النقد والسخرية والنفاق، وهي الرياضات اللسانية الأكثر رواجاً في فلسطين اليوم، أمَّنت للكثيرين قول الكثير عن اقتحام قوات الاحتلال الصهيوني حي المصيون مساء الخميس الموافق 10 كانون الثاني 2019، في إطار حملة تواصلت أكثر من شهر من القتل، والهدم، والاعتقال، والترويع، ونزع الكاميرات، وزرعها، في أحياء رام الله ومخيماتها وقراها. وقد بلغ التندُّر ذروته في وصف الغياب المدوِّي لـ«فواعل» السلطة الفلسطينية حين استُهدف «قلب عاصمتها الإدارية المؤقتة» في المصيون، حيث: رئاسة الوزراء، ومقرَّات الأمن، ومؤسسات المال، وحياة الليل… التي لم يشفع لها «تمكين» ولا «تنسيق» حين تلقَّت رام الله ضربة موجعة، على «رأسها» بأسلحة: النار، والغاز، والصوت.
لا جديد، في ذلك، إن تجاوز المرء قواعد السلامة السياسية في تعداد الخسائر المادية والمعنوية للسلطة (لا للناس، الذين آثروا التصدِّي للقوات الصهيونية المقتحِمة، ومواصلة التعامل معها بوصفها عدوَّاً)… وأطلق لذهنه العنان يستولد الجديد بالتأمُّل في «رأس رام الله»، إذ لكل مدينة رأس: لرام الله رأس، منه المصيون، ولبيروت رأس، منه الحمرا، مثلاً. ورأس المدينة، «الذكيَّة» و«صديقة البيئة»، وإن ضجَّ بالسياسة والأمن والمال والمتعة، وغيرها من مكوِّنات الضَّجر… فيه ما يستهوي أكثر الشعراء رهافة للإقامة أو العمل. ففي رأس بيروت، أقام خليل حاوي، وفي رأس رام الله عمل محمود درويش، ولم يُمْحَ «اسمه وذكره» في فضائها العام: مكتبه، ودوَّاره، ومدرسته، ومتحفه، وضريحه.
وإذا كانت غواية المشابهة بين «رأس رام الله» و«رأس بيروت»، محمولة على استذكار حادثة بعينها، وهي انتحار الشاعر اللبناني حاوي حين اجتاح الصهاينة مدينته، فلا بدَّ من تمرين حذر في نقد البلاغة السياسية والثقافية بغية إيصال هذه الغواية إلى منتهاها، ذلك أن الشرط التاريخي «لاجتياح بيروت في العام 1982» مغاير للشرط التاريخي «لاقتحام رام الله في العام 2019»، إذ بين غابة البنادق وغابة الفنادق هوَّة تشبه الموت. ولكنَّ شبهة الموت، هذه، هي مناط المقارنة الخجولة، بين الحدثين، وما يؤلِّبان عليه من أسئلة ناشزة: ماذا يدور في رؤوس الشعراء، حين يصل العدو رأس مدينتهم، غير الموت؟
في 6 حزيران 1982، وقبل أن تطلق القوات الصهيونية النار على رأس بيروت، أطلق خليل حاوي النار على رأسه هو، من بندقية صيد، وكان حريصاً أن يكون على مقربة من مصرف مياه المطبخ لئلا يربك والدته في تنظيف آثار دمه الحار. وكالعادة، تناول الكثيرون مأساة حاوي (ريتا عوض، رجاء النقاش، خليل الشيخ، محمد الأنصاري، مطاع صفدي…)، وتباينت نماذجهم التفسيرية للانتحار بين: الفرجوية الفردية (التي وضعت حداً لـ«إخفاقه» العاطفي، وفشل أبناء ضيعته-«الشوير» في الحفاظ عليها «خالية من اللصوص»، كما تندَّر ماركيز، مرَّةً)؛ والإيثارية الجمعية (التي وضعت حداً لعدم قدرته على مواصلة «حمل العار القومي وحده»)؛ والاحتجاجية التي جمعت بين الاثنتين (التي وضعت حداً لحياته وهو الذي «فاته طبع المجاهدْ، ولم يعد غير شاهدْ»، فقضى «غير شهيدْ. مفصحاً، عن غصة الإفصاحِ، في قطع الوريدْ»).
أما درويش، فقد امتلك، كالعادة، بلاغة التفسير، وفرادة الرثاء، مرتين: نثراً، في «ذاكرة للنسيان»، وشعراً، في «مديح الظلِّ العالي». في النَّثر، كان درويش على مقربة من مصير حاوي، لكنه بحث عن رصاصات مسدسه الصغير، ولم يجدها، فكتب: «… لا أريدُ أن أطلَّ على شرفته، لا أريد أن أرى ما فعله نيابة عني. لقد خطرت الفكرة إياها على بالي وتراجعتْ أو تراجعتُ… هناك شرفة الشاعر الذي رأى سقوط كل شيء، فاختار موعد نهايته. أمسك خليل حاوي بندقية الصيد، واصطاد نفسه، لا ليشهد على شيء، بل لكي لا يشهد شيئاً ولا يشهد على شيء. لقد سئم هذا الحضيض، سئم الإطلال على هاوية لا قاع لها. وما الشعر؟ الشعر أن يكتب هذا الصمت الكوني، النهائي، الكلِّي. كان وحيداً، بلا فكرة، ولا امرأة، ولا قصيدة، ولا وعد. وماذا بعد وقوع بيروت في الحصار؟ أيُّ أفق، أي نشيد. لعبتُ معه «طاولة الزهر» منذ أكثر من شهر، لم يقل لي شيئاً. لم أقل له شيئاً. لعبة لا ذكاء فيها ولا مناورة. الحظ هو الذي يلعب. وعلى الحظ أن يطيع خليل حاوي. وإلا غضب على الحظ وعلى شريك اللعب. كان يعنيه كثيراً أن ينتصر…».
وفي الشعر، كذلك، وقف درويش على مقربة من مسار حاوي، لكنَّه، و«حياته فضيحة شعره، وشعره فضيحة حياته»، لم يتردد في الكتابة عن افتضاح قصيدة حاوي، لا قصيدته هو: «الشاعرُ اُفتُضِحَتْ قصيدتُهُ تماماْ. وثلاثةٌ خانوهُ: تموزٌ، وإمرأةٌ، وإيقاعٌ، فنامَاْ … لا يستطيع الصوتُ أن يعلو على الغارات في هذا المدى. لكنهُ يُصغي لموجتِهِ الخصوصيَّةْ: موتٌ وحريَّةْ. يصغي لموجتهِ ويفتحُ وقتهُ لجنونِهِ. من حقِّهِ أن يُجلس السأمَ الملازمَ فوق مائدةٍ، ويشرب قهوة ً مَعَهُ، إذا ابتعد الندامى. الشاعرُ افْتُضِحَتْ قصيدتُهُ تماماْ. بيروتُ تخرجُ من قصيدتِهِ، وتدخل خوذةَ المُحتلِّ. مَنْ يُعطيه دهشتَهُ، ومنْ يرمي على يَدِهِ أرُزَّاً أو …سلاماْ. الشاعرُ اْفتُضِحَتْ قصيدتُهُ تماماْ. في بيته بارودة ٌ للصَّيْدِ، في أضلاعه طيرٌ، وفي الأشجار ِعُقمٌ مالحٌ. لم يشهدِ الفصلَ الأخيرَ منَ المدينةِ. كُلُّ شيء واضح ٌ منذ البدايةِ، واضحٌ، أو واضحٌ، أو واضحٌ. وخليلُ حاويْ لا يريد الموتَ، رُغْمَا ًعنهُ، يُصغي لموجَتهِ الخصوصيَّةْ. موت ٌوحريةْ. هو لا يريد الموتَ رُغما ً عنهُ، فليفتحْ قصيدتَهُ، ويذهبْ …قبلَ أن يُغريه: تموزٌ، وإمرأةٌ، وإيقاعٌ… وناماْ. الشاعرُ افْتُضِحَتْ قصيدتُهُ تماماْ».
إنَّ في افتضاح القصيدة، بين حاوي ودرويش، ما يحرِّض على سؤال «المسؤولية»: المسوؤلية عن انتحار الشعراء، والمسؤولية عن عدم انتحارهم، كذلك. ولكنَّ الحديث عن المسؤولية، كما قال ليفيناس مرَّة، لا يستقيم إلا بضمير المتكلِّم: «أنا مسؤول». وحين يكون الشاعر مسؤولاً، لا في مؤسسة السلطة، بل في مؤسسة ضميره الناقد للسلطة، ينبغي أن يَسأل، ويُسأل، عن دوره هو في حفظ حياة الناس، ومنهم الشعراء، أو موتهم، وما جدوى الحالتين. وإذا كان درويش، قد «عضَّه ضميره»، وأعلن عن نفسه مسؤولاً عن «موت الشعراء والأنبياء… عن مصرع لوركا وراشد حسين… ورأس الحلاج»، كما أوضح في «الرسائل» إلى سميح القاسم… فإن السلطة الفلسطينية، بضمير المتكلم وضمير المخاطَب وضمير الغائب، اليوم، ينبغي أن تعلن مسؤوليتها عن عدم موتهم، والحيلولة دون انتحارهم، ما يسهم، بلا شك، في مضاعفة التضخم الهائل للظاهرة الشعرية، في رام الله. وخارج سياقات التندُّر، قد تنضاف هذه إلى قائمة مثالب «التنسيق الأمني»، إذ ما يزال الشعراء يخشون امتلاك بنادق صيد ينتحرون بها، أو يسهمون في نحر أعدائهم. ربما كان من سوء حظِّ حاوي أنه لم يكن ثمة حاجة لتنسيق أمني بين «إسرائيل» ولبنان، إذ كان شارون، حرفياً، في ضيافة الدولة من رئيسها، وزوجة رئيسها، إلى رئيس مخابرات جيشها، وكان المستهدف هو المقاومة... والشعر.
وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى أن ثمة وصفات بديلة للانتحار في التراث العربي، وغيره، مما لا يتسع المقام لاستحضاره، حين تعزُّ البنادق. فعلى الرغم من التحريم الديني لقتل النفس، سواء: بالتردِّي عن رأس جبل، أو تحسِّي السم، أو قتل النفس بحديدة، إلا أن التاريخ العربي، قبل الإسلام وبعده، يعجُّ بأمثولات الانتحار التي ما تزال موضع التفسير الفلسفي والاجتماعي والنفسي حتى اللحظة. وهي نماذج، وإن اختلفت في تفاصيل مرويَّاتها، يجمعها دافع الحرمان، واستعصاء التحقُّق، واستحالة الارتواء… لجوعات الإنسان الجسدية والعقلية والقلبية. كما يوحِّدها اشتمال فعل الانتحار على نهاية للنسق الأسطوري يحقق فيه المنتحر جَوْعَتَه، وإن رمزياً. ذلك أن النهايات، تحمل ما يحيل إلى شبهة التحقُّق.
ومن بدائل الانتحار بالبندقية، عند العرب: «الاعتفاد، وهو، الجوع حتى الموت» كما يروي ابن منظور في «لسان العرب»؛ و«شرب الخمر الصرف، على غير طعام، حتى الموت» كما يروي السجستاني في «المعمّرون والوصايا»؛ و«جمع الجوع، وشرب الخمر… والوجأ بالسيف، أو الخنجر، أو السهم، حتى الموت» كما يروي الثعالبي في «ثمار القلوب»، والواقدي في «التاريخ والمغازي» بتفصيلات أقرب ما تكون إلى انتحار فرجوي، أو «هيرا-كيري» عربي؛ و«الغرق بالماء بعد القفز من عل، حتى الموت» كما يروي السراج في «مصارع العشاق»؛ و«الشنق حتى الموت» كما يروي ابن الجوزي في «ذم الهوى»؛ و«حرق الكتب، والاحتراق بها» كما روى التوحيدي في «المقابسات»، وفعل…
وعلى الرغم من مأساوية النهايات في هذه السرديات المتنافذة، إلا أنها لا تكاد تخلو من بهجة الشاعرية، ومتعة الفرجة، كما أنها لا تخلو نهائياً من مغناطيس المشابهة عبر المشترك الإنساني العابر للأزمنة. فالجوع والعطش، سواء للأكل أو الشرب أو جسد الآخر أو الكرامة حين تنعدم الحماية ويُخشى الوقوع في قبضة العدو… يحملان المرء على استحداث فضاءات رمزية للتحقُّق خارج الأزمات الشخصية والاجتماعية والوطنية. يسلك المنتحرون، كما يؤسس علماء الإنسان ونقاد الشعر، طقوساً للعبور (Rites of Passage)، تتضمن الاعتزال، والتهمُّش، وإعادة الاعتبار، الذي لا يكون، في الغالب، إلا بالموت… ومن أكثر من الشعراء تلبُّساً بهذه الطقوس، وإن عزَّ العبور؟
شعراء رام الله، ومثقفوها عموماً، لم يسلكوا درب حاوي، ولم يقتفوا أثر درويش، وبالقطع لم يجاروا كمال ناصر، وعلي فودة لم يجاوروه. فلا «ذاكرة للنسيان» في رام الله، ولا «مديح للظل العالي»، ولا «طاؤوس يدبُّ بمسدس من حديد، وعصى من عاج»… لكن في رام الله «مجتمع من السَّعداء»، كما وصفهم فيصل درَّاج، مرَّة، شعراء يغرقون في نرجسية بلا جماليات، يملأون الفضاء الافتراضي بالصور (صور لا أعرف، بحق، ماذا يفعلون فيها، ولا بها…)، والدروع، والجوائز، وسباقات التكريم، والمراهقات الرقمية، وشهادات المشاركة في التمثيل، تمثيل فلسطين، و«كلُّ تمثيلٍ تمثيلٌ»… لن توسِّع هذه المقالة تمرينها البلاغي إلى تمرين في التحليل النفسي، إذ في ممكنات الكتابة بين مرصد أوفيد وسرير فرويد ومرآة لاكان، ما يحيل نرجس الشعراء إلى حطب؛ وبين تمارين البلاغة السياسية والتحليل النفسي ما يجعل من يمارسون «العزلة» دون ممارسة «رد الاعتبار» حالة كاريكاتورية لانهيار النظرية على قحف أصحابها! فلا بحر في رام الله، ولا نهر، ولا حتى قناة… يتماري فيها النرجسيون، ومن ينتظرون الاستفاقة من غيبوبتهم الروحية، بـ«صدى» غير صوتهم.
هذه ليست كتابة في مديح فعل الانتحار، إذ الانتحار «فعل» يجانب السَّواء اللغوي، قبل مجانبته السَّواء النفسي والاجتماعي... لكنه، باستثناء الانتحار السياسي الذي تمارسه السلطة الفلسطينية بلا هوادة مؤخراً، فعلُ حريَّة حين تنعدم الحريَّة، ويستعصي التَّحقق. الانتحار ذروة سنام حرب أهلية تمارسها الذات على ذاتها، تلحيمٌ للذات (Self-laceration)، لتمييز الصديق من العدو، ولتخليص الذات من آخَرها-العدو، حتى وإن كان عدو النفس جسدَها هي. حين لا يميِّز الشعراء بين طبقات العدو وطبقات الصديق في دواخلهم، وخوارجهم، ولا يجرؤون على الانتحار، فقد يكون من الأجدى إعادة أسئلة سابقة لم يعد لها وجود في رأس رام الله اليوم: ما حاجة الشعر للبندقية؟ وما حاجة البندقية للشعر؟ وما حاجة الشاعر للبندقية… حين يطول مداها عن بلوغ رأسه هو، ويقصر عن بلوغ رأس العدو؟
عبد الرحيم الشيخ- شاعر وناقد فلسطيني ولد في القدس لعائلة لاجئة من الرملة. يعمل أستاذًا للفلسفة والدراسات الثقافيّة والعربيّة في جامعة بيرزيت. يركز عمله الفكري على سياسات الهوية والقومية وتفسير الروابط العلائقية للسياسات، يعمل في الترجمة وفي نقده الفني يركز على التعبيرات البصريّة للهويّة الفلسطينيّة.