الحدث ــ محمد بدر
في الفترة التي تلت حل الكنيست الإسرائيلي، نشرت المواقع الإخبارية الإسرائيلية عددا لا بأس به من التقارير حول إمكانية أن تقوم إحدى "الجماعات المعادية" لـ"إسرائيل" في الشمال أو الجنوب بعمل أمني أو عسكري، من أجل التحكم بمسار الانتخابات الإسرائيلية ونتائجها، ولم يكن هذا التخوف سرا أو تحليلا، لدرجة أن رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو صرّح بأن الانتخابات لن تمنع "إسرائيل" من العمل، وكأنه يتحدث عن محاولة ابتزاز ترفضها "إسرائيل".
ما كان يخشى الإسرائيليون منه كان واقعا ممتدا وحاصلا قبل التحذيرات والتوقعات، ولكن الاعتقاد الإسرائيلي كان محاصرا نفسه في فترة الانتخابات، وكان متعاملا معها كفترة منفصلة عن سياقها. إن الحقيقة العملية، تشير إلى أن المقاومة الفلسطينية أصبحت عنصرا هاما وعاملا مهما في شكل العلاقات السياسية في "إسرائيل". ومن منطق الكشف عن هذه الحقيقة الفوقية، يجب قراءة استطلاعات الرأي الإسرائيلية التي تشير بوضوح إلى صعود قوة ما يمكن تسميته "اليمين الوسط" المتمثل بـ"بيني غانتس".
بعد سنوات طويلة من تحكم ما يسمى باليمين الإسرائيلي بالحياة السياسية والأمنية لـ"إسرائيل" خاصة بعد اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000 وسقوط حكومة "ايهود باراك" لصالح "أرئيل شارون"؛ يجد "اليمين الإسرائيلي" نفسه في مأزق نفسه. لقد توسع "اليمين الإسرائيلي" الذي يؤمن أكثر بالصهيونية العملية على حساب التيار السياسي المسمى بالوسط واليسار؛ وهو التيار المؤمن بأفكار الصهيونية السياسية، وساهم حزب الليكود الإسرائيلي في توسع دائرة "اليمين الإسرائيلي" ثقافيا وسياسيا حتى على حساب نفسه.
لقد كانت عملية اجتياح الضفة والسيطرة عليها و"قتل الانتفاضة الفلسطينية" من أهم العوامل التي ساهمت في صعود "اليمين الإسرائيلي" وصعود خيارات القوة والسيطرة والنظرية الواقعية معه. وبالتالي فإن هذه الفكرة ظلت تتعايش مع مجتمع عسكري بالأساس، وظلت تنمو في داخله وتنشط فيه الصور المتخيلة للمقاتل الإسرائيلي القادر على خلق الحلول وصناعة الفرص، وللفلسطيني المهزوم بقوة السلاح والبناء والاستيطان والأمر الواقع بكل معادلاته.
لكن الأمر لم يعد كذلك بعد ثلاثة حروب في غزة، لم تستطع أن تنهي التجمع العسكري الأبرز للمقاومة الفلسطينية، ولم تستطع أن توفر أدنى مقومات الأمن للمستوطن الإسرائيلي في الجنوب، بل وذهبت بالإسرائيليين لأبعد من ذلك، فأصبح الجندي الإسرائيلي "المقاتل اللانهائي" مطاردا على حدود غزة بفوهة البندقية وبالكاميرا التي تعرّي تفوقه. كما أن حرب لبنان الثانية وقدرة حزب الله على خلق معادلة ردع أقوى من تلك التي كانت، جعلت من النظرية الواقعية الإسرائيلية الأقل حظا في الحياة، بعد أن كانت الأكثر حظا للموت.
يهرب الجمهور الإسرائيلي في هذه الأيام نحو "بيني غانتس" الذي لا يعدهم بالحرب وإنما بما يسمى "السلام"، بعد أن خاض هذا الجمهور تجربة فاشلة مع إرادة الفلسطيني وحقيقته الموضوعية. إن اليمين الإسرائيلي الذي اتسعت له المجالات بالعمل بعد "حرب الغفران" وهزيمة "إسرائيل"، تضيق به المجالات بعد هزائم "إسرائيل" على أكثر من جبهة. ويعود الإسرائيلي محملا بتجربة سخيفة مستنسخة مع اليمين واليسار، ليجرب ما كان يعتبره بؤسا من جديد.
لقد أصبح الإسرائيلي عاجزا عن صياغة شكل جديد للعلاقة مع مستقبله، من الفرد للدولة ومن الدولة للفرد، في ظل حديث عن خطر وجودي يتهدد الكيان الإسرائيلي ككل. لكن الإسرائيلي ما زال حتى اللحظة في دائرة الاختيارات العقلانية، وفي المرحلة التي يفقد فيها الإسرائيلي الثقة بتجربته، فإنه لن يكون أمامه سوى الاختيارات الانتحارية، والتي ستنتهي بكل تأكيد بنهايته، على الأقل هكذا يعتقد مفكرون صهاينة كبار. خلاصة القول إن الحياة السياسية والأمنية الإسرائيلية تحولت من عامل ثابت إلى عامل متغير، بعدما أصبحت المقاومة عاملا ثابتا غير قابل للذوبان من كل أطر المعادلة.