من الممتع بالفعل الاستماع إلى دونالد ترامب، ولكن خطابه الأخير وهو الثاني له حول حالة الاتحاد سمح بتفتح موهبة الرجل أكثر من المعتاد. يتحدث ترامب بإيقاع بطيء، بطيء جداً يذكر بطريقة العرب في الخطابات، خصوصاً زعماء الخليج الذين يعانون مع اللغة الغربية. غني عن القول إننا لا نتهم الرجل بالضعف اللغوي، لأن هذه سمة لم يتقاسمها مع زعماء العرب أي رئيس في تاريخ أمريكا باستثناء جورش بوش الابن.
لعب ترامب على الوتر القومي/الفاشي بشكل مباشر ودون إتقان كبير، أصلاً صوت الرجل وإيقاعه لا يسمحان ببث روح كاريزمية في صفوف الحاضرين، مع ذلك كان التصفيق الحار يرتفع كما ينبغي له كلما جاء ترامب على ذكر شيء يخص عظمة الاتحاد والأدوار الخطيرة التي تضطلع بها أمريكا على نحو يميزها عن باقي الأمم والدول والشعوب.
أعلن الرئيس في صوت رتيب حاول أن يجعله مختلفاً:" لقد قد هزمنا داعش في سوريا." وصفق النواب عن بكرة أبيهم لهذا إلإنجاز الأمريكي الحصري، كيف لا والرجل لم يذكر أي دور أو مساهمة صغيرة أو كبيرة لروسيا أو إيران أو حزب الله، ولا حتى للجيش العربي السوري. القوات الأمريكية (التي قصفت الجيش السوري ومخازنه أكثر مما قصفت داعش) هي التي حررت سوريا كلها من داعش. طبعاً تعلمون مثلما يعلم ترامب وأصغر الجنود الأمريكيين أن الجيش الأمريكي لو سيطر برياً على بقعة واحدة ودفع ثمناً لها قطرة واحدة من الدم، فإن الإنس والجن ما كانا ليقنعاه بأن يتخلى عنها. بلغ عدد القوات الأمريكية في سوريا في أكثر أحواله ما يزيد على 2000 جندي بقليل. ولا بد أن مواجهتهم لداعش كانت كفيلة بإبادتهم عن بكرة أبيهم بسبب قدرة مقاتلي داعش الرهيبة على مواجهة الموت بشجاعة أسطورية، وكذلك حيازتهم التكنولوجيا والأسلحة المتطورة على نحو غريب، وأخيراً أعداد الدواعش الكبيرة بالفعل التي سمحت باستمرار القتال سنوات طويلة.
تعلمون أيضاً أن الجيش الروسي قد نشر قوات جوية هائلة، وحرك أساطيله في البحر المتوسط وغيره، كما انتشرت القوات الإيرانية على نطاق واسع سمح لبعض أعداء الدولة السورية بالقول إن سوريا خاضعة للاحتلال الإيراني. هذا إضافة إلى الفصائل الفلسطينية المقاتلة مع الجيش السوري، وأخيراً قوات النخبة الأشجع والأكثر إتقانا لفنون حرب العصابات التي شارك بها حزب الله.
لكن خطاب حالة الاتحاد لا بد أن يشتمل على انتصارات أمريكية كبيرة. ومن هنا جاء تباهي الرئيس بأن حرباً ضد كوريا الشمالية كانت ستشتعل لولا أن النعمة الإلهية قد قيضت للولايات المتحدة هذا الزعيم المحنك الذي تمكن من فك شيفرة الزعيم كيم أون، وبالتالي تجنب العالم والأمة الأمريكية المخاطر الجسيمة لحرب نووية ضد بيونغ يانغ. يصعب أن نصدق أن الكذب ليس له قدمان؛ الكذب له أجنحة محلقة أيضاً. إذ أن من المعروف أن العلاقات بين العالم "الحر" وكوريا الشمالية ظلت كما هي منذ انتهاء الحر ب الوحشية التي شنتها أمريكا ضد كوريا مطلع الخمسينيات من القرن العشرين. ولم تصل الأمور إلى حافة الحرب مرة أخرى إلا في عهد ترامب بالذات، مع أن احداً لم يصدق أنه ينوي الذهاب باتجاه الحرب فعلاً.
المسرحيات الميلودرامية القومية هي الأجمل في خطاب الرئيس.
فقد أحضر شخصاً يحتفل بعيد ميلاده الواحد والثمانين كان قد ركب وزوجته القطار من مركز للاحتجاز النازي سنة 1944 . كانا يظنان أنهما في طريقهما الى الموت أو الى احتجاز آخر. ولكن عندما توقف القطار في محطة غرب ألمانيا، صرخ الموجودون فجأة في نشوة مجنونة: "إنهم الأمريكان، إنهم الأمريكان "
صفق الحضور طويلاً طويلاً، ووقف العجوز الناجي من النازيين، وقد نجا نفسه، يا لروعة الصدف، من الهجوم على كنيس بتسبرغ الذي سنتحدث عنه بعد قليل. انطلق الكونغرس كله (عفوياً؟) في أغنية "هابي بيريث دي تو يو" مما تسبب في موجة أخرى من التصفيق الرومانسي الجذل، ليتلو ذلك وعد الرئيس بأن تظل أمريكا منارة للعالم كله، تتعلم منها أمم الأرض قاطبة؛ تصفيق جنوني حار مرة أخرى.
إذن لم يفت ترامب أن يستثمر الهوس الديني للمحافظين الجدد من عشاق الصهيونية، فانطلق يصف الحادث الرهيب الذي وقع في بتسبرغ (عاصمة بنسلفانيا) والذي شهد مصرع أحد عشر شخصاً من اليهود الأبرياء، لكن ضابطاً ضخم الجثة (مع أنهم جيمعاً ضخام وطوال القامة) تمكن أخيراً من قتل الجاني وأنقذ العجوز البطل الذي نجا من المحرقة الألمانية.
وقف الضابط العملاق وهو لا يبدي أية يقظة تجاه ما يجري حوله، بل إن ملامحه فيما نحسب قد شابها الكثير من البلاهة والضياع. تعرفون يصعب أن يكون هذا الفتي ممن تلقوا أي تدريب عقلي جدي. ولعل أي شخص عاش في الولايات المتحدة ولو لفترات قصيرة يمكن أن يقدر أن العسكر هناك ماكنات بدنية هائلة مزودة بعضلات مفتولة كبيرة لكنها بالتأكيد لا تتدخل كثيرا في "أنشطة" التفكير.
من حسن الصدف أن ترامب قد أحالنا لهتلر. ذلك أن الأساليب والمحتويات التي وظفها تذكر بهتلر إلى حد بعيد: حتى الحديث عن الشعوب وتحريرها من الظلم هو لعبة نازية بامتياز ، المشكلة أن النازيين غائبون، ولا يستطيع أحدهم أن يقول لنا إن دونالد ترامب هو عنصر متدني الذكاء من عناصر حزبهم الذي يسمى الان الحزب الجمهوري الأمريكي، ولا ينقصه إلا صليب معقوف لكي تكتمل الملامح.
الرئيس يريد السلام ويريد أن يعيد الأبناء إلى بيوتهم، وذلك ينطبق على "الشرق الأوسط" وشرق آسيا. لكنه يريد الحرب مكرهاً على ما يبدو في أمريكا الجنوبية والشمالية على السواء. فهو يصر على بناء السور الذي يمنع أي تواصل بين البشر ليحمي أمريكا من رعب الأجانب ويحمي العمال الأمريكيين من المنافسة. مسموح كما تعلمون انتقال السلع والأموال حول العالم أما العمال فلا. يستطبع رأس المال أن يذهب ليجد أفضل الفرص للاستثمار حيث توجد أقل الأسعار لقوة العمل، أما العامل فلا يسيتطع أن يبحث عن المكان الذي يقدم له السعر الأفضل، هذه أصلا كانت كلمة السر الأولى في العولمة: حرية المال والسلع، وتقييد العمل والبشر. وعلى الرغم من أن ترامب ضد العولمة إلا أن هذه النقطة بالذات لا يختلف فيها أنصارالعولمة مع أنصار الفاشية القومية. فقط يزيد أنصار الفاشية عن غيرهم برغبتهم في المزيد من الإغلاق متناسين أن من الممكن الاضطرار لاستيراد العمالة في حالات النهوض الاقتصادي.
المهم أن الرئيس يكتشف على نحو مفاجئ أن الخطر الأكبر الذي يتهدد الولايات المتحدة والعالم الحر هو خطرالشيوعية، الشيوعية مرة أخرى. كنا ظننا أن الشيوعية قد انتهت. لقد انتهينا من خطر الشيوعية منذ تفكك الاتحاد السوفييتي، تحديداً منذ العام 1990. وانتصر في ذلك الزمن بحسب فوكوياما قطار الديمقراطية والرأسمالية والليبرالية. لكن بعد قليل ظهرت فزاعة الإرهاب الإسلامي لتهيمن على الخطاب الأمريكي خصوصاً مع وصول جورج بوش سنة 2000 إلى السلطة. واستمرت طوال فترة الرئيس الأسمر أوباما الذي شهد عصره ازدهار الحركات الأصولية التي لم يكن الرئيس الأسمر بريئاً من المشاركة في ولادتها ونشأتها وترعرعها.
كان هناك اتجاه أصولي ما تحابيه الولايات المتحدة على نحو خاص. لكن "المتطرفين" من قبيل "القاعدة" و"داعش" و"النصرة" ما لبثوا أن تسيدوا المشهد في الهلال الخصيب وشمال أفريقيا. وبدا أن الولايات المتحدة يجب أن تحارب ضد "أسامة بن لادن" مرة أخرى. كما بدا أن الحرب ضد داعش قد تستغرق ثلاثين عاماً مثلما قدر الرئيس الأسمر بالذات. لكن ترامب "اكتشف" و"كشف" أن ذلك كان وهماً؛ ربما لأن الشرق الأوسط لم يعد مهماً على نحو حاسم، بالنظر إلى تآكل دوره الاستراتيجي في موضوع الطاقة بعد تضخم الاحتياطات النفطية في الولايات المتحدة وفنزويلا والمكسيك وروسيا...الخ لا بد أن زمناً قريباً سيحل فيصبح تسويق النفط عملية صعبة، وقد تنحصر خلال وقت قصير في شرق آسيا. الرئيس ترامب ذكر على الملأ أن الولايات المتحدة تتبوأ الآن مكانة البلد الأول في إنتاج الغاز والبترول في العالم؛ فليذهب الشرق الأوسط إلى الجحيم.
إذن الهم الأول الان هو ترتيب "الحديقة الخلفية" للولايات المتحدة. ولذلك لا بد من وضع حد لمرحلة التهاون والتراخي مع أمريكا اللاتينية. وقد كانت بداية "النضهة" الأمريكية المرعبة هي شراء البرلمان البرازيلي، وإسقاط ديلما روسيف وصولاً إلى سجن الرئيس العمالي السابق "لولا" ثم إيصال بولسانارو اليميني الفاشي إلى سدة الرئاسة.
بعد ذلك انطلق الهجوم ضد فنزويلاً.
في هذا السياق لا بد من استحضار الروح الشيوعية الشريرة والتظاهر بأنها تتجول في أرجاء أمريكا الجنوبية والشمالية، وأنه لا بد من إلقاء القبض عليها قبل أن تقبض روح الولايات المتحدة وروح ترامب نفسه.
بالطبع ليس هناك أي خطر من قريب أو بعيد من أن أية هجمة "يسارية" من أي نوع في هذه اللحظة التاريخية. لكنها "الفزاعة" الضرورية والملائمة لردع من يعارض انكماش ترامب من الشرق وتمدده إلى الغرب.
لذلك يأتي الزعم بوجود الخطر الشيوعي شفيعاً لأية جهود أو نفقات أو مؤامرات أو جيوش ..الخ تجهز من أجل إسقاط الحكم البوليفاري في فنزويلا باعتبار أنه ممثل الخطر الشيوعي الأشد في هذه اللحظة، أشد من الإرهاب ومن إيران ومن الصين ذاتها.
ولكي يتخلص الرئيس من مواصلة "التحرش" الذي يتعرض له على حد تعبيره، خصوصا ما يتصل بتدخل الروس لمساعدته، فقد قرر أن يضحي بالاتفاقيات الموقعة منذ عقود مع روسيا والتي خففت عن كاهل الجميع، لكن الرئيس في خطاب حالة الاتحاد يجب أن يسد المنافذ ما أمكن في وجوه منتقديه، خصوصا أن الحديث قد بدأ يأخذ مجراه حول الانتخابات المقبلة وفرص الرئيس في إعادة الانتخاب لدورة أخرى. إن خطاب "حالة الاتحاد" مزيج خال من الإبداع من الفهلوة والتلفيق الذي اتسم به جورج بوش الابن، مع مقدار ليس باليسار من ألاعيب هتلر القومية. لكن ترامب بالتأكيد لم يستطع أن يجاري بوش في مواهبه في الاختراع ولا يمكن أن يفكر ولا في الأحلام بأن يكون نداً لهتلر صاحب الكاريزما الساحرة عندما يتطلب الأمر تعبئة الجنون القومي الأعمى مرة لتدمير سوريا وأخرى لاحتلال فنزويلا.