الحدث
من يتابع تطور القضية الفلسطينية يشعر بوجود حلقة مفقودة أو (فريضة غائبة) يؤدي غيابها لهذا التيه والضياع والتخبط الذي نعيشه ، مثل عدم قدرة الفلسطينيين على توظيف الحراك الدولي الشعبي والرسمي غير المسبوق المتعاطف مع قضيتهم الوطنية والرافض لإسرائيل وممارساتها، و تخبط الأحزاب التي تمارس المقاومة المسلحة ، وانقلاب أعمال المقاومة خرابا ودمارا ومعاناة للشعب الفلسطيني ، وغياب هذه الحلقة المفقودة هو السبب في الخلافات الفلسطينية الداخلية وفي الانقسام المعمم لكل نواحي حياتنا حتى على مستوى الثقافة والهوية والانتماء والمجتمع والأسرة .
لا نروم باستعمالنا مصطلح (الفريضة الغائبة) الخوض بمعانيه ودلالاته وحمولته الدينية والتي تختلف بل وتتقاتل حولها الجماعات الدينية الإسلامية ، سواء بعد كتاب محمد عبد السلام فرج في كتابه (الجهاد : الفريضة الغائبة) أو مَن سبقه وكتبوا حول الموضوع كابن تيمية .
المقصود بالفريضة الغائبة في مقامنا ومقالنا هذا ، ما لا يكتمل أو يتم الشيء إلا به ، وعليه يسمى فريضة بما هو ضروري ولازم كضرورة ولزوم الفرائض في الدين ، مع تبيان أن الفرائض في الحالة الأولى بالرغم من أن صدرها إلهي إلا أنها تقبل تعدد الاجتهادات ، وهو ما جعل استحضارها يؤدي لصراعات وحروب بين المسلمين انفسهم ، حتى تمنى كثير من المسلمين لو لم يتم إحياء هذه الفريضة ، أما الفريضة في الحالة الثانية فمصدرها وضعي مستمد من العقل وضرورات الواقع والمصلحة الوطنية ، وهي لا تقبل الاختلاف أو الصراع عليها بل تحتاج لتوافق وطني وإلا لن تكون فريضة .
الفريضة الغائبة في الحقل السياسي الفلسطيني هي المشروع الوطني الجامع للكل الوطني ، ومن يقود قاطرته ويتحمل استحقاقاته ممارسة نضالية . عليه ، فالمشروع الوطني ليس شعارات تُرفع أو حديث يُقال إن لم يصاحب ذلك ممارسة وإنجاز على الأرض . المشروع الوطني الحقيقي هو قاسم مشترك حول الهوية والثقافة والتاريخ والعمل السياسي والمقاومة ، بعيدا عن حسابات السلطة والمصالح الحزبية والارتباطات الخارجية ، دون ان يعني ذلك إلغاء الحزبية والتعددية ولكن التعددية في قانون المشروع الوطني تخضع لمبدأ ( التعددية في إطار الوحدة ) .
المشروع الوطني ليس ملكا أو حكرا على حزب أو جماعة تحت مزاعم الشرعية التاريخية أو الشرعية الدينية ، و ليس ملكا لمن يملك سلاحا أكثر أو مقاتلين أكثر ، وخصوصا في زمن بات فيه المال الخارجي لأصحاب المشاريع الإقليمية يصنع جيوشا وجماعات بل وقيادات ، وليس ملكا لمن في يده سلطة وحكومة في ظل الاحتلال وبرضاه ، سواء في غزة أو الضفة . المشروع الوطني ملك لكل الشعب تحت قيادة من هو مستعد لتحمل استحقاقاته كمشروع تحرر وطني ، مشروع القرار الوطني المستقل غير المُلحق بأي جماعة خارجية ولا يمثل امتدادا لأية جماعة خارجية ، إنه المشروع الذي يعبر عن الهوية والثقافة الوطنية ، وعن فكر الوسطية والاعتدال ، والمتصادِم مع الاحتلال .
ليس من باب التحيز لحزب أو مناصبة الأحزاب الأخرى العداء ، بل بما بات يدركه ويحسه الشعب . إن الفريضة الغائبة عن الحقل السياسي الوطني الفلسطيني هو المشروع الوطني كما عبرت عنه منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة حركة التحرر الوطني الفلسطيني (فتح) خلال العقدين الأولين لقيامها ، وحركة فتح اليوم الأكثر قدرة وتأهلا لأن تقوده في حالة استنهاضها ، وتحررها من أدران السلطة وابتذال التنظيم ، وتجديد فكرها ومنطلقاتها .
كان من الممكن ، ومن حق ، قوى أخرى أن تقود المشروع الوطني خلال العقدين الماضيين عندما انشغلت حركة فتح بالسلطة ومشاكلها ، واعترى تنظيم فتح حالة من الخمول والدعة ، إلا أن القوى الأخرى حاولت ولكنها لم تستطع أن تملأ الفراغ ، سواء قوى اليسار ذات التاريخ الوطني العريق ، بسبب تشرذمها وعدم قدرتها على توحيد القوى الوطنية واليسارية والتقدمية في جبهة واحدة – وقد بُذلت جهود لتشكيل جبهة وفشلت أكثر من مرة ، أو جماعات الإسلام السياسي وخصوصا حركة حماس التي لا تمثل المشروع الوطني وما زالت حذرة في التعامل مع مفرداته واستحقاقاته، لأنها امتداد لجماعة الإخوان المسلمين ، بل هي جماعة الإخوان المسلمين كما ذكر صلاح البردويل احد قادة حماس .
ليس هذا القول تعصبا لفتح ولكن تعصبا لفلسطين وخوفا عليها من الضياع . حركة فتح التي نتحدث عنها ليست تنظيم فتح الراهن المهلهل والمنقسم لتيارات وجماعات ، وليست أشخاصا محددين على رأس التنظيم ، وليست السلطة والحكومة حتى وإن نُسِبتا لفتح . أيضا ، إن حركة فتح وحدها لن تكون قادرة على إنجاز المشروع الوطني حتى وإن كانت قائدته والمؤتمنة عليه ، إلا أنها بتاريخها واتساع قاعدتها الشعبية وبحملها للفكرة الوطنية كما أسلفنا ، تمثل العمود الفقري للمشروع الوطني أو قاطرته .
بالتأكيد فإن هذه الصفة وهذا الدور مشروطان بأن تستنهض حركة فتح نفسها كحركة تحرر وطني وان تستمر أمينة على الفكرة الوطنية الجامعة ، بمعنى أن حركة فتح تفقد دورها الريادي إن تخلت عن المشروع الوطني ، والمعادلة هي أن لا مشروع وطني تحرري بدون حركة فتح، ولا قيمة لحركة فتح بدون المشروع الوطني التحرري الذي يجمع ما بين العمل السياسي والمقاومة بكل أشكالها حسب ظروف الزمان والمكان .
يمكننا أن نضيف اعتبارات أخرى تجعل من حركة فتح واستنهاضها ضرورة وطنية وليس حزبية فقط ، مثلا، أن رئيس حركة فتح نفسه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ورئيس السلطة الوطنية ورئيس الدولة قيد التأسيس . قد يبدو هذا وكانه احتكار من حزب لكل المواقع القيادية للنظام السياسي الفلسطيني بكل تمظهراته ، وهذا أمر واقع ، وإن كنا نتمنى تفكيكه بالفصل بين كل أو بعض هذه الرئاسات ، وخصوصا بين رئاسة حركة فتح ورئاسة السلطة ، حتى لا تدفع حركة فتح ثمن أوزار السلطة ، أو تنزل بسقفها السياسي إلى سقف السلطة والاستحقاقات المفروضة عليها ، فحركة فتح أكبر من السلطة ،وهي موجودة قبل وجود السلطة، وستستمر كمشروع تحرر وطني في حالة انتهاء دور السلطة لأي سبب من الأسباب .
سيكون المؤتمر السابع لحركة فتح المقرر عقده في يناير القادم منعطف مصيري ومحك عملي للحكم على قدرة حركة فتح على استعادة دورها الريادي ، وعلى حمل مسؤولية استعادة وتفعيل الفريضة الغائبة . وعن المؤتمر ومشاكله وتحدياته حديث آخر في المقال القادم .