بعيدا عن التصنيفات وشتى التأويلات التي أحاطت بالحراك ضد قانون الضمان الاجتماعي ومحاولة فرضه بالقوة؛ فإن لشبيبة الحراك والقائمين عليه كل الحق بأن يحتفلوا بانتصارهم ومن شايعهم في معركة كسر الإرادات بينهم وبين حكومة التوافق، بعد أن أسدل "القرار بقانون" الستار على هذا المخلوق المولود قيصريا وقسراً، خاصة وأنه في سبيل تبريره وتمريره نسج المنظرون قصصا دونكيشوتية حول فضائل تطبيقه، وعلى رأس ذلك استعادة حقوق العمال عن عملهم في إسرائيل و"المستعمرات الإسرائيلية"، والتي قدروها بما لا يقل عن عشرة مليارات شيقل، وأقنعوا أركان النظام بما في ذلك الرئيس بجديتها. ولم يتعظ هؤلاء حين أعلنت إسرائيل أن هذه المبالغ هي حقوق فردية، ولا حتى عندما أطلق منسق جيش الاحتلال حملته المسماة "جبل المال"، والتي دعا من خلالها كل من له حقوق عمالية مفترضة عن عمله في إسرائيل ومستعمراتها للتقدم وطلبها من خلال صفحته.
هناك جملة من الأوسمة التي لا بد من تقليدها، بداية يستحق الحراكيون وساما لإصرارهم ومواصلتهم مسيرة إلغاء القانون وكسب الرأي العام، وتمسكهم بالانتظام والنظام والالتزام بنبذ الغوغائية والحوار الصاخب مع معارضيهم، رغم تحفظي على بعض الصخب في وسائل التواصل الاجتماعي، وتمكنهم من الاحتفاظ بقواعد التأييد العريضة لمطالبهم. وتستحق حركة فتح وساما لتململها وانسجامهما مع مطالب الحراكيين ولو كان ذلك بخجل، سواء من خلال بيانات المؤسسات الرسمية أو المشاركة التنظيمية أو الفردية. وتستحق قوى الأمن وقياداتها وساما لحفاظها على سلمية الاحتجاج وسلمية التدخل للسيطرة على أي خروج عن القواعد الديمقراطية في التظاهر، وتحليها بضبط النفس والتعاطي مع النشاطات الاحتجاجية بمهنية وحرفية. ويستحق الإعلام وساما لفتح منابره أمام النقاش والتعبير عن الرأي المخالف، على الرغم من عصا الحكومة ومخالب قانون الجرائم الإلكترونية، وتأييد الرئيس لسريان القانون كما عبر في خطاباته ومجالسه المختلفة. وأخيراً تستحق اللجنة المركزية لحركة فتح نصف وسام لتجرؤها أخيرا على الاصطفاف خلف الحراك حفاظا على السلم الأهلي، ويستحق الرئيس النصف الآخر من الوسام لبقه البحصة (ولو متأخرا) ووضع حد لاستمرار العبث ومعركة كسر الإرادات، التي كادت أن تنزلق بمجتمعنا إلى متاهات سحيقة. وتحسن الحكومة الآفلة صنعا لو أنها تعلن تقديرها وشكرها للحراكيين الذين واظبوا وافترشوا الساحات العامة في "مربعانية" الشتاء دفاعا عن معتقدهم وموقفهم، وترجمة ذلك بالإعلان عن يوم التاسع والعشرين من كل عام يوما للاحتفال بقوة الرأي العام والنضال النقابي المطلبي الديمقراطي.
الآن، وبعد أن أصبح "قانون التفسيخ الاجتماعي" خلفنا، فقد آن الأوان لنا جميعا للقيام بجردة حساب واشتقاق العبر حتى لا يتكرر المشهد ونغرق في بحر جديد من تيه البوصلة وتضاد الأجندات، ونغفل عن جهود كيان الاحتلال في تكريس شرعية احتلاله وسحب البساط من تحت طموحنا بإنجاز الحرية والاستقلال. فقد خسرت حكومتنا الرشيدة لعدم حساسيتها المفرطة تجاه ما يقلق الرأي العام ويثير حفيظته، ولم تتعلم من تعامل الرئيس الفرنسي مع حراك بلاده ومحاولته الدؤوبة تقديم كل القرابين الممكنة من التنازلات في سبيل التقارب مع مطالب المحتجين، وبالتأكيد يجب أن لا يشكل ذلك حساسية له، لأن خسارته لم تكن إلا لشعبه. وقد خسرت مؤسسات القطاع الخاص والنقابات لعدم تمثيلها الأمين لمصالح من نصبوها لتمثيلهم، بعدم المسارعة بالانسحاب من مجلس إدارة الضمان فوراً، ونزع الشرعية عنه ترجمة لرغبة من انتخبوهم، واستثني من ذلك ممثلي القطاع الخاص الذين التزموا بتوجهات قواعدهم الانتخابية وانسحبوا من مجلس إدارة الضمان نزولا عند رغبتهم. وبالطبع فقد يكون أكبر الخاسرين رئيس مجلس إدارة الضمان/وزير العمل، الذي "تأبط شراً" وأطلق التصريحات الصاروخية بحق المحتجين وكأن له معهم ثأرا شخصيا، في الوقت الذي لم يتخذ مبادرات أو خطوات تذكر في مجال تطبيق الحد الأدنى للأجور، وتوفير ظروف عمل لائقة، وتطبيق أمين لقانون العمل والمساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والأجور، طوال فترة إشغاله كرسي الوزارة.
برأيي، وبغض النظر عن فحوى المرسوم الرئاسي، فقد سقط القانون واندثر، ولم يتبق منه إلا ذكريات الاحتجاج وبقايا معارك وتصريحات رئيس وبعض أعضاء الضمان الواثقة من تطبيقه. وقد آن الأوان لكل منا لتعلم الدرس جيدا واشتقاق العبر. أول هذه الدروس أن الشراكة ليست مجرد شعار أو حبر على ورق، وليس بمقدور هذه الحكومة أو أي حكومة قادمة أن تستأثر بالقرار فيما يتعلق بمصالح العباد، فهي، ولو نظريا، خادم الشعب والساهر على مصالحه، تتألم لألمه وتسعد لسعادته. وثاني هذه الدروس أن لكل مواطن الحق بالاختلاف مع توجهات وقرارات أولي الأمر، من الرئيس وحتى أصغر موظف في أي دائرة حكومية دون خوف أو وجل، ولا ينفي ذلك أو ينتقص من مواطنته بأي شكل من الأشكال. وثالث هذه الدروس أن للرأي العام وزنا يجب أن لا يستهان به، وأنه آن الأوان لشعبنا من أجل ممارسة حقوقه كاملة ومحاسبة النظام السياسي إن خرج عن التفويض الممنوح له في إدارة شؤونهم. ورابع هذه الدروس أنه لا يمكن أن يأتينا من دولة الاحتلال إلا الخراب حتى لو تجمل بحفنة من الشواقل على الورق أو في الحسابات البنكية، وأن الاحتلال مستمر ومقاومته واجبة. وخامس هذه الدروس، وقد يكون الأهم، أن التغيير ممكن بالتكاتف والتلاحم والاصطفاف خلف الفكرة أيا كانت، والتحلي بالنفس الطويل.
يجب أن لا يتوجس النظام السياسي ويتخوف من انتصار الحراك، ولن يضيرنا الاعتقاد بأن ربيع فلسطين قد انطلق، ولا أقصد بذلك محاكاة ما سمي بالربيع العربي المدمر، وإنما نهوض المارد الشعبي لتصويب "مسيرة التحرير والبناء" بوسائل ديمقراطية مشروعة لتحقيق أجندة وطنية للإنقاذ، يأتي في مقدمتها الإصرار على عقد الانتخابات العامة في موعدها خلال ستة أشهر من تاريخ قرار المحكمة الدستورية، أي في شهر حزيران القادم، وتكريس مبدأ المساءلة دون انتقائية أو محسوبيات، ورفض إصدار التشريعات والقوانين بالجملة دون توفر حالة الضرورة كما ينص على ذلك القانون الأساسي، ومراجعة تمثيل المؤسسات العامة والأهلية، ووضع حد لهيمنة البعض على قراراتها، والالتفات إلى الأزمة الاقتصادية الماحقة التي تأكل من صمودنا بصمت، والأهم من كل ذلك الاستيقاظ من وهم أوسلو وقلب السحر على الساحر.
وأخيرا فإنه من المنطق أن ينبثق عن هذه التجربة الديمقراطية الناجحة ألف حراك آخر لمعالجة ألف قضية معلقة تخنقنا، أتوجه للحراكيين أيا كان شكلهم أو انتماؤهم بألف تحية في عيدهم، وأتوم فيهم عدم إلقاء الراية بهذا الانتصار، واعتباره خطوة أولى في مسيرة الألف ميل باتجاه الأمل وشرعية حراك الجماهير وقدسيته.
إن من لم يهرموا بيننا كثر. وليس أجمل من استهلال الفصل التالي من الحراك بانتزاع قرار عقد الانتخابات قبل نهاية حزيران القادم. وبالتأكيد، نلتقي في الميادين لاستعادة الحق بتمثيل أمين للمصالح الشعبية. وكل حراك وأنتم بألف خير.