الحدث العربي والدولي
دعمت دراسةٌ(1) صدرت الشهر الماضي عن 416Labs (شركة استشاراتٍ وأبحاث مقرّها تورنتو)، وجهة النظر القائلة بأنّ الصحف الأمريكية السائدة تواصل تقديم صورة أكثر سلبية عن فلسطين بالمقارنة مع إسرائيل، مفضّلةً المصادر الإسرائيلية، ومهملةً الحقائق الرئيسية اللازمة لفهم الاحتلال الإسرائيلي، بما في ذلك ما قدّمته المصادر الفلسطينية.
تعتمد هذه الدراسة الأكبر من نوعها، على التحليل الشعوري(sentiment) والأحرُفي (n-gram)(2) لقرابة المئة ألف عنوانٍ في خمس صحف سائدة منذ عام 1967. هذه الصحف اليومية الأمريكية الخمس الأكبر هي: The New York Times, Washington Post, Wall Street Journal, Chicago Tribune, Los Angeles Times. وضِعت العناوين الرئيسية الممتدّة على فترة خمسة عقود في مجموعتي بيانات: تشتمل أحداهما على 17492 عنوان رئيسي يتمحور حول الفلسطينيين (مجموعة البيانات الفلسطينية)، وتشتمل الأخرى على 82102 عنوان رئيسي يتمحور حول الإسرائيليين (مجموعة البيانات الإسرائيلية). قيّم المشتغلون على الدراسة، مستخدمين تقنيّات معالجة اللغات الطبيعية Natural Language Processing الدرجات الممكن من خلالها تصنيف العناوين الرئيسية شعوريًا لإيجابية وسلبية ومحايدة. كما درسوا تكرار استخدام كلماتٍ محدّدة، من شأنها إيصال وجهات نظرٍ أو تصوّرات معيّنة.
الاستنتاجات الرئيسية للدراسة هي:
•تراجع الاستخدام لكلمة “احتلال” Occupation منذ عام 1967 بنسبة 85% في عناوين مجموعة البيانات الإسرائيلية، وبنسبة 65% في عناوين مجموعة البيانات الفلسطينية.
•تراجع ذكر اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1967 بنسبة 93%.
•تزايد احتمالية الاقتباس من المصادر الإسرائيلية بنسبة 250% مقارنةً بالاقتباس من المصادر الفلسطينية.
•عددُ العناوين المتمحورة حول إسرائيل يفوق بأربعة أضعاف عدد العناوين المتمحورة حول فلسطين.
•تظهر الكلمات الموحية بالعنف ك”إرهاب” Terror ثلاثة أضعاف ظهور كلمة “احتلال” في عناوين مجموعة البيانات الفلسطينية.
•يندُر الاعتراف الصريح بلاقانونية المستوطنات والمستوطنين الإسرائيليين في مجموعتي البيانات.
• لا تذكر “القدس الشرقية” مع تمييز ذاك الجزء من المدينة المحتل من قبل الإسرائيليين منذ عام 1967 عن بقية المدينة، إلّا 132 مرّة بالمجمل.
•صحيفة The Los Angeles Times هي أكثر الصحف سلبيةً في تصويرها للفلسطينيين، يليها The Wall Street Journal، ثمّ Chicago Tribune، ثمّ Washington Post، وأخيرًا The New York Times.
•حدث تناقص دراماتيكي في تغطية الصراع خلال النصف الثاني من فترة الخمسين عامًا.
في السنوات الأخيرة، نُشر عددٌ من التحليلات التي تبحث في كيفية تغطية بعض وكالات الأنباء للصراع، إلّا أنّها اقتصرت على أحداثٍ معيّنة، كالإنتفاضة الأولى وعملية الرصاص المصبوب. تقدّم الدراسة الأخيرة، التي أعدّها أسيد صدّيقي وأويس زهير، وجهات نظرٍ أوسع نطاقًا. يقول صدّيقي:”أردنا دراسة هذه المسألة في إطار زمني أوسع. اعتقد أنّ هذا سيساعدنا على فهم الأنماط المختلفة في تغطية الصراع عبر الزمن، وسيمنحنا العديد من المعلومات التي سيصعب على الناس رفضها وإنكارها بسهولة”(3).
يقول زهير:”دور الأخبار في تأطير وتقديم مواضيع الأحداث، مؤثّر فعّال في عمليات ترتيب الأولويات agenda-setting وبناء السرديات”. كانت علاقة الأخبار بالسياسة بما في ذلك ما انتجته من سرديات، موضوعًا لكثيرٍ من الأدبيات. كما يشير المؤرّخ هايدن وايت في كتاباته النقدية عام 1980إلى أنّ :”السرد بشكلٍ عامًّ، من الحكاية الشعبية إلى الرواية، ومن الحوليات إلى “التاريخ” المتحقّق بشكلٍ كامل، يتعامل مع مواضيع القانون، أو القانونية، أو الشرعية، أو بشكلٍ أكثر عمومية مع السلطة”(4).
يشير إدوراد سعيد بعد [كتابات هايدن] بأربع سنوات في “الحقّ في السرد” Permission to Narrate(5) إلى أنّنا وبالرغم من كوننا كفلسطينيين كنّا وما زلنا مدعومين من قبل سلطة وشرعية ومشروعية القوانين والقرارات والإجماعات الدولية، إلّا أنّ صنّاع القرار السياسي والمنابر الإعلامية الأمريكية يرفضون ببساطة “إجراء اتصالات، واستخلاص نتائجٍ، وعرض الحقائق البسيطة”(6) يظلّ هذا الرفض عماد السياسة الأمريكية وإعلامها، بما في ذلك رفض الحقيقة الجوهرية؛ ذلك أن السرد الفلسطيني “ينبع مباشرةً من قصة وجودهم في فلسطين وتشريدهم منها”.
إلّا أنّ “الحقائق تحتاج سردًا مقبولًا اجتماعيًا لاستيعابها وصَونها وترويجها” وفي الولايات المتّحدة “حيث البروباغندا الاسرائيلية تدير حياتها الخاصّة بها” لا تناسب الحقائق سرد الصحف، كالمذكورة سابقًا في الدراسة.
قرابة ال35 عامًا مضت، منذ مؤلَّف إدوار سعيد الخصب seminal، وها هي الأرقام بميّزتها الكمّية التي كشفت عنها الدراسة، تؤيّد بما لا لُبس فيه ما ذهب إليه، مظهرةً تحيّزًا ثابتًا وممنهجًا ضدّ الفلسطينين. ثابتٌ لامتداده على فترة خمسة عقود، وممنهجٌ لأنّ التغطية استجابت مرارًا لاحتياجات إسرائيل من أجل تبرير توسيع احتلالها خلال السنوات. على سبيل المثال، بتقييم تكرار كلمات معينة كل عقد، وجدت الدراسة ارتباطًا مع الأهداف السياسة المعلنة لكل من إسرائيل والولايات المتحدة. كان هناك انخفاض مماثل في ذكر “الاحتلال” و”اللاجئين الفلسطينيين” و”القدس الشرقية”، بالإضافة إلى عرض الفلسطينيين بصورة سلبية، بما يتماشى مع أهداف السياسة الأمريكية-الإسرائيلية.
أحد أشد الأخطاء فظاعةً التي اقترفتها الصحف المحلَّلة في الدراسة، يمكن استخلاصه من خلال التناقص الدراماتيكي في تغطية الصراع منذ عام 1993، عندما استهلّ الفلسطينيون والأسرائيليون عملية السلام المستبعدة حاليًا. وفقًا للدراسة “كان هناك ما معدّله 1200 عنوان [سنويًا] بين عامي 1967 و1992” يغطّي مجموعتي البيانات، “بينما ما معدّله 700 عنوان [سنويًا] فقط في الفترة التي تلتها”. من الممكن منطقيًا عزو هذا التراجع إلى الكيفية التي قدّمت فيها الصحف الأمريكية الفلسطينيين والأسرائيليين منذ حينها: ككيانيين متكافئين يجريان المفاوضات، ويعبّر عنهما في الإعلام غالبًا بتعبير “كلا الجانبين” both sides، إلّا أنّ هذا التعبير “يحرُم القارئ من السياق [الأساسي]” الأساسي لفهم الاحتلال. هناك جانبان، أحدهما سلطة الاحتلال (أسرائيل)، والآخر يعاني كمُحتل (فلسطين). إنّ مفهوم “العملية” process بين “كلا الجانبين” لم يؤدّ إلّا إلى حجب حقيقة أنّ لا سلام هناك.
تعتيمٌ آخرٌ واضح يتعلّق بحصار غزّة الّذي وصل إلى عامه الحادي عشر، ذلك الحصار لقطاع غزّة لم يذكر إلّا لمامًا في كلا عناوين مجموعتي البيانات في الدراسة. بينما في الوقت نفسه، كلمة “حماس” هي بين الكلمات العشر الأوائل الاكثر استخدامًا في مجموعة البيانات الفلسطينية! بالرغم من أن الحركة الإسلامية تأسّست عام 1987! هذا التعتيم على الوضع في قطاع غزّة، المحكوم من قبل حماس لأكثر من عقدٍ بقليل، غالبًا ما قاد القرّاء لربط الأراضي المحاصرة بالعنف والإرهاب.
بالإضافة إلى جهود الضغط التي تبذلها الجماعات المؤيّدة لإسرائيل، فالتحوّلات الأخيرة في سياسات الولايات المتّحدة تجاه الفلسطينيين يمكن عزوها كذلك إلى التغطية المنحازة والتقصير الواضح اللذان تؤكّدهما الدراسة. سواء كان محاولة إنهاء عمل وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أو الاعتراف الضمني بالقدس كعاصمة لإسرائيل من خلال نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، فهذه التحوّلات السياسية استفادت من الإهمال المستمر للحقائق في الصحف الأمريكية. يقول زهير: “ليست حكومة ترامب وحسب[هي السبب في هذه التحوّلات]، إذ لا نرى ردودًا سلبية عميقة حول قضايا كالأونروا؛ لأن التغطية الأعلامية لقضية اللاجئين الفلسطينيين تخضع لرقابة ممنهجة”. إنّ وسائل الإعلام في الولايات المتّحدة مذنبة لاستبعادها المتعمّد للصوت الفلسطيني.
في إحدى الحالات، خلال عملية “الجرف الصامد” في صيف عام 2014، كشف فحص لجزءٍ بسيط من العدوان الذي دام 51 يومًا، أنّ الـ سي أن أن CNN بثّت 28 مشاركةً لناطقين أسرائيليين رسميّين وعوامٍ، بينما منحت ظهورًا أقل بما نسبته 40% تقريبًا لناطقين فلسطينيين رسميين وعوامٍ، بما مجموعه 16 مشاركة. تسبّبت التغطية المتباينة بشكلٍ سافر بجدلٍ آنذاك، ممّا دفع الـ سي أن أن إلى اصدار بيانٍ تصرّ وتؤكّد فيه على أنّ تغطيتها كانت عادلة. توضيحًا لهذا الاختلال، صرّحت الكاتبة والصحافية السابقة ماردا دونسكي لصحيفة PolitiFact أنّ [عدم التوازن في التغطية] عائدٌ إلى “مسألة إمكانية الوصول”: إذ أنّ مناصري الرؤية الفلسطينية غير متوفّرين بسهولة ولا قادرين على إدارة دفّة المشهد الإعلامي الأمريكي.
قُدمًا نحو شهر نوفمبر من عام 2018، وكلمة مارك لامونت هيل، البروفيسور والمعلّق السابق في شبكة الـ سي أن أن في مناسبةٍ للأمم المتّحدة لإحياء اليوم العالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني. في كلمته، حثّ هيل المجتمع الدولي على “تحرير فلسـطين من البحر إلى النهر” بإشارةٍ منه إلى فلسطين التاريخية. نازعةً جملته من السياق، أدانته المنظّمات الموالية لإسرائيل كرابطة مكافحة التشهير Anti-Defamation League، كمعادٍ للسامية. دفعت حملة الرابطة التي تلت ذلك الفعل الـ سي أن أن، إلى الاستسلام تحت الضغط، والاستجابة لمطالبها بطرد هيل من وظيفته، وهو من كان أحد معلّقيها الأكثر شعبية!
في أعقاب حادثة هيل، شاركت شخصية إعلامية أخرى قصّة طردها من الـ سي أن أن، عالميًا عبر تويتر. عام 2015 كان أحمد شهاب الدين على وشك السفر إلى مقرّ ال سي أن أن في أطلانتا، لكن قبل وصوله، تلقّى شهاب مكالمةً من مدير البرمجة الذي وظّفه، يقول فيها:”الكبار تدخّلوا…وعلينا سحب عرضنا”. يقول شهاب على تويتر:”الإجابة الأقرب التي أمكنني الوصول إليها بعد اجتماع مطوّل، كانت أنني “بارز سياسيًا” سواء لأصولي الفلسطينية أو كتاباتي السابقة المستندة على حقائق، انتقد من خلالها الحكومة الإسرائيلية”.
نظرًا إلى نتائج الدراسة، فإن ما تكشف عنه قضية شهاب وهيل، هو أن المسألة من الصعب أن تكون “مسألة إمكانية وصول”[كما ترى دونسكي] سواء في الأخبار المذاعة أو المطبوعة. الحقيقة كما لاحظها إدوارد سعيد هي أن أيّ نقدٍ صادق لإسرائيل يصرّح به، ستكون نتائجه كارثية. كما يضيف في “الحق في السرد”:”مؤشّر صغير واحد، هو حقيقة أن كلّ من رابطة مكافحة التشهير في أمريكا، ولجنة الشؤون العامة الأمريكية-الإسرائيلية، نشرتا كتاباتٍ تحدّدان وتعرّفان فيها “أعداء” إسرائيل، وتشير فيها إلى أساليب الشرطة والرقابة”. تنامت مثل هذه الأساليب بشراسة على مدى الثلاثين سنة الماضية مع Canary Mission، وهو موقعٌ مكرّسٌ لتصوير مناصري الحقّ الفلسطيني كمعادين للسامية، كما تكرّر مرارًا. وكما يقول صدّيقي:”تسمية الكولونالية والاحتلال بأسمائها، شيءٌ خارج حدود العديد من المنابر الإعلامية”.
إلّا أن المدّ يبدو في تحوّل. الأسبوع الماضي، ضمنت رشيدة طليب كأوّل أمرأة أمريكية من أصولٍ فلسطينية، مقعدًا داخل الكونغرس في دورته ال116. طليب واحدة من بين الشباب الصاعد قدمًا، ممّن تحدّوا القواعد الراسخة في لعبة الأعلام والسياسة المتعلّقة بإسرائيل. كما أيّدت الBDS وستوجّه أنظار الكونغرس نحو فلسطين، خلال تأدية حلف اليمين للأعضاء الجدد، مواجهةً الادّعاءات الّتي تقدّمها AIPAC عادةً. أدّت طليب اليمين أمام الكونغرس، في ثوبها الفلسطيني التقليدي، وسط حملةٍ واسعة النطاق على وسائل التواصل الاجتماعي، تحتفي وتحتفل بتراثها وثقافتها الفلسطينية. كما لاحظت الباحثة والناشطة حنّا الشيخ:”في حين أنّ الجالية الفلسطينية-الأمريكية [والفلسطينيون عامّةً ] خضعوا لطمسٍ وتهميشٍ تاريخيًا، إلّا أنّ طليب دفعت باب الكونغرس ودخلت قاعاته بكلّ فخرٍ”.
نمو حركة التضامن الفلسطيني وانتخاب طليب والعديد من المصادر المتاحة للصحف المشتغل عليها في الدراسة، تطرح السؤال عما إذا كانت هذه الصحف أو غيرها من المنابر الإعلامية، ستواصل تشويه سجلّها من خلال تجاهلها الصريح للسرد والحقائق الفلسطينية.
المصادر
(1)-انظر الرابط من هنا .
(2)-ترجمت n-gram للأحرُفي لسببين، أوّلهما العودة إلى الكلمة التي اشتقّت منها gram في اليونانية وهي γράμμα وتعني “حرف”. أما ثانيهما، فحرف n الذي يشير إلى الأعداد الطبيعية من [1-ما لا نهاية]، إذ ما يرتبط به بالأغلب جمع، وهو في حالتنا جمعٌ بلا شك.
(3)-كل المعلومات والاقتباسات لزهير وصدّيقي مأخوذة من الدراسة المذكورة سابقًا.
(4)-هايدن وايت، محتوى الشكل: الخطاب السردي والتحليل التاريخي، ترجمة: د.نايف الياسين، مراجعة: د. فتحي المسكيني، المنامة: هيئة البحرين للثقافة والآثار، الطبعة الأولى: 2017، ص51.
(5)-ورقة ألقاها إدوارد سعيد في معرض لندن للكتاب عام 1984.
(6)-كلّ كلام إدوارد سعيد المقتبس في مقالة من ورقته المذكورة سابقًا.
*بالإمكان العودة للشبكة للبحث عن الأحداث المذكورة في المقال، وللتعرّف على بعض المؤسّسات المذكورة.