السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"الي بخاف من الغول بطلعلو".. الحكايات الشعبية الفلسطينية

2019-02-13 09:21:13 AM
الميثولوجية الشعبية - الغول

 الحدث الثقافي 

تتوفر معلومات عن المعتقدات الشعبية المتعلقة بالخوارق من خلال "حكايات الخوارق"، نعني بهذه الحكايات ما تتضمن جزئيات ذات مضمون خارق للعادة ومثل ذلك تلك الجزئية المتكررة في الكثير من حكايات الخوارق عن قدرة الغول على حمل الإنس، أماكن بعيدة قبل أن يرتد إلى بصره أو في غمضة عين. ونحن نعرف أن بني البشر يحتاجون زمناً طويلاً ووسائل كثيرة حتى يتمكنوا من الوصول إلى تلك الأماكن. ومن هذه الجزئيات المتضمنة أموراً خارقة تلك الجزئية التي تتحدث عن وجبة طعام الغول، وتقول هذه الجزئية: أن الغول يعود إلى حِماه حاملاً على ظهره شجرة، وفي فمه بقرة، ويبادر الغول إلى الشجرة، فيشعل النار فيها ويشوي البقرة على النار ويلتهمها، وقس على ذلك السيف الخشبي الذي يقتل الغول والبنت التي تتمكن من الاختفاء بطريق القوى السحرية داخل بطن حيوان متجول، وقدرة الغول على تحويل الزائر إلى دبوس ليحميه من فتك الآخرين به….الخ.

والقاص الشعبي لا يميز تمييزاً دقيقاً بين الغول والجان والعفريت، وكثيراً ما يخلط بينهم ويستعير الواحد منهم للآخر، وكأنه يمتلك في ذهنه صورة ضبابية مخيفة وغامضة لهذه الكائنات. ومع ذلك، فمن خلال استقراء الحكايات يمكن القول: أن الغول يبدو في الحكايات وهو أقرب إلى الحيوان أو الإنسان المتوحش، بينما يوجد لدى الشعب تصور خاص للجان يضعه في مكان ما مقابل للإنس، أما العفريت، فيبدو وكأنه مسخر في خدمة الجان.

حكايات الغيلان:

حكاية الغيلان حكاية بالرواية الشفوية جادة غالباً، وتتركز الأحداث حول بطل أو بطلة وغالباً ما يكون البطل فقيراً، أو مضطهداً، أو يتعرض لامتحان عسير تتوقف عليه حياته، أو حصوله على فتاة أحلامه، أو على دواء غريب لعزيز لديه، وبعد سلسلة من المخاطرات يقوم بها ذلك البطل بشجاعة أو يمر بها بهدوء نتيجة لطيبة نواياه أو حسن حظه، فإنه وبعد أن تلعب "الخوارق" دور ملموساً يستطيع أن يصل إلى غرضه فيحضر الدواء أو يجتاز الامتحان، وبعد ذلك، وفي الغالب، فإنه يحصل على كنز أو فتاة رائعة الجمال أو الاثنين معاً ويعيش حياة سعيدة إلى النهاية، والغول عادة شخصية أساسية في هذه الحكايات وهو يؤثر بالإيجاب أو السلب على أحداث القصة، ويساعد على تطويرها سواء أكان في جانب البطل يعاونه ويسهل له الصعاب أم في المعسكر المعادي الذي يهدد حياة ذلك البطل أو يحول دون حصوله على مبتغاة.

وتحتل حكايات الغيلان مكانة مرموقة في مجموعات الحكايات الشعبية العالمية ولا تكاد تخلو حكايات شعب من الشعوب من ذكر الغيلان ومن محاولات "لتصورها"، كما أنه من الملاحظ أن هذه الحكايات تستأثر باهتمام خاص من السامعين وعلى الأخص الأطفال؛ لما يجدون فيها من أحداث غريبة ومفاجآت وأنشطة غير مألوفة في الحياة العادية، تشد انتباههم، وتدفعهم لاستزادة الرواية من هذا النوع من الحكايات الشعبية.

ويعود الاهتمام العلمي بدراسة حكايات الغيلان وتدوينها، إلى الحركة الرومانسية التي اجتاحت أوروبا في القرن الثامن عشر، واتجهت فيما اتجهت إلى التراث الشعبي، ويعتمد الأخوان جريم- وهما من أوائل الباحثين الذين تصدوا للحكاية الشعبية- أن هذه الحكايات إنتاج آري كامل وخاصة أن أغلب النصوص المستحدثة التي جمعاها كانت آرية، ويعتبرها كراب من أقدم أنواع القصص الشعبية لأنها تتناول الجانب غير اليقيني من تجربة الإنسان، كما تتناول تصوراته الغيبية. ويعتقد هذا العالم الفولكلوري أن هذه الحكايات أثر من آثار العالم القديم حملته إلى أندونيسيا تيارات الثقافتين الهندوكية والإسلامية ثم حمله الغرب إلى شرق إفريقيا، وحمله الهولنديون إلى جنوبي أفريقيا وإذاعة المستعمرون الأوروبيون في العالم الجديد.

 ويبدو أن هذه الحكايات قد وضعت في ظل مجتمع لا يختلف فقط عن مجتمعنا بل يختلف كذلك عن مجتمع العصور الوسطى ومجتمعات العصور القديمة، كما تصورها كتابات أصحاب التقاويم التاريخية وبالطبع يجب ألا تخلط بين النص الأصلي والمستحدث إذا ما طالعنا النصوص الحية وهالنا ما تعكسه من ملامح الحياة الشعبية الحديثة، فالنص الحي هو نسخة مستحدثة من نص أصلي غالباً ما نجهله، وليس من المستبعد أن تكون حكايات الغيلان أغصاناً صغيرة نبتت من الأساطير الأصلية.

وتتألف حكايات الغيلان من جزيئات بعضها يتصف بقدر كاف من الواقعية، في حين يكون بعضها الآخر عبارة عن بقايا متخلفة من الماضي تمثل أشكال المعتقدات الأولى التي نشأت قبل تكوين الحكاية بفترة طويلة، وقد تكون بعض هذه الجزئيات تكملة واستطراداً من أوهام الأحلام، ولنضرب على ذلك مثلاً من حكاية "ست الأدب":

 وفي هذه الحكاية جزئيتان الأولى: يتبع الغول ست الأدب ويخطف ابنها الذي تلده. والثانية: تبث ست الأدب شكواها إلى "علبة الصبر"، فلا تحتمل العلبة الظلمة، فتنفجر وعندها يأتي الغول فوراً لتكفير آثامه. في الجزئية الأولى يبدو لنا الغول كما لو كان شخصاً عادياً إلا أنه يمتلك نوايا شريرة وهو يسير في أثر الفتاة المسكينة المرفهة كما يفعل أي لص أو قاطع طريق، فيهددها لتذكر له سبب خوفها منه أو يخطف ابنها الذي ولدته لتوها، وتستمر ست الأدب على موقفها الذي يمليه الخوف من الغول فتتركه يأخذ ابنها مبررة ذلك بأن الولد ليس أعز من أمها وأبيها اللذين أخذهما الغول في السابق؛ أما في الجزئية الثانية، فنحن أمام سيدة مظلومة أسرف الغول في تحديها والإساءة إليها، وهي تجلس أمام "علبة الصبر" تبثها مظالمها، وتظل السيدة صابرة، ولكن علبة الصبر لا تستطيع أن تصبر، فتنفجر ويكون انفجارها بمثابة الحركة الديناميكية ذات رد الفعل الوحيد والذي هو حضور الغول الظالم فوراً من مكانه البعيد، ويسلم الغول الولدين المخطوفين إلى أمهما ويكف عن مضاياقاته لها، وفي حين تبدو الجزئية الأولى ذات قدر معقول من الواقعية، فإن الثانية تدخل في نطاق الخوارق، فما هي علبة الصبر؟ وكيف تنفجر إذا أخذ الإنسان يبثها مشاكله؟ وكيف يعرف الظالم بذلك فيرتدع؟.

التصور الشعبي للغيلان:

هناك تصور شعبي كامل للغيلان تؤيده عادات وممارسات شعبية وأساطير وحكايات تجزم بوجودها، وتنتشر حكايات الغيلان والقصص والأخبار المتواترة عنها في كل قرية وداخل كل بيت ومع كل راو.

 وبالطبع فإنني أتحدث هنا عن تلك الحكايات والأخبار المتواترة على اعتبار أنها جزء من مادة التراث الشعبي، ومن وجهة النظر الأنثروبولوجية ليس إلا، وبكلمة أخرى ليس من اختصاص الفولكلوريين أن يبحثوا عن واقعية الحكايات أو عدم واقعيتها، وإنما يدرسونها كظاهرة في الثقافة الشعبية.

إن الشعب يتصور الغيلان على هيئة بشرية موحشة، فبينما يتصورها تأكل وتتكلم وتحب وتكره وتحارب، فإنه يرسم لها وجوهاً مرعبة، وشعراً كثيفاً يكاد يحجب الرؤية، وأظافر غاية في الطول (قد تكون مغروزة في الأرض أمامها في بعض الجزئيات)، وحجماً ضخماً، وعيوناً لامعة، وقدرة حركية عالية، وصوتاً أجش، وذكاءً كبيراً (أحياناً)، ودهاءً بالغاً، ومعرفة غير محدودة.

وفي النطاق المحلي الضيق يعتقد الناس في الوسط الشعبي أنه إذا مات ابن آدم أحس الأحياء بغولته تعود لتزورهم أو تعترض طريقهم وخاصة إذا كان القتل، والقتل العمد هو سبب الوفاة.

 ويروي الكثيرون حكايات وأخباراً يؤكدون فيها أنهم أحسوا بالغيلان، فسمعوا أصواتها وشاهدوها على هيئة بشرية من تكوين أسود متحرك، لنستمع إلى هذا الوصف لغولة قتيل: "كنت أركب الحمار قبيل الفجر وأنا في طريقي إلى مدينة مجاورة، وكانت برفقتي ابنتي الصغيرة التي كانت تركب على الحمار نفسه وتمسك بي، وعندما مررت بالموقع الذي قتل فيه محمد قرب مدرسة القرية، شاهدت ما يشبه الجسد البشري الأسود، يقف بالقرب من المكان، ثم يسير أمامنا على مسافة بعيدة، وظننت أن ما أراه هو أم محمود التي اعتدنا أن نذهب معاً وإياها إلى المدنية لنبيع بعض منتجاتنا، فأخذت أنادي بصوت عال: "أم محمود! أم محمود!" ولم ترد أم محمود، بل استمرت تسير على مسافة بعيدة أمامي، وظننت أنها تمازحني؛ فلا تنتظرني، وتحاول أن تسبقني إلى المدنية، ولم أهتم لتخوفات ابنتي والتي لاحظت أن أذني الحمار قد انتصبتا من الخوف. وعندما وصلت إلى المدنية؛ لم أجد أم محمود في السوق، وأحسست ساعتها فقط بالخوف؛ فقد تأكد لي آنذاك أن ما رأيته لم يكن أم محمود وإنما كان "غولة محمد".

وهذا وصف آخر، تقول زهدية مصطفى 25 عاماً، السنديانة حيفا: "ذهبت فجر يوم ما مع زوجي إلى الحقل للحصاد، وكنت أحمل طفلي الصغير في سريره الخشبي الذي حملته على رأسي، وعندما مررت بالمكان الذي قتل فيه محمد؛ سمعت صوت رجل يتبعنا وقد تعالت أصوات ضربات قدمين ترتديان البوت الثقيل. وعندما شرحت مخاوفي لزوجي أخذ زوجي يسير خلفي ليفصل بيني وبين الصوت الذي أسمعه وظللت أسمع ذلك الصوت حتى ابتعدنا كثيراً عن المكان الذي قتل فيه محمد".

وإذا ما لاحظنا أن زوج الراوية في الرواية الثانية لم يسمع ضربات القدمين، وأن الرواية الأولى لم تفكر في الغولة ولم تخف منها عندما رأتها، فإننا نجد تأكيداً للقول الشعبي المأثور: "اللي بخاف من الغول بطلع له، وهكذا يبدو الغول هنا، وعند فئة شعبية غير خرافية مجرد شيء تتصوره أوهام الخائفين، ويؤكد الذين شاهدوا الغيلان ليلاً أن الغول يتلاشى عندما "يطلع النهار" وينطفئ كما ينطفئ السراج؛ وربما كان ذلك تأكيداً لاعتبار الغول مجرد وهم عند بعض الفئات الشعبية يصنعه خيال الخائفين تحت جنح الظلام.

 وتكثر الغيلان كما تتواتر عنها الروايات الشعبية في الأماكن الخالية والخرب المهجورة، وبالقرب من المقابر، والأماكن التي يقتل فيها الآدميون، ولذلك نلاحظ أن الغول في الحكايات الشعبية يقطن على مسافة بعيدة من البشر في بطون الوديان وفي قصور حصينة بعيدة؛ يقتل كل من يقترب منها أو يحرس الكنوز الموصودة باسم شخص معين، أو العيون التي تفرز ماء الحياة، أو الأنهار والينابيع التي يرتوي منها البشر؛ فيمنعهم من ورودها، وفي حالات أخرى ترى بعض الغيلان في تماس مع مجتمع المدنية.

الغول الطيب:

في حالات قليلة نسبياً يصادف الغول الطيب المؤمن في ثنايا الحكاية الشعبية، ويبدو هذا الغول على غرار الغول الشرير، من حيث القوة والمقدرة على الحركة السريعة، وحتى على افتراس الآدميين وأكل لحمهم البشري إذا لم يحسنوا التصرف. ويصادف البطل هذا الغول وهو في رحلته الميمونة للحصول على الدواء العجيب، أو فتاة الأحلام، أو إحضار ماء الحياة فيكون له خير عون على تحقيق ما يريد، ويصادف البطل الغولة الأم وقد ألقت ثدييها خلف ظهرها وتهدل شعر رأسها وحواجبها وشعر جسدها على الأرض وانغرست أظافرها أمامها في التراب؛ ويسرع البطل فيرضع من الثديين ويقص الشعر الزائد والأظافر وعندها تحس الغولة بالسعادة والراحة والمقدرة على رؤية كل ما حولها بوضوح ومتعة، "وتعبر عن سعادتها بما فعله البطل اللي أفظى الدنيا بوجهها، واللي رظع من بزها اليمين، وصار مثل ابنها اسماعين ورضع من بزها اليسار وصار مثل ابنها نصار".

 ويعرف البطل أنه إذا كانت الغولة تطحن السكر وكانت عيناها تصدران بريقاً هادئاً فهذه هي اللحظة المناسبة للاقتراب منها والتودد إليها، وعليه أن يبتعد عنها إذا كانت تطحن الملح "وعينيها يتقادحن". ويأتي أبناء الغولة الذين كانوا في رحلة البحث عن القوت اليومي، وتخشى أمنا الغولة على الضيف من أبنائها، فتسحره دبوساً تضعه في صدرها ولا تخرج إلا بعد أن تحصل على كلمة الأمان منهم، وعندها يرحب به الغيلان ويتطوعون لمساعدته ونصحه وتسهيل مهمته، وتتركز المعونة التي يقدمها الغيلان للبشر في النقل السريع، على اعتبار أن للغول مقدرة على اختراق المسافات في ثوان قليلة، وهذه السرعة تهيئ إمكانية لا تُجارى، بحيث يستطيع الشخص أن يعود بالدواء للمريض العزيز قبل أن يفسد، وتستطيع البطلة أن تسبق زوجها الذي هجرها إلى حيث يقصد، أما المعونة الأخرى التي يقدمها الغول الطيب للبطل فهي النصيحة التي بدونها لن يستطيع البطل تحقيق أي هدف، فيحدد الغول للبطل المكان المناسب الذي يجد فيه مبتغاه، أو اللحظة المناسبة للانقضاض على خصمه أو الطريق المناسبة للقيام بذلك، وقد تقدم جنية لصديقتها معونة كبيرة، فتبني لها قصراً أو تنشيء لها مخيماً وتملأ القصر أو المخيم بالأثاث والرياش وصنوف الطعام وتحشد له الخدم والحراس.

ويجوز لنا الاعتقاد بأن تصور الأوساط الشعبية لكل هذه السهولة واليسر في الانتقال السريع، هو بمثابة طموح الإنسان لتحقيق وسائل اتصال سريعة بعد أن ملّ من الانتقال بالوسائل العادية. ترى ألا يمكن اعتبار ما تحقق الآن من وسائل تكنولوجية هائلة تقرب المسافات بين البشر هو بمثابة ذلك الخيال المجنح الذي تصوره الإنسان؟ وألا يحق لنا الاعتقاد بأنه عندما كان الإنسان يصارع الطبيعة فلا يستطيع التغلب عليها كان يلجأ للخيال الذي يضع الغول في خدمته لتحقيق ما صعب تحقيقه في عالم الواقع ورسمه في عالم الأحلام؟ لقد لاحظنا أن الأعمى يمكن أن يشفى، والبعيد يمكن أن يحضر، والمستحيل يمكن أن يتحقق بمعونة الغيلان، ونلاحظ اليوم أن أشياء كثيرة مما كانت مجرد شطحة خيالية في الحكاية الشعبية قد تحققت بطريقة أو أخرى. لقد رسم خيال الإنسان صورة للرحلة إلى جبل قاف ذي البعد الخرافي، وحقق جهد الإنسان وعلمه الوصول إلى القمر، إن ما كان خيالاً بالأمس حفز شخصاً ما على العمل لتحقيقه بصورة أو بأخرى.

الغول الشرير الكافر:

ويصادفنا في ثنايا حكايات الغيلان ذلك النوع من الغيلان التي تؤذي البشر. كأن تأكلهم أو تعيق تحركهم في سبيل مبتغاهم، أو تمعن في الإساءة إليهم. ويخوض البشر صراعاً طويلاً مع هذا النوع من الغيلان تتخلله أعمال بطولية وتحركات فهلوية، وقد يساعد "الغيلان المؤمنة الطيبة" أبطال الحكايات ضد "الغيلان الشريرة الكافرة". والعصبية هنا ليست عصبية الجنس بل عصبية الإيمان والمبدأ. وليس صعباً علينا أن نعزو هذا التصرف إلى ما تأثر به الرواة المسلمون من مبدأ الأفضلية بالتقوى، وتنتهي الحكاية عادة بانتصار البطل.

 ويبدأ الصراع بين الإنسان والغول الشرير بمجرد التماس بينهما، إلا أنه غالباً ما يحسم بضربة ذكية من سيف خشبي غالباً ما يكون سيف الغول نفسه، وفي معظم الحالات يتعرف البطل على الوسيلة الناجحة للقضاء على الغول بمعونة رفيق أو خادم كان قد أسدى له معروفاً مسبقاً.

 إن الحكايات الشعبية لا تعرض لنا قصة الإنسان المهزوم أمام الغول، ولا تصور لنا كيف يفترس الغول ضحاياه من البشر، وتكتفي هذه الحكايات بأن تصور لنا ذلك الجانب من الأحداث التي يكون فيها البطل الإنسي قادراً على أن يصرع الغول أو يسيطر عليه، ولا يمكن تفسير هذا الإصرار من جانب الرواة إلا من ناحية الرغبة في التماشي مع إبراز ما انطبع في الوجدان الشعبي من خوف متأصل من الغيلان.

 إننا نجد الغول الشرير وهو في حمى الغيلان البعيدة في "حكاية الفرصة" وقد جلس بقرب نار عظيمة وأخذ يشوي بقرة، وهمّ الغول بأن يفتك بالبطلة التي جاءته إلى عرينه تستجديه "شقفة نار"، ولكنه يتردد ثم يعفو عنها قائلاً: "ولولا سلامك سبق كلامك لخلي الذبان لزرق يسمع صحك اعظامك"، ثم يتبع الغول فريسته حتى تصل إلى الكوخ الذي تقيم فيه مع إخوتها السبعة، ورغم أنها تغلق باب الكوخ، فإن الغول يطلب منها أن تمد اصبعها ليمصه ويفعل ذلك يومياً.

ويجوز لنا الاعتقاد بأن هذه الجزئية تعود إلى ذلك العهد الذي وجد فيه الإنسان مصاص الدماء، ذلك الشخص النهم الذي يأكل بقرة كاملة ويسير في أثر فتاة مسكينة ليمتص دمها.

وإذا أردنا أن نفكر بروح العصر، نجد أن الشعب كان يستعمل شخصية الغول ليرمز إلى الاستغلال والمستغل الذي كان يعيش على مايستدره من مال وجهد وجوع العمال الزراعيين في بلادنا في الإقطاعيات والمشيخات التي كانت سائدة في العهد العثماني، وذلك مجرد تأويل يستعين بسند تاريخي.

وفي "حكاية القرصة"، نجد أن أخو البطلة يقطع رأس الغول، فتنفتح صفحة من الصراع بين مصاصي الدماء ومحترفي السحر والخداع، وبين أبناء المرأة الفلاحة العجوز، وربما كان في ذلك تأكيد للتأويل الذي ذهبنا إليه.

ونجد الغول الشرير في الفلاة الواسعة وجهاً لوجه أمام الإنسان الذي شدّ الرحال ليطلب مبتغاه، "فالشاطر حسن" يهاجم الغيلان ليحصل على "القلب المطلوب"، و"ماء الحياة"، و"العصفور الأزرق"، وذلك في محاولة منه لشفاء أمه وضرائرها من العمى والأمراض المستعصية، وبذلك نجد في هذه الحكاية صورة للرواد الذين فتحوا أبواب المجهول أمام بني البشر، ومن جهة أخرى يمكن تفسير هذه الحكاية على أنها صدى لآمال الناس وطموحاتهم لمصارعة الطبيعة، وتحقيق تخطي صعوبات فوق مستوى مقدرة البشرية في مرحلة حضارية معينة مثل: جعل الأعمى يرتد بصيراً، والقضاء على الطاغية المستبد مهما كانت قوته ساحقة والتي كان الغول مجرد رمز لتلك القوة.

ونحن نشاهد في حكاية الشاطر حسن، طموح الإنسان الذي لا حد له ومثابرته الرائعة على تحقيق أهدافه؛ فزوجة أبيه لا يمكن القضاء عليها إلا بطريقة واحدة وهي الحصول على زجاجة صغيرة تحوي عصفوراً أزرق، وإذا ما تم قتل العصفور ماتت تلك الغولة المتنكرة بلباس الآدميين، وتحفظ الزجاجة التي تحتوي على روح الغولة في قصر منيف تسكنه عتاة الغيلان، ويستطيع البطل- الشاطر حسن – فك الطوق وإحضار الزجاجة والحصول على كنز وفتاة رائعة الجمال.

إنها أمثولة للناس المضطهدين الذين يحلمون بالقضاء على المغتصبين وتحقيق الرفاه، وهي أيضاً تعكس جو التعاسة الذي كان يسود حياة الحريم في ظل الاعتراف والقبول بمبدأ تعدد الزوجات، أو ممارسة ذلك على نطاق واسع.

ونجد الغول على مقربة من الحياة البشرية، إذ يتسلل في هيئة شحاذ، أو "طالبة زواج" إلى داخل المجتمع الإنساني. ففي "حكاية اخشيشبون"، نرى شحاذاً يربط حماره على باب بيت فتاة وحيدة ماتت أمها وذهب أبوها إلى الحج ولا أخوة لها، ويدخل الشحاذ إلى البيت، وفي الليل يكشف هذا الشحاذ عن صورته غير البشرية ويتحول إلى غول؛ ويأخذ الغول في معاونة الفتاة بطحن الحب الذي اتخذته وسيلة لتمضية الوقت وستاراً لندائها لجارها كي ينقذها، وينقذ الجار البطلة؛ فيقتل الغول، وتبدأ صراعات طويلة مع أسرة الغول، ترى لماذا لم يختار الغول سوى هذا البيت شبه الخالي من الناس؟ ولماذا يدخل متستراً كما يفعل اللصوص؟ إنها صورة أخرى للغول نراه ذا بطش وجبروت ومقدرة لا حد لها في حكايات أخرى، ونراه هنا يلجأ للحيلة والخداع.

وقد تجتذب الغيلان شخصاً وأسرته بكاملها إلى أماكنها المهجورة بقصد تسمينهم؛ تمهيداً لافتراسهم، وهذا ما نراه في حكاية "حبيب زمان"، حيث تغري غولة تختفي بزي امرأة رجلاً مأفوناً ليقيم عندها؛ وتدعي أنها أخته التي تزوجت وهي صغيرة دون أن يعرفها هو، ويجبر الرجل زوجته وأولاده على الانتقال والإقامة مع أخته المزعومة للاستفادة من امكاناتها المتوفرة، وتطيع الزوجة المسكينة رغم أنها حاولت تحذير زوجها المأفون دون جدوى، ويتضح أخيراً أن الأخت المزعومة غولة تنتظر الوقت المناسب لتفترس أعضاء الأسرة المسكينة، تهرب الأم وأبناؤها بحيلة، ويبقى الرجل الغبي ليواجه مصيره المحتوم.

ونجد الغول وقد ضرب جذوراً قويةً في مجتمع المدينة أو القرية، وتزيا بزي أستاذ في "كتاب القرية"، وتصادفه تلميذة صغيرة ذات صباح باكر وهو يعلق بقرة على الجدار، ويجري إليها فينهشها ثم يبتعد عنها ويعود لينهشها، ولما كانت "ست اليدب"- وهو اسم بطلة القصة –، ابنة سلطان مهذبة وغير جسورة بحكم تربيتها، فقد هربت عائدة إلى البيت تاركة واحداً من زوج الأحذية الذي ترتديه، ويذهب الغول في الليل ليسألها عن سبب هربها؟ وكأنه يود أن يتأكد أن سره في القرية لم يكشف، وترفض البنت أن تقول شيئاً ما رغم أنه هددها بقتل أهلها وأهل البلد وكل الناس الذين تربطهم بها علاقة، ويفعل ذلك ويختطف طفليها دون أن تجيب عن سبب هربها من أستاذها، وتظل صابرة حتى بعد أن نفّذ تهديداته، وبحيلة سحرية يرتدع الغول ويعيد للسيدة المسكينة طفليها، وتكشف حقيقة صبرها وتعود لزوجها السلطان. ومن الواضح أن الغول هنا هو رمز للطاغية الذي يستر جرائمه بمزيد من الجرائم، ويظل يمعن في جرائمه حتى يردعه ضميره الذي يستيقظ بعد أن يحس بهول ما اقترف، وهذه هي فرضية مجتمع يظل يرضخ تحت ضربات جلاديه دون أن يجرؤ على إبداء رد فعل، منتظراً صحوة الضمير.

وفي بعض الحالات يكون الغول رمزاً للعقم والموت واحتجاب الماء وحجز المراعي، ويظهر البشري الذي يقضي على الغول، ويسلب كل كنوزه ويفتح الطرق أمام العطشى والجياع لارتياد المياه والمراعي. وليس من الصعب أن نتصور في هذه الجزئيات صدى لأخبار الرواد الذين فتحوا أبواب الأراضي الخصبة الشاسعة أمام قبائلهم التي كانت تعاني الجوع والعطش على أطراف الصحراء.

المصدر :- الوكالة الرسمية وفا