الحدث ــ محمد بدر
وقاحة اللغة أحيانا أخطر من وقاحة الفعل، لأن اللغة قادرة على اغتيال الإنسان وتصفيته دون أن تقتله. هذه طبيعة تحكم العلاقات بين المتخاصمين والمتنازعين، خاصة عندما يتعلق الأمر باحتلال يحاول أن يفقد الفلسطيني وجوده من خلال "الفعل المادي الوقح"، وأن يفقده شرعية وجوده من خلال "اللغة والرواية الوقحة". وفي الدلالة على خطر اللغة في مقابل الفعل؛ يبرز السؤال المهم: ماذا يعني الوجود بدون شرعية لهذا الوجود؟.. صحيح أن هذا التساؤل يعتبره البعض غير إنساني ويرى آخرون أنه نتاج فلسفة غربية، لكنه يحكم الخطاب الكوني اليوم وله أساس في فلسفة الخطاب الديني وغيرها.
المقاومة في الحالة الفلسطينية ليست تعبيرا مجردا عن الرفض وعدم القبول بالواقع الاستعماري الجديد، وإنما تأكيدا كبيرا على شرعية الوجود، وتأكيدا بالغ الأهمية على الحق في الوجود؛ فالمقاتل لا تتلخص مهمته في إحداث شيء في "ميزان الخسائر"، وإنما إحداث شيء أكبر في "ميزان اللغة والرواية". وبتجريد السلاح من لغته، يصبح قاطعا للطريق منتهكا للإنسانية معتديا على الطبيعة و"الأخلاق"، وهذا تماما هدف الرواية الإسرائيلية عندما يتعلق الأمر بالمقاومة والمقاومين.
إن النقاش الأكبر الذي تورط فيه الإسرائيليون في البحث الحقيقي والترويج الدعائي فيما يخص المقاومة، يدور حول دوافع الفلسطينيين في تنفيذ العمليات الفدائية. وللحقيقة، فإن الإسرائيليين في الأبحاث العلمية يقدمون رؤى وافتراضات مختلفة حول دوافع الفلسطينيين للقيام بعمليات فدائية، ويعتمدون على التحليل الثقافي والفلسفي في دراسة الظواهر والدوافع وهذا بمثابة رفع لقيمة العمل.
ولكن، عند النشر صحفيا وإعلاميا، تجد المراسلين العسكريين الإسرائيليين قد تحولوا لـ"علماء في علم الاجتماع"، ويغرقون ويُغرقون القارئ والمتلقي في الأسباب الاجتماعية والنفسية التي تقف وراء الفعل الفدائي. وهذا عمليا يخالف الاتجاه البحثي التقليدي الإسرائيلي في "الدافع" عند الفلسطينيين، لأن "إسرائيل" تعلم أن الفلسطيني من المفترض أن يعي أن أي واقع اجتماعي أو اقتصادي تحتي هو نتاج البنية الفوقية المستمرة "الاحتلال"، وبالتالي فإنه لا يمكن صناعة القانون النظري حول الظاهرة من خلال حالات فردية متأثرة بالشروط الاجتماعية والنفسية.
بشكل أكثر تخصيصا، أصبح من الملاحظ أن الماكينة الدعائية الإسرائيلية تحولت من التركيز على الشرط الاجتماعي العام، للتركيز على الشخص نفسه، في محاولة لتشويهه وتشويه فعله، وإخراج الفعل المقاوم بسيناريو ذاتي نزعاتي. وقد تنبه الإسرائيليون لما صنعته شخصية أحمد جرار في المجال العام الفلسطيني والرمزية التي اكتسبها الفعل وصاحبه، فإنها اتخذت أسلوبا جديدا لتشويه الفلسطينيين، يناقش الفرد كفرد، ويحقق أمرين، الأول: تجريد المقاومة والمقاوم من الرمزية وإمكانية الحياة والتفاعل لهذه الرمزية في المجال العام، الثاني: قتل المقاوم من خلال اللغة وتدميره نفسيا وخلق حالة ردع نفسية جديدة لدى الشباب الفلسطيني.
بدأت "إسرائيل" في مرحلة ما بعد جرار بهذا الشكل الجديد من النشاط من الحرب النفسية، مع الأسير عبد الكريم عاصي، الذي قتل أحد قادة المستوطنين قرب نابلس، ولم يكن يخلو تقرير إسرائيلي عن تشخيص مشوه لحالة عاصي، فتارة يتحدثون عن تعاطيه للمخدرات، وفي أخرى يتحدثون عن "اضطرابات نفسية" دفعته لهذا الفعل بسبب تعاطيه للمسكنات بشكل مستمر.. والخ من السرد الأمني النفسي. في يوم اعتقال عاصي، لم يقف طبيب نفسي إسرائيلي للحديث عن عاصي أمام الكاميرا الإسرائيلية، وإنما ضابط كبير أخذ يستعرض النشاط الإسرائيلي العسكري والأمني في البحث عن عاصي، وفجأة ينتهي مشهد من المسرحية الإسرائيلية، فيعود عاصي مقاتلا أنجز الجيش في اعتقاله.
حتى حينما نفذ الشهيد أشرف نعالوة عمليته في "بركان"، لم تخلُ التقارير العبرية من حديث عن خلافات في العمل مع مشغله، حتى إن بعض المواقع العبرية ظلت تردد أن الخلفية لا زالت غير معروفة، ولفتح مجال للتشويه المستقبلي، قالوا إنه كبّل المستوطنة الإسرائيلية ومن ثم قتلها، وركزوا على هذه الجزيئية الدرامية ووقفوا عندها كثيرا، لهدفين، الأول: تجريم الفعل المقاوم وتأطيره بأطر الفعل الداعشي، والثاني: فتح التأويلات حول نعالوة الشخص ونعالوة الفعل. ولكن وفي نعالوة بالذات، وجد الإسرائيلي نفسه منهارا رواية وفعلا خلال مطاردته لهذا المقاتل الذي دفع بجيش الاحتلال لتشكيل غرفة عمليات تعمل على مدار 24 ساعة، وأصبح رمزا للتفوق والذكاء الأمني.
القضية الأخطر والمستجدة، قضية الأسير عرفات ارفاعية، ولم يكن أخلاقيا مناقشته لولا أن اسمه أصبح جدليا إشكاليا ووجدت من هم من "أنصار المقاومة" يهاجمونه قبل غيرهم. واستدعت حالته طرحا نظريا وكشفا لسياق الحرب النفسية الإسرائيلية مؤخرا. قبل هذا التقرير أجرينا بحثا واسعا حول ما طرحه الإعلام الإسرائيلي في قضيته، ووجدنا أن صحيفة يديعوت كمثال نشرت تقريرا تحت عنوان "لحظة بلحظة حتى اعتقاله" ولم تورد أي حديث عن اغتصاب كما يشاع. معاريف والقناة الثانية والعاشرة والقناة 20 وإسرائيل اليوم وقائمة طويلة من وسائل الإعلام الإسرائيلية لا تجد فيها ذكرا حول موضوع الاغتصاب.
أما "هآرتس" (نبية ما يسمى باليسار الإسرائيلي)، فقد أعدت تقريرا حول الرفاعية، الافتراض الأساسي فيه أنه هناك شبهات حول اغتصابه للمجندة الإسرائيلية، وتورد تصريحا لمدير نادي الأسير قدورة فارس، تبين لنا لاحقا بعد البحث، أنه غير دقيق، وأن فارس لم يصرّح لـ"هآرتس" بأي شيء، ولكنه صرّح لراديو الشمس بأن أهل الأسير ارفاعية لم يتوجهوا للنادي وبالتالي فإن النادي غير مطلع على القضية. ويناقش مراسل "هآرتس" ضيوفه الفلسطينيين بافتراضات لم يوردها بهذا التأكيد سوى تقريره.
عمليا، خرج ارفاعية بالسكين من بيته لتنفيذ عملية فدائية، هكذا على الأقل أورد الإعلام الإسرائيلي عن اعترافاته، وأنه التقى بالمجندة الإسرائيلية بالصدفة وقتلها بعد عراك بالأيدي. الإسرائيليون قالوا حينها إن ملابسها ممزقة. وبالتالي، فتحوا الباب واسعا للتأويل والافتراض، ولكن من ناحية عملية فإن أي عراك قد يحدث فيه تمزيق للملابس. المسألة الثانية التي ألقوها في لغة القضية، مسألة DNA، وأن الوصول إليه كان من خلال ذلك. ولا بدّ من التأكيد أن الوصول لشخص من خلال DNA قد يكون من خلال "سيجارة" أو شعرة أو "بصاق" ولكن الآلية التصقت بصورة نمطية بحالات الاغتصاب.
المسألة الأخيرة في موضوع ارفاعية، التي كان من الواجب التنبه لها، أن المعركة بينه وبين المستوطنة لم تكن ببعيدة عن الناس والشوارع والمباني، وبالتالي فإنه لا يمكن لأي شخص أن يقوم بعملية اغتصاب في مكان كهذا، دون أن يتنبه له أحد، وعملية الاغتصاب من المفترض أن تأخذ وقتا أطول وفرص إلقاء القبض عليه أكبر، وإذا ما جمعنا وقت الاغتصاب والقتل، فإن السؤال الكبير هل من المعقول أنه لم يتنبه له أحد وهو يمارس عمليتين عنيفتين بالقرب من تجمعات سكانية؟.
لكن وبشيء من الوضوح، فإن الإسرائيليين استغلوا عدم مباركة حماس والجهاد الإسلامي بشكل أساسي للعملية، وهذا أبرزوه في عناوينهم الرئيسية، واعتبروه تنصلا سياسيا واجتماعيا من فعله، ومن ثم استغلوا بعض التصريحات من بعض الفلسطينيين الذين زاروا بيت عزاء القتيلة، وفي ظل حالة الارتباك التي لفت القضية، اغتال الإسرائيليون الأسير ارفاعية بالكلمة، ومن ثم ألقينا نحن القنبلة بيننا واستمتعنا بشظاياها وما أحدثت. الشيء يدلل عليه بقرائنه، وارفاعية اعتقل في السابق بتهمة التحريض وقضى أشهرا في سجن عوفر، وحتى في ما نشره الشاباك، ترد عبارات تؤكد أنه كان ينوي الشهادة. والشهادة فلسفة وسلوك قد تتبلور في الفرد في لحظة ينتصر فيها العام على الخاص، وينتصر فيها الزمن اللحظي على الزمن العميق، فما المبرر في إدانة قدسية تلك اللحظة بالانطباع والتاريخ؟. في النهاية، ليس من الدقة محاصرة الطرح في ارفاعية، وإنما بسياق من الفعل والسلوك الإسرائيلي متطور يجب تشخيصه والوقوف عليه تجاه ظاهرة العمليات الفردية.