشتراك في قانون الضمان الاجتماعي وحسب المسح الإحصائي للعام السابق هو 497 ألف عاملة وعامل وليس مليون ومئة ألف كما يصرح رئيس الحكومة ووزير العمل.
ولا شك أن التجارب السابقة لإدارة الحكومة لأموال الشعب لم تكن موفقة، والمعترضون هنا يتحدثون بشكل خاص عن أموال هيئة التقاعد التي اقترضتها الحكومة، حيث يبلغ رصيد دين الحكومة لهيئة التقاعد حوالي ثمانية مليارات شيقل وإعادة هذه الأموال ليس بالأمر السهل، وعليه تولدت القناعه المطلقة لدى المواطنين وبشكل خاص العاملين في القطاع الخاص بأن مصير أموالهم في مؤسسة الضمان الاجتماعي سيكون نفس المصير.
كذلك فإن تصريحات رئيس الحكومة كانت تدلل دوما على ولاية الحكومة على مؤسسة الضمان الاجتماعي، فبالرغم من التصريحات بأن المؤسسة مستقلة وتتخذ قراراتها دون تدخل من الحكومة إلا أن رئيس الحكومة هو من اتخذ قرارا بعدم إلزامية التسجيل حتى 15 كانون الثاني 2019، وهو من اتخذ قرار التدرج في التطبيق وحدد الجدول الزمني والفئات التي ينطبق عليها القانون، وهو من اتخذ قرارا بإعارة السيد ماجد الحلو إلى مؤسسة الضمان الاجتماعي وبالتالي لم يبق من مفهوم الاستقلالية في مؤسسة الضمان الاجتماعي إلا اسمها.
وفيما يتعلق بالوضع السياسي والسيادة، فأنا أختلف مع المعترضين اعتبار هذا سببا لعدم تطبيق الضمان الاجتماعي وأننا يجب أن ننتظر حتى تكون لنا دولة ذات سيادة، وأعتقد أننا يجب أن نتعايش مع الوضع السياسي الذي نعيشه، فكما هو الحال على سبيل المثال في النظام المالي المعمول به منذ 1994، حيث يوجد سلطة نقد تشرف على المصارف بطريقة مهنية ولم تخفق في إدارتها للسياسة النقدية أو محافظتها على الاستقرار المالي فمن البنوك ما تم تصفيته ومن البنوك ما تم دمجه أو الاستحواذ عليه من قبل بنوك أخرى ويوجد اليوم في البنوك العاملة في فلسطين ما يزيد عن 12 مليار دولار تخص ما يزيد عن مليون مواطن يثقون بالنظام المصرفي، وكذلك لدينا هيئة سوق رأس المال تشرف على الشركات المساهمة وتنظم عمل عدة قطاعات منها أعمال التأمين وغيرها. وبالتالي فإن مؤسسة الضمان الاجتماعي ستكون جزءا من هذا النظام المالي وطالما كانت للمؤسسة إدارة تنفيذية كفؤة ومجلس إدارة من ذوي الخبرة والتخصص والكفاءات والتمثيل الصحيح فإن المؤسسة ستكون قادرة على إدارة الأموال وستحافظ عليها لصالح المشتركين.
أما مجلس إدارة المؤسسة الحالي فهو ليس موضع ثقة من قبل المتظاهرين والأجسام النقابية خصوصا من حيث طريقة التشكيل وحجم التمثيل وما قد ينتج عنه من تضارب للمصالح وبالتالي التخوف من قرارات استثمارية قد تؤدي إلى ضياع أموال العاملين.
ومن جهة أخرى وبالرغم من وضوح النصوص القانونية المتعلقة بدور ومهام ومسؤوليات مجلس الإدارة وكذلك المدير العام؛ إلا أن مجلس الإدارة لم يفهم دوره بالشكل الصحيح ولم يمارس الدور المطلوب منه باستقلالية حيث إنه حتى مع تحفظ واستقالة بعض الأعضاء وافق وأصدر قرارات بناء على طلب رئيس الحكومة، هذا بالإضافة إلى تدخل المجلس في قضايا تنفيذية هي من صلاحيات الإدارة التنفيذية، وبالتالي فإن قواعد الحوكمة حسب الممارسات الدولية الفضلى غير مفهومة وغير مطبقة في مؤسسة الضمان الاجتماعي.
ما هو المطلوب لنجاح تطبيق الضمان الاجتماعي؟
- قيام الحكومة باتخاذ إجراءات فورية لتطبيق قانون العمل، بما يؤدي إلى زيادة ملحوظة في نسبة العاملين الذين يحصلون على مكافأة نهاية الخدمة حيث النسبة الحالية هي من 25% إلى 30% فقط، كذلك هذه الإجراءات يجب أن تُنتج انخفاضا ملحوظا في عدد العاملين الذين يتقاضون أقل من الحد الأدنى للأجور، وكذلك ارتفاع نسبة العاملات اللواتي يحصلن على إجازة الأمومة حسب قانون العمل، وهذه النتائج المرجوة باعتقادي تعتبر ركائز لتطبيق الضمان الاجتماعي.
- ابتعاد الحكومة وعدم تدخلها في إدارة مؤسسة الضمان أو في تشكيلة مجلس إدارتها وأن يتم إسناد عملية مراجعة القانون إلى خبراء وليس لجنة وزارية، ويفضل أن يكون هؤلاء الخبراء من طرف منظمة العمل الدولية والمؤسسة العامة للضمان الاجتماعي الأردنية وبإشراف من المجلس التشريعي الذي يفترض أساسا أن يكون حاضرا في إصدار هذا القانون الهام ولو كان حاضرا فما كان من الممكن للحكومة أن تتدخل بهذا الشكل الصارخ، فدور الدولة فقط أنها الضامن لاستمرار عمل المؤسسة وتقديمها للمنافع التأمينية للمشتركين، وليس على المؤسسة أن تتواصل مع الحكومة إلا بتزويدها ببعض التقارير الدورية عن أدائها طالما أن المؤسسة لا تعاني من أي عجز في أصولها.
- كذلك إلغاء أن يكون وزير العمل أو أي وزير رئيسا لمجلس إدارة المؤسسة، بل يجب أن يكون شخصية مستقلة يعين من قبل رئيس الدولة وكذلك المدير العام الذي لا يجوز أن يكون مهددا بسيف مجلس الإدارة حتى يتمكن من العمل بمهنية وشفافية ودون أي تخوف من المجلس، وذلك كما هو الحال في معظم الدول ومنها الأردن وسلطنة عمان والسعودية وغيرها حيث يكون المدير العام عضو مجلس إدارة ويكون تعيينه بقرار من الرئيس.
- إعادة تنظيم العمل النقابي بحيث يتم إجراء انتخابات جديدة لنقابات العمال بكافة فئاتها وتشكيل اتحاد عام لكافة النقابات العمالية، بحيث يكونوا جاهزين لتسمية ممثليهم بالشكل الصحيح والحقيقي لكافة العاملين في القطاع الخاص وهذا قد يستغرق سنه أو أكثر.
- بعد ذلك يتم إعادة تشكيل مجلس الإدارة بحيث يكوّن من 15 عضوا فقط منهم المدير العام، ولا يكون من ضمن أعضاء المجلس ممثلين عن الوزارات (الحكومة)، وإنما يكون ممثلا عن سلطة النقد (مختص بشؤون الاستثمار)، أربعة ممثلين لأصحاب العمل يتم تسميتهم من غرفة تجارة رام الله وغزة شريطة أن يكونوا من ذوي الاختصاص والتأهيل العلمي بمعنى أنهم قد يكونون على سبيل المثال خبراء أو محللين اقتصاديين أو أساتذة ذوي علاقة في الجامعات وليسوا رئيس أو أعضاء مجلس إدارة الغرفة، أربعة ممثلين عن العمال يتم تسميتهم من اتحاد النقابات العمالية وأيضا هؤلاء خبراء كما هو الحال بممثلي أصحاب العمل، ممثلان اثنان عن النقابات المهنية يتم تسميتهم من المجلس التنسيقي للنقابات المهنية على أن يكونوا أيضا من الخبراء سواء من داخل النقابات أو خارجها.
- إدخال التعديلات المقدمة من كافة الجهات التي طالبت بتعديل القانون حيث إن هناك عددا لا بأس به من هذه المطالب يجب الأخذ بها وبرأيي فإن العدد الأكبر من المطالب المنطقية موجود في ورقة المجلس التنسيقي للنقابات المهنية، أما فيما يتعلق بالمطالبة بعدم الإقراض والاستثمار مع الحكومة فإن المادة 16 حظرت إقراض أموال الصندوق لأي جهة كانت، أما ما يتعلق بشراء الأسناد والسندات والأذونات التي وردت في المادة 33 أعتقد أنه لا مانع من إبقاء هذا البند ولكن مع تعديله بشكل يبقي على إمكانية الاستثمار في السندات والأذونات وبنسبة معينة من مجموع أصول المؤسسة خصوصا وأن هناك إصدارات خاصة للسندات تتم من شركات القطاع الخاص، كما أنه لا مانع كما هو الحال في كل الدول المحيطة أن تشتري المؤسسة سندات أو أذونات حكومية ضمن حدود معينة ولغايات محددة وبسعر فائدة مناسب.
- نظام تقاعد الشيخوخة التكميلي الاختياري الذي نص عليه قانون الضمان الاجتماعي في المادة 10 والذي يفترض أن يكون الأساس الذي سيتم الاعتماد عليه في طلب مستحقات عمالنا الفلسطينيين الذين عملوا داخل إسرائيل منذ عام 1970 بحاجة إلى مراجعة فنية وقانونية ومالية وحتى سياسية، حيث هناك الكثير من التعقيدات في هذا الموضوع، منها ما يتعلق باختيارية النظام، ومنها ما يتعلق باحتمالية ظلم للعاملين الذين مضى على مستحقاتهم سنوات طويلة لدى الجانب الإسرائيلي وبالتالي فإنهم قريبون من الحصول على راتب تقاعدي من إسرائيل وعملية انتقال حقوقهم إلى مؤسسة الضمان الاجتماعي قد تؤدي إلى ضياع حق التقاعد لهم.
وبناء على هذه المعطيات أعتقد أن القرار الأمثل الذي أنصح به سيادة الأخ الرئيس محمود عباس هو تأجيل نفاذ القانون لمدة لا تقل عن سنتين بحيث يتم خلالها إنجاز ما هو مطلوب أعلاه، وكذلك لا بد من الأخذ بالاعتبار أن التعديلات التي ستتم على القانون بحاجة إلى ما لا يقل عن ستة أشهر لتطبيقها وتنفيذها على البرنامج المحوسب، وأيضا ليتم إجراء التعديلات اللازمة على تعليمات تنفيذ القانون.