في رحلة العودة باتجاه مدينتي رام الله والبيرة، وغداة الوصول إلى أحد مداخلها الرئيسيّة وترائي صور التلوث والركام العمراني، وتشابكات الصور المدينية المسطّحة والمتمثلة في التراص العمراني، والكتل الحجرية المتواصلة، وغياب الفراغ المنظّم، والإضافات المشتِتة والمتمثلة بلوحات الإعلانات وغيرها من العناصر المضْجِرة بصرياً، بادرني صديق ذو معرفة وعمق حدسي بسؤال مباشر: من المسؤول عن هذا التلوث البصري؟ فتح مثل هذا التساؤل النقاش حول موضوع هام وشائك، يتسع إلى ما هو أطول من حديث عابر في رحلة دخول المدينة، وأوسع من حدود مقال رأي صحفي، أو بحث علمي، ويسلط الضوء على أهمية القضية وانعكاساتها على حياة الأفراد وجودة البيئة المعاشة. كما أن أهمية الأمر تتجاوز الأطر الشكلية والجوانب المرتبطة بمعايير الحياة المعاشة، عند ارتباطها في سياقات استعمارية، يعد العنصر المكاني والهوية الجمعية أساسا فاصلا في تكوينها وتحديد ماهيتها.
تتكون المدن والبلدات في مستوياتها البصرية والفيزيائية، من بنيتها الحيزية المتمثلة في فراغاتها العامة من طرق وساحات وحدائق، وتكويناتها العمرانية الفيزيائية المتجسدة في المباني، عامة كانت أم خاصة. تشكل هذه التكوينات المنصّة الأساسية والمسرح الذي يستضيف مناحي الحياة المختلفة، وهو بلا شك مؤثر ومتأثر بتلك المناحي: المدينة كمكون عام، والعمران كعنصر أساسي، وهي انعكاسات مباشرة لمجموع العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وفوق كل ذلك مكونات سياسية بإمتياز، وهي تمثل مصدرا أساسيا لقراءة تلك الظواهر وتحليلها وفهمها. تهدف الآلة الاستعمارية إلى السيطرة على المكونات الحيزية من خلال تدخلاتها المباشرة المتمثّلة في الهدم والتدمير وفرضها لعناصر السيطرة من جدران فصل ونقاط تفتيش وعناصر البنية التحتية، بالإضافة إلى التدخلات غير المباشرة والمتمثلة بتأثير سياسات الهندسة الاجتماعية على التكوينات الحيزية: تمثل هذه الممارسات أساس الاضطرابات البصرية والفوضى العارمة للتكوينات الحيزية لمدننا وقرانا. يضاف إلى كل ذلك الصورة المسطحة الوهمية المرافقة لشكل الدولة المستقبلي والمسقطة على واقعنا المحلي، والتي فرضت حالة من التخبط انعكست على شكل وطبيعة مدننا وبلداتنا وقرانا، وصبغت منتجاتها المعمارية المعاصرة بتلك الطبيعة، والتي شهدت في بداية الألفية الثانية حَيدا وخروجا عن نص التكوينات المعمارية المميزة والتي أُنتجت في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
يرسخ هذا المشهد غياب معايير الضبط والترتيب ويعكس فوضى المنظومة وتناقضاتها المبدئية، ويسوّق لبعد أيديولوجي متعلق بطبيعة تعريف العمارة والمدينة من منظور نيوليبرالي، يركز على العمارة في سياق شكلها وصورتها المسطحة دون التطرق إلى ماهية وكينونة العمارة كمضمون وذلك بهدف خدمة أجندته الاستهلاكية. تجدر الإشارة هنا، وبرغم كل ما ذكر، إلى وجود ممارسات معمارية مميزة، لبعض المعماريين المحليين الرياديين، إلا أنه وفي غالب الأحيان يتم التعامل معها كحالات استثناء. يمكن اعتبار ما تم ذكره، وما نتج عنه من صور متضاربة، نتيجة لكم هائل من الأسباب والممارسات التي تفتح النقاش حول "من المسؤول عن هذا التشوه البصري؟" والتي تدفعنا إلى محاولة تفكيك ذلك بهدف سبر أعماق المشكلة، وتسليط الضوء على مدى أهمية ذلك، والمساهمة في إحداث تغيير فاعل وإيجابي على محيطنا بانعكاساته المؤثرة على هويتنا الثقافية ومنظومتنا الاجتماعية.
لقد تعرضت مكوناتنا العمرانية، وعلى مر السنوات، لهجوم ممنهج وعنيف من قبل الآلة الاستعمارية، مثلها مثل أي جانب من جوانب حياتنا المختلفة، والتي يمكن وصفها في إطار مفهوم الإبادة العمرانية النظري "Urbicide". تَمَثّل ذلك في الممارسات المباشرة المتجسدة في أوامر الهدم المتكررة وبشكل ممنهج سواء ما استهدف منها المباني ومكونات البنية التحتية المختلفة أو فراغات مدننا وقرانا العامة. كما يضاف لذلك، وضمن نفس التصنيف، فرض عناصر السيطرة الحيزية الفيزيائية المختلفة من جدران فصل، وطرق التفافية، وعناصر بنية تحتية استعمارية، ونقاط تفتيش، وقواعد عسكرية، وأبراج مراقبة، وغير ذلك من العناصر التي غيرت في شكل المشهد الحضري العام الفلسطيني ورسخت مفهوم العيش في كانتونات والعزل وتحديد أطر التوسعات العمرانية، حوّل ذلك شكل فلسطين المعاصرة إلى ما يشبه الاركيبيلاغو (Archipelago): مجموعة من الجزر العائمة المتمثلة في المناطق العمرانية المفصولة عن امتدادها الطبيعي بفعل بحر منطقة "ج"، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع نسب الكثافات السكانية والدفع تجاه الفوضى العارمة.
رافق ذلك اتجاه مواز تمثل في الممارسات غير المباشرة والمتجسدة في سياسات الهندسة الاجتماعية والتي انعكست في قوانين التنظيم والسيطرة الجائرة في المناطق التي صنفتها اتفاقية أوسلو بمناطق "ج"، وقوانين السكن والإقامة في مدينة القدس وضواحيها وما صاحبها من ممارسات تضييق مختلفة ومتنوعة تركت تأثيرا هائلا على بنية المكونات العمرانية في هذه المناطق، وعلى المناطق المحاذية لها. يضاف لكل ذلك عمليات المداهمة المتكررة وما لازمها من تعدّيات على الحيّز العام، باختلاف المناطق وتصنيفاتها، والتي وُسمت بطابع استعراض القوة والتبجح، حيث شكلت بدورها علامة مؤثرة على طبيعة التعريف الجمعّي لكل ما هو عام وهويته وحرمته. لم تؤدي هذه الممارسات باختلافها، من خلال الهدم أو الدفع لخلق حالة من الفوضى، إلى إحداث خلل في بنية مكوناتنا العمرانية الفلسطينية وحسب، بل تعدى الأمر ذلك حيث وصل إلى التأثير على الإدراك الفردي والجمعي وارتباطاته بمفهوم العام والخاص: إن عملية الإبادة العمرانية لكل ما هو عام ومشترك دفعت الوعي العام وفي كثير من الحالات للارتداد إلى الخاص، واعتبار كل ما هو عام قابل للتدنيس والانتهاك. يتراءى ذلك في اهتمام المواطنين في الحيز الداخلي لمنازلهم، وحرصهم على توفير مساحات كافية لهذه المنازل، دون الالتفات إلى جودة مكونات الإطار العام والحرص عليها.
لا يمكن حصر ما يجري في المدن والبلدات والقرى الفلسطينية من تلوث بصري، وتعد سافر على كل ما هو عام، وترسيخ حالة الفوضى العارمة، كنتيجة لممارسات الاحتلال وحسب، مع التأكيد على مسؤولية الأخير، بل يرافق ذلك مجموعة من الأسباب والمسؤوليات المختلفة رسخت لمثل هذه الحالة من الفوضى، وهي أسباب مرافقة لحالة التناقض العام التي يعيشها الفلسطينيون. لقد أدت عملية تبني السلطة الوطنية الفلسطينية لسياسات اقتصادية نيوليبرالية، والتي تحمل دلالاتها بشكل واضح عمليات الإقراض البنكية، أدت هذه السياسات إلى إنفجار في قطاع العمران والعقار، رافقها غياب واضح للوعي الجمعي تجاه مفهوم العام كوسط ناظم لعمليات التفاعل الاجتماعي وأهمية البيئة المحيطة في عملية بناء نموذج تنموي ومقاوماتي في آن واحد.
تسبب هذا الانفجار من ناحية في ارتفاع غير مبرر في أسعار الأراضي والعقارات دفع وبلا هوادة إلى تنامي ميول المُلّاك لاستغلال كل ما أمكن من مساحات بهدف تحقيق أعلى درجات الربح: الامتداد الأفقي والعمودي، والتجاوزات المختلفة في البناء، وطرق معالجة المواقع وتقديم الحلول المعادية للبيئة لتحقيق أهداف ربحية، والتأثير بشتّى الطرق على صناعة القرار من خلال استصدار قرارات الاستثناء أو دفع المخالفات الزهيدة مقارنة بالمكاسب المتوقعة، وما رافق ذلك من ثقافة المشاطرة في تقنين استعمال المواد والأدوات اللازمة، والميل إلى تقليل التكلفة بشتى الطرق والتسابق على ملء أي فراغ وجد في محيطنا العمراني.
يوازي ذلك إطلاق العنان للمشاريع الاستثمارية المختلفة والمتنوعة، والتي تجسدت في مشروعات المجمعات والمراكز التجارية، في مراكز المدن ومحيطها، والضواحي و"المدن" الإسكانية (مدن الفنادق)، وقرى ومنتجعات سياحية، ومطاعم، ومباني شركات وبنوك، وغير ذلك من عناصر ومكونات عمرانية تخدم في حضورها السياسات الاستهلاكية المتبعة في محاولة لترسيخ الوهم المتمثل في حالة العيش في رفاه، والمتناقضة بشدة مع واقع العيش تحت الاحتلال وفي سياق استعماري مطلق ومباشر. عبّدَت هذه المشاريع الطريق لظهور أنماط معمارية وعمرانية مسطحة بصرياً، وتركز باستمرار على استثارة عيون ومشاعر المتلقي من خلال مساحاتها الزجاجية المعاصرة، وصورها المستوردة تارةً من بيئات أخرى ذات دلالات راقية في ذهن المتلقي، أو المستوحاة تارةً أخرى من صور ذات ارتباطات نوستالجية، دون الالتفات إلى متطلبات الواقع المحلي والانطلاق من دلالاته وماهيته، وما رافقها من التعدي على كل ما هو عام، كجزء من أيديولوجية رأس المال التي تميل إلى نصب العداء الدائم للحيز العام واحتلاله وتغيير هويته.
لقد ساهمت عملية تبني مثل هذه الرؤى والأنماط إلى تحويل مكوناتنا العمرانية الفلسطينية إلى تكوينات أقرب ما تشبه سجادة ممتدة من الخرسانة والحجارة، تخلو من التنظيم، وتشح بالفراغات العامة وأيّة إرتباطات ثقافية او اجتماعية ناظمة، ويكثر فيها الآفات البيئية التي تشذ عن الحدود الدنيا من متطلبات الإنشاء صديق البيئة، إلّا في بعض الحالات الاستثنائية التي يناضل منتجوها من معماريين بشتى الطرق للتأثير إيجابا على حساب مكتسباتهم الخاصة. تخلل ذلك صور عمرانية مسطحة، لمشاريع استثمارية، هدفها خلق صورة مزيفة للواقع العام بهدف تغييب جمعوي وتعزيز ثقافة الاستهلاك.
قصور مؤسساتي
لقد رافق ذلك تخلف المؤسسات العامة عن أداء دورها التنموي الناظم، وانصرافها إلى تحديد مهامها في إطار المشاريع الممولة دولياً والتي تخلوا من الرؤى الاستراتيجية وتخضع لأجندات ورؤى تنموية غير محلية، أو ضمن حدود خدماتية واهية تحت مبررات سريالية ساذجة متمثلة في تمكين الناس من توفير السكن، ومجابهة الاحتلال بالتمدد، دون الالتفات إلى التأثيرات المدمرة لتلك الممارسات على بيئاتنا المحلية أو محاولة البحث عن حلول ريادية مناسبة.
يضاف لذلك عقد القران المبرم بين ما يمثل العام ومستثمري القطاع الخاص، والذي بدوره أخضع واقعنا المديني، وفي غالب الأحيان، بتكويناته المختلفة لمتطلبات المستثمرين وسلطتهم، ضمن مبرر استقطاب رأس المال وتشجيعه، وأُطلق العنان أمام هذا القطاع للعبث بجودة البيئة العمرانية المحلية والدفع لتدميرها. يتراءى قصور المؤسسة الرسمية على عدة مستويات، بداية في التمسك بنظام تخطيط شمولي، يُخضع مدننا وبلداتنا وقرانا إلى نفس المعايير العامة والسطحية، والتي لا تراعي خصوصية المكونات الحضرية وحاجاتها الخاصة، كالسماح للبناء بكثافات عالية وارتفاعات مبالغ فيها في جل المناطق، مدينية بتنوعها أم ريفية لا يزيد عدد سكانها عن ألفي نسمة في بعض الأحيان، مع غياب الرؤى المحددة لطبيعة تكويناتها الحضرية، وأنماطها، ومعايير جودتها التي لا بد من المحافظة عليها.
إلى جانب ذلك يأتي قصور الطواقم العاملة في الوزارات والبلديات عن أداء أدوارهم من متابعة وضمان لمعايير جودة البناء والحفاظ على الحيّز المطلوب وتحسين الصورة المدينية، ومتابعة عمليات التنفيذ بطرق مؤثرة كنتيجة لضعف معرفي وتقني، وقلة الخبرة، وعدم الانفتاح على مفاهيم ونظريات معاصرة تنموية شهدت نجاحا باهرا في دول متنوعة نامية. كما ويتجسد قصور هذه المؤسسات في غياب قدرتها على تطبيق القانون وتحويله إلى آلة رادعة، مكتفية تارة بإصدار مخالفات البناء التي تكثر في كل مكان، وأذونات التجاوز التي تعطى وفي الغالب من قبل البلديات والوزارات للمشاريع الاستثمارية "الهامة" بنظرها: إن فكرة السماح بإعطاء أذونات التجاوز للمشاريع الاستثمارية ذات الأحجام الكبيرة تشبه إلى حد هائل منع التدخين في حيّز ما مع السماح به لليوم فقط، حيث تمثل هذه المشاريع المكونات الأكثر تأثيرا على حيّز مدننا، فما الداعي من إخضاع المشاريع الصغيرة ذات الأثر المحدود لمنظومة القوانين إذا لم تلتزم بها المشاريع ذات الأثر الأكبر؟
يكتمل قصور دور المؤسسة العامة في لعب دور إيجابي تجاه الحفاظ على بيئتنا العمرانية من خلال دور نقابة المهندسين وجمعية المعماريين: تلعب نقابات المهندسين، وجمعيات المعماريين دورا محوريا هاما في دول العالم المختلفة، ليس فقط في تنظيم المهنة، وإنما في ضبط جودة العمل المعماري، وتحديد طبيعة التدخلات المسموحة، والتدخل في قوانين العمارة، والمساهمة في أدق تفاصيل مهنة العمارة ومنتجاتها. يبرز دور نقابة المهندسين محليا في عملية تنظيم المهنة، الأمر الذي يعد إيجابا، في حين يطرح السؤال نفسه فيما يخص جوانب ضبط الجودة والمساهمة في الدفع باتجاه إنتاج منتجات معمارية مؤثرة، حيث أن عمليات التدقيق التي تجري للمخططات المعمارية والتصاميم وفي غالب الأحيان لا تتعدى عمليات شكلية، بالتالي يبرز تركيز دور المؤسسة على متابعة الأفراد مهنياً دون التركيز على متابعة المنتج نفسه. يوازي ذلك تساؤل أخر حول دور جمعية المعماريين: كثير من المعماريين المحليين يجهلون وجود مثل هذا الجسم محليا، وكأنه من مسؤوليات الأفراد البحث عن المؤسسة وليس العكس؟ لا بد لنقابة المهندسين وجمعية المعماريين من الدفع تجاه لعب دور فاعل في كل ما يخص مهنة المعمار، واحتلال دور الصدارة فيما يتعلق بكل المبادرات والنشاطات والترتيبات المرتبطة بهذا الحقل.
بمراجعة ما ذكر أعلاه، ومحاولة سبر أعماق الإشكال المطروح، يبرز دور الفرد المعماري، ممارسا أو موظفا في المؤسسات أو مسؤولا أو غير ذلك، كأساس ومسبب رئيسي لكل ما ذكر من إشكاليات، حيث فشل تارة في بناء نموذج معماري محلي مقاوم، يتناسب مع إمكانات البناء المتوفرة ومحاولة تطويرها واستغلال الموارد المتاحة بصور معاصرة، وظهر قصوره في قدرته على تقديم رؤى تعزز من الأدوار التنموية التي يمكن أن تلعبها مدننا وقرانا بتكويناتها المعمارية وحيزها العام ووظائفها وأبعادها الرمزية وعلاقة كل ذلك بتعميق ثقافة المقاومة ورفع شعار الهوية الجمعية كعنصر ناظم ومعزز للارتباطات المكانية والثقافية والاجتماعية. كما وفشل هؤلاء، في أغلب الأحيان، في المساهمة برفع الثقافة الجمعية تجاه البيئة العمرانية والحيز العام والهوية الثقافية.
يمكن تعريف عمل الكثير من معماريينا، باستثناء المجموعة المذكورة سابقاً، بتجارة الجملة: البحث عما يرضي الزبون دون التطرق إلى الحلول المناسبة له وللمستخدم وللحيز العام والمدينة، بذلك غاب الجانب المهني والعلمي، وحضر التسليع وحضرت ثقافة الاستهلاك بشكل مطلق. لقد اختُزل دور المعماريين باستنساخ نماذج مسبقة الصنع بعيدة الحاجة عن أي مهارة معمارية أو معرفة تقنية بهدف تحقيق الربح بأسرع ما يمكن، أو استحضار صور من الأزمنة الغابرة بهدف خداع المتلقي وتسويق المنتج، أو نسخ لنماذج تمثلت في أماكن ودول تسببت بتعزيز حالة الوهم التي سبق التطرق لها. تمثل حالة القصور هذه إمكانية مقاربة عمل المعماريين محلياً بعمل صالونات التجميل (مع الاحترام المطلق للفئة الأخيرة التي يختلف سياق عملها)، فغاب فهم العمارة ومنتجها كمنتج ثقافي واجتماعي واقتصادي، بل وذهب الحال في بعض المعماريين إلى استعمال مفردات إرضاء الزبون (مفهوما نيولبراليا بامتياز، ينم عن خداع مبطن، وغياب المهنية والجودة المرجوة من المنتج).
يعكس ذلك كسلا فكريا ومهنيا، وتواطؤاً بهدف استغلال ما أمكن من موجات الاستثمار وعقد القران المبرم بين العام والخاص واسترضاء رؤوس الأموال، وغياب المهارة والشجاعة لتقديم ما هو جديد ومناسب لجميع الجهات. يجذّر لذلك حالة الاحتكار التي يمارسها كثير من المعماريين، وهي انعكاس لثقافة التقسيم المناطقي السائدة محليا، والمتمثلة في مختلف القطعات المحلية، والتي تعمل على إقصاء كل من يمثل التجديد والتغيير، تارة باسم الخبرة والتي يمكننا إخضاعها للتشكيك بمجرد استعراض المشاريع المنجزة، وتارة أخرى من خلال قوانين التصنيف وطريقة إدارة المهنة والتي تعود بالفائدة على طبقات وجهات محددة.
وهنا بالإمكان توضيح ذلك من خلال كم من الأمثلة، كالمسابقات المعمارية التي تتم بدعوة، والتي تسمح بها نقابة المهندسين، والتي تقصي شرائح معمارية كبيرة، وهو أمر غير معمول به عالميا إلا في حالات شبه نادرة ولأسباب محددة. يضاف لذلك سنوات الخبرة المطلوبة دون النظر إلى جودة ما تم إنجازه مسبقا، وإقصاء التجارب العالمية عن الاحتساب، وإقصاء العاملين في الأكاديميا، وطبيعة تشكيل اللجان الهندسية، وغياب أي صورة من صور تشجيع الإبداع.
يضاف لكل ذلك ما يعرف بادعاء الواقعية: يخضع كل خريج من الجامعات في قطاع المعمار، بطريقة لا واعية، إلى تقييم "الممارسة الواقعية" لدى أصحاب المكاتب (تسمية تتناسب مع غياب طابع المعمار عن هذه المجموعة)، حيث يتم تحديد الواقع الذي على خريجي الجامعات معرفته والتعامل معه بالمعرفة والمهارة المختزلة والتي تدور في فلك أصحاب هذه المكاتب، وهي ارتفاع الدرج، ومساحات البناء، وما يتم تداوله من مواد بناء محليا، خبرة يمكن اكتسابها في فترة شهرين من الممارسة، الأمر الذي يختزل مهنة المعمار في جانب استنساخ نماذج قائمة ويقصي كل جوانبها التجريبية الإبداعية، ويقوض قدرتها للتعامل مع حاجات الواقع الحقيقية. فتح مثل هذا الأمر المجال لتستبدل الأعمال المعمارية بالأعمال التجارية، والممارسات الهندسية بالمشاطرة، وحل من يتمتع بالفهلوة مكان من يمتلك المعرفة والمهارة.
لقد حوّل ذلك محيطنا إلى حقل من الاسقاطات العابثة، وأدى لسلب مدننا وقرانا هويتها وجودة محيطها، وقوض فرص التنمية المستقبلية. تدفعنا المسؤولية هنا لعكس دوران الدفة، والبحث عن دور ريادي للمعماري، سواء من خلال أدوار فاعلة أكثر، محفزة للإبداع ومتابعة بدقة لجودة العمل المعماري، تؤديها نقابة المهندسين بشكل متكامل مع جمعية المعماريين، وأدوار ريادية للعاملين في المؤسسات الرسمية تقوم على تبني قوانين تنظيم وبناء تراعي الواقع المحلي وحاجاته الراهنة، وتدفع لدور تكاملي بين المؤسسة العامة والقطاع المستثمر بدل حالة السيطرة العكسية.
كما لا بد من دور ريادي للمعماريين ومؤسسات العمل المعماري، من جامعات ونقابات ومكاتب وشركات، لرفع الوعي الجمعي تجاه العمل المعماري، وإرساء طرق لتنظيمه وضمان جودته، بحيث تعيد إنتاج معمار ذو جودة تماثل ما تم إنتاجه في فترة السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، أو من خلال تسليط الضوء على مجموع التجارب الريادية المحلية المعاصرة كأساس وليس كاستثناء. يمثل العمل المعماري بماهيته عملا مرتبطا بالثقافة: الثقافة ليست ما نقوم به في وقتنا الحر، الثقافة هي من يحررنا.