فازت قطر ببطولة كأس آسيا لكرة القدم. وهذا إنجاز "عظيم" ينسجم مع تضور الإمارة الصغيرة جوعاً لتحقيق الإنجازات والأدوار التي تحلم بها منذ أن تراكمت لديها الثروات البتروغازية التي تفوق حجم اقتصادها الحقيقي بل وحجمها الجغرافي والسكاني والاستراتيجي بكثير.
أرادت قطر منذ أزيد من عقد من الزمان ان تصبح بلداً مهماً في المنطقة، بل ربما في الإقليم كله، وفي العالم الواسع إن أمكن. ويبدو أنها جزءاً من احلامها قد تحقق بالفعل: فحتى العداوة والبغضاء وبناء التحالف السعودي ضدها هو علامة من علامات الأهمية وإن تكن في اتجاه مزعج على نحو ما.
في هذا المعنى حكم على الشيخ علي سلمان في مملكة البحرين بالسجن المؤبد بتهمة التخابر مع قطر، وفي السنين القليلة الماضية، حكم على الرئيس المصري السابق محمد مرسي وعدد من قيادات حزبه "الإخوان المسلمين"، بأحكام مرعبة وصل بعضها حد الإعدام كانت فيها تهمة التخابر مع قطر حاضرة بقوة. ومن الواضح أن السعودية والإمارات ومصر والبحرين ترى في قطر عدواً استراتيجياً لا بد من محاسبة من "يتخابر" معها بالإعدام بينما لا يحدث ذلك في حالة إسرائيل. بهذا المعنى تتبوأ قطر مكانة في سلم الأعداء تنافس إيران ذاتها.
بالطبع ليس هناك من مشكلة في التعامل مع إسرائيل؛ وذلك الحكم يشمل طيفاً واسعاً من الدول العربية التي تدور في الفلك الأمريكي/الصهيوني سواء أكانت جزءاً من الحلف التركي أو الحلف الحلف السعودي. لكن إذا كان من المفهوم حتماً أن يتم الحكم على شخص ما بالتخابر مع إيران أو سوريا أو حتى حزب الله، فإن من المضحك بالفعل أن يتهم أي شخص بالتعامل مع قطر. قد يكون الانقضاض على المعارضة في حاجة إلى ذرائع تتصل بالعمالة لجهة أجنبية، ويمكن أن تكون قطر ملائمة لهذه الغاية، خصوصا أنها مثلما أشرنا أعلاه قد حاولت لبس ثوب أكبر منها سمح بإلصاق التهم بها حتى عندما يكون المقصود فعلياً هو إيران مثلما هي حالة الشيخ علي سلمان. وفي هذا السياق يمكن أن نقول إنه لولا أن الدعم القطري لغزة وحماس إنما يمر عبر البوابة الإسرائيلية/المصرية لتم توجيه التهمة لحماس بأنها تتخابر مع قطر.
لكن لماذا وصلت قطر إلى هذه الدرجة من "الخطورة" بالنسبة لمحور السعودية ومن لف لفه؟
كان مركز الدراسات القطري الشهير الذي يقوده المفكر "القومي" عزمي بشارة قد بين في ورقة تقدير موقف صدرت في العام 2015 أن "إسرائيل" تعد قطر عدوها الأخطر. وقد ساق حججاً عجيبة في إثبات رأيه من قبيل أن قطر قد طردت البعثة التجارية "الإسرائيلية"، وأنها تقف وراء المزاج الثوري في الربيع العربي، وغير ذلك من إنجازات لا تخطئها عيون باحثي المركز القطري.
من نافلة القول إن قطر قد ساهمت في الثورة الليبية العتيدة التي دمرت الدولة والنسيج الاجتماعي الليبي، وأعادت ليبيا قرنا كاملاً إلى الوراء. ولا شك أنها قد دعمت حركة الإخوان المسلمين في مصر، وقد رأينا ما تمخض عن ذلك. ثم دعمت النصرة وداعش في العراق وسوريا وبذلت الغالي والنفيس لتدمير الأرض، والدولة، والشعب في سوريا قلعة العروبة الأخيرة. وكان لها باع طويل في دعم ثوار النصرة الذين كانوا يرابطون على حدود الجولان، ويتلقون الرعاية الاستخبارية واللوجستية والصحية من الدولة العبرية. وفي السياق ذاته عملت قطر ما في وسعها ضد المقاومة اللبنانية المتحالفة مع "المشروع الإيراني" بأهدافه المشبوهة في محاربة حليف الخليج "إسرائيل". وهكذا فإن الأدوار السياسية القطرية لم تكن فعلياً في نطاق "التناقض" مع الخطوط العامة للسياسة الأمريكية و"حلفائها" في الخليج والسعودية، ومن البدهي أن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما كان سعيداً بأداء قطر وأداء الثوارات العربية التي تلقت رعاية مالية سخية منها، ناهيك عن الرعاية الاستخبارية، و"العسكرية" على السواء.
تظل قطر بالطبع جزيرة صغيرة لا حول لها بالمعنى الاستراتيجي، ولا قوة، ومهما كبرت فإنها تظل أصغر من أن تزعج بلدا صغيراً مثل الكويت ناهيك عن الإمارات أو السعودية. لذلك لا يمكن لنا أن نفسر الحرب على قطر انطلاقاً من أهميتها الذاتية. لذلك نتوهم أن قطر في نظر معكسر السعودية تمثل قلعة متقدمة لبناء النفوذ التركي في المنطقة. ولا بد أن السعودية ترى في تركيا منافساً خطيراً على زعامة المنطقة والعالم الإسلامي على السواء على الرغم من أن تضارب المصالح بينهما لا يشمل الاختلاف على إسرائيل التي يتمتع القطبان بعلاقات طيبة معها.
الخلافات بين "أفراد البيت السعودي/الخليجي" وحليفهم/عدوهم التركي تظل خلافات تحت المظلة الأمريكية/الصهيونية، وقد كان حوار العام للسيد نصر الله صريحاً وواضحاً في جلاء الصورة في هذه النقطة.
شكراً للمقاومة لأنها تضع النقاط على الحروف مجدداً، ربما للمرة الألف منذ نشأتها: إن قطر والسعودية وتركيا والبحرين، وجبهة النصرة، وداعش، والرأسمالية الأمريكية والأوروبية ومحميات الخليج هم حلفاء "إسرائيل" مثلما هم أعداء الأمة العربية وشعوبها وأرضها وحاضرها ومستقبلها. أما رافعة الحاضر والمستقبل فهي المقاومة العظيمة التي تمكنت لأول مرة في تاريخنا المعاصر منذ نشأ هذا الكيان الغاصب من إلحاق الهزائم به، ومن ثم إجباره على أن يخضع لشروط اللعبة كما يريد لها أبناء الثورة العربية المبدعة والشجاعة في لبنان. المقاومة هي التي بينت بالدليل الواقعي بأن زمن اليد الطويلة لجيش الاحتلال قد ولى، وربما أن سبب ذلك هذه المرة ليس خوف الاحتلال من الرعب القطري المستند إلى قاعدة العديد الأمريكية، ولا قناة الجزيرة المنهمكة بتلفيق الأكاذيب، ولا عباءة يوسف القرضاوي الذي تبرع بالفتاوى الجهادية في كل مكان عدا فلسطين، ولا حتى مركز "هارفارد/عزمي بشارة" للأبحاث السلطانية، والأميرية. ليس ذلك كله، وإنما عبقرية المقاومة، إضافة إلى إقدام مناضليها وقدرتهم الأسطورية على التضحية التي تقدم نموذجاً للعالم كله بأن الأمل في إلحاق الهزيمة بقوى الاستعمار العولمية والإقليمية ما يزال قائماً، وأن أوهام ما بعد الحداثة والليبرالية بخصوص نهاية التاريخ أضغاث أحلام لا سند لها من الواقع.
أما قطر فتظل ترساً صغيراً في المشروع الصهيوني والأمريكي في المنطقة ويسمح لها في سياق ذلك بالقيام بأدوار معينة قد تغضب بعض الأطراف المحلية بين حيناً وآخر، وهذا للأسف ما اضطر إلى التصريح به صناع السياسة القطرية في سياق الدفاع عن أنفسهم أمام الهجمة السعودية: لقد أنفقنا مئات المليارات من الدولارات في إنتاج الفوضى الخلاقة في هذه المنطقة، ودعمنا حماس وجاملنا حزب الله في بعض الأوقات ولكن ذلك كله تم بحسب تعليمات الكاهن الأكبر في واشنطن، ولم يكن لنا في الدوحة من فضل إلا تنفيذ التعليمات بدقة متناهية طامعين في رتبة كبيرة نحظى بها نتيجة رضا الإله الأمريكي الذي نتقرب إليه عبر وليه الإسرائيلي. وهذه هي حكاية قطر الصغيرة الشجاعة والطموحة بدون أقنعة مركز الدراسات أو مبالغات الجزيرة والعربية وغيرها من القنوات.
حاشية: الصراحة القطرية بعد الأزمة كانت مذهلة: مثلاً المسؤول القطري العطية دعا أمريكا إلى حل أزمة بلاده مع السعودية ومصر والإمارات. وقال إن ترامب يستطيع بمكالمة هاتفية أن ينهي المشكلة. وقال أيضا إن بلاده تريد توسيع القواعد العسكرية الأمريكية وتريد استقبال المزيد من جنود امريكا. لكنه بالطبع مستعد لأكثر من ذلك: إنه مستعد لتوقيع معاهدة دفاع مشترك مع إسرائيل إن تطلب الأمر ذلك.