كتب: أحمد زكارنة
ثمة فارق لم يدركه العرب بعدُ بين القول والفعل، ويعد إجمالاً أحد مكونات التباسات السياسة وتعقيداتها في المشهد العربي الراهن، وهو اختلاف ما بين المجاز والحقيقة، المطلق والمنطق، الحلم واليقين.
فمن الطبيعي، بل ومن الشرعي أن تؤمن الشعوب بمقولة المقاومة حدّ تلاوة آياتها، كونها آية حق شرعي لأي شعب محتل، ولكن الأمر غير الطبيعي أن تصبح المقاومة مجرد جغرافية صوتية لشعارات لا تقرن القول بالفعل، وإنما فقط تطلعنا على مواقفها دون أحداثها وأبطالها، على نحو يسجل لصالحها مكاسب سياسية ذاتية فقط لا غير.
المشهد العربي الراهن في إطار هكذا لوحة تجريدية يبدو في تناسق فريد من نوعه بين ما يسمى بقوى "الاعتدال" وقوى "الممانعة" وكأنها جزئيات ضمن وحدة متصلة، يؤدي كل منها دوره بإتقان فلا تبدو القضية أمام جماهيرهم قضية جامدة أو فارغة بل تبدو زاخرة بالحياة، وبالرغم فالحد الفاصل ما بين الاثنين معا وبين حقائق الأمور، هو ذاته الحد الفاصل بين الصدق والدجل.
وكي لا نُحمّل الأفكار وزر الأفعال، وكي يصبح قول الحقيقة عملاً ثوريًّا بحسب مقولة "جورج أورويل" ، حريّ بنا الجهر أن ما تثبته المعطيات على الأرض، إنما يؤكد بشكل لا لبس فيه أن كلا الطرفين وجهان لعملة واحدة، وأن رايات الطرفين رايات بيضاء لا علاقة لها لا بالاعتدال ولا بالممانعة، فقط كل منهما يبحث عن مكتسباته الذاتية.
الغريب في الأمر أن رجالا يسمون أنفسهم برجال دين من جهة، ورجال وطن من جهات أخرى، ينحصر كل دورهم في توظيف كل وسائل إعلامهم وأقلامهم ولقاءاتهم، فقط لحرف البوصلة عن العدو الحقيقيّ باتجاه "العدو" المنافس على السلطة بكل امتيازاتها ونفوذها، إن تبقى لها "امتياز أو نفوذ".
فمهما قدم الآخر أو حاول أن يقدم، هو أمام تعريفين لا ثالث لهما إما خائن أو خائن، حتى إن بعضهم ذهب بعيدا نحو التشكيك في أي فعل، طالما أن الفاعل لم يتوافق وتوجهاتهم بشكل صريح وعلني، ولا أدل من إقحام السفير القطري "محمد العمادي" نفسه في الجدل الفلسطيني الداخلي، عبر استدعاء لقاءات جرت بينه وبين بعض أعضاء قيادة السلطة، وخص بالاسم عضو اللجنة المركزية لحركة فتح حسين الشيخ، مشيراً إلى كونه ناقش معه الانتخابات التشريعية الفلسطينية ومعبر رفح والدعوة الروسية لجمع حركتي فتح وحماس، مؤكداً أن الدوحة قدمت اقتراحاً لاستضافة لقاء حوار وطني إلى آخره.
الأمر الذي لم يفوته الشيخ بدوره ليفند أقوال العمادي موضحاً أن القيادة طلبت من السفير القطري نقل رسالة إلى قيادة حماس، بأن تكون ايجابية في قبول الذهاب إلى انتخابات نيابية، وأن الرئيس ابو مازن مستعد أن يذهب بقائمة مشتركة في هذه الانتخابات مع كل التنظيمات بما فيها حماس". مؤكدا بدوره بأنه لم تكن هناك دعوة للقاء ثنائي بين فتح وحماس في الدوحة.
العمادي الذي أجرى مؤتمرا صحفياً في سياق التوظيف السياسي، أقامه ليقول بلغة مواربة: إن حماس لم تبع موقفها بالمال القطري، وإنما هي رفضت استلام دفعته الأخيرة، مما اضطر العمادي الإعلان إلى تحويلها لمشاريع إنسانية بالتنسيق والتعاون الكامل مع الأمم المتحدة. رافضاً التشكيك بوطنية "الشعب الفلسطيني" وفصائل المقاومة، مؤكدا أن أطرافا أخرى تسعى لتوظيف هذه المنحة لأغراض انتخابية وتحصيل مواقف سياسية، مشيرا أن محاولات التشكيك تأتي في سياق محاولة كسر صمود الشعب الفلسطيني. متمنيا أن يكون اليوم هادئا على الحدود كما كان في باقي الأيام، على حد تعبيره. "نبغى هدوئاً".
حسنا، هنا وليس دفاعا عن أحد لصالح أحد، وإنما لإجلاء الحقائق فإن السيد العمادي وهو يتحدث عن مفاعيل التشكيك نسي أو تناسى أنه يسعي بكل مفاعيل الدولار لتحويل مفهوم الحالة الفلسطينية تحديدا في قطاع غزة، من كونها حالة سياسية إلى كونها احتياج إنساني، ما يعني بالضرورة حصر القضية مع الاحتلال في الشق الإنساني.
وكي لا نقف كثيرا أمام تصريحات السيد العمادي وما يهدف من ورائها ونهمل أصدقاءه من كلا الطرفين، من يدعم تطبيق ما يسمى بصفقة القرن ومن يقف ضدها، سواء كان الدعم أو الرفض على خلفية فكرية سياسية أم حزبية فئوية، نؤكد مرة أخرى إن إشكال العرب في فلسطين ليس إشكالا على المصالح العليا لقضية العرب الأولى، وإنما هو إشكال أنظمة عربية تتاجر بالدم الفلسطيني، في ظل توفر الأرضية الفلسطينية للسماح بتصفية القضية، عبر تحويلها من قضية سياسية تمثل خلاصها الوحيد الذي كان مأمولا في حل الدولتين الذي صفته بدورها إسرائيل خلال العقدين الأخيرين من الزمن، وليست قضية إنسانية تحاول قطر وغيرها أن تجد السبل لحلها.
وهنا نستذكر تصريحات الأمير القطري في إحدى لقاءاته المتلفزة مع الإعلام الغربي، أن واشنطن هي من طلبت منه مساندة حركة حماس وقطاع غزة مالياً، مساهمة من الدولة الخليجية في إيجاد صيغ مقبولة شعبياً لوقف المقاومة ضد الاحتلال. فالأمر إذن لا وطنيا ولا أخلاقيا وإنما هو متاجرة لا أكثر ولا أقل.
ولكي لا ننسى هنا أحد، نستدعي ما قيل ولا يزال حول محاولات الطرف الإيراني مساومة الإدارة الأمريكية من خلال الساحة الفلسطينية عبر الضغط الأمني على دولة الاحتلال، وأيضا في سياق لا علاقة مباشرة له بالحق الفلسطيني.
الخلاصة أننا اليوم أمام حالة ترويض كاملة للقضية الفلسطينية بأياد عربية وفلسطينية معاً، الأمر الذي يأخذنا باتجاه تفريغ القضية من مضمونها الثوري التحريري لصالح مضامين إنسانية في قطاع غزة واقتصادية في الضفة، جهلت وتجاهلت قضيتي القدس واللاجئين، ما يعني أننا نساهم بقصد أو دون قصد في تمرير هذه الصفقة التي تفصل القطاع عن الضفة وتدفع بكلا الجانبين في أحضان المعونات الاقتصادية الخارجية التي ستكون هي السلطة الفعلية لأي تحرك فلسطيني بأي اتجاه.
تلك النخب القيادية العربية بما فيها الفلسطينية تأبى إلا أن تسجل القضية الفلسطينية في ذمة التاريخ العربي الذي سجل بدوره عشرة أزمان متشابهة، تسعة منها احتلت بامتياز مرتبة أمراء الكلام الذي لم يكن إلا سلاحا للاقتتال الداخلي، وعاشرها أخذ يتقمص بجدارة دور النعام، دفنًا للرؤوس في الرمال.