في ظهيرة يوم ما يسمى عيد الحب، قررت زيارتها، طال غيابي عنها هذه المرة، أشعر بدفء الجمر الغافي تحت رماد سني عمرها، تمدّني بقوة لم أجدها إلا في ملامح أمّي، أراها في ملامحها ونظراتها وأسمعها في صوتها، سرقتني مشاغل الحياة، ليس عنها فقط، بل عن كثيرين من الأحباء، وحتى عن نفسي، سيف الزمن يمضي، والعمر رمانة تضاءلت حبّاتها.
قرعت بابها الذي لم يكن مغلقا، وناديتها، جاء صوتها أضعف مما عهدته! كانت جالسة على طرف سريرها في زاوية الغرفة، وبين أصابعها مسبحتها.
-أهلا وسهلا يا حبيبي..نوّرت الدار..زارتني البركة...
انحنيت وقبّلت ظاهر يدها المعروقة ووضعتها على جبيني كتعويذة كما فعلت دائما منذ طفولتي، فأمسكت عنقي"تعال تعال أبوسك يا خالتي"وقبلتني من وجنتيّ.
-كيف حالك يا خالتي؟
-الحمد لله يا خالتي، الله يرضى عليك، والله كل يوم بدعي لك ولمرتك ولأولادك، الله يوفقك ويبعد عنك أولاد الحرام..
-وكيف صحتك اليوم؟
-الحمد لله، طالما أنا قادرة أتحرك وأقضي حاجتي،كل طلبي من الله أن يأخذ وداعتي قبل أن أبْرُك!
-وان شاء الله يزورك أولادك وبناتك وكنائنك؟
- هذه كنتي اللي تسكن فوقي، الله يستر عليها..اليوم أنزلت لي صحن بطاطا ورغيف..أكلت منه لقمتين، وقلت حرام يظل عندي، ناديت عليها لتأخذه، حرام يخرب!
خالتي رشيدة، ليست شقيقة والدتي، ولكن بطريقة ما نجحت والدتي بإيهامي أنها شقيقتها، عندما كنت أذكر خالاتي، كنت أحسبها واحدة منهن.
"خذ هذا صحن المجدرة أوصله لخالتك رشيدة" "ليش ما بتزور خالتك رشيدة"! كانت والدتي رحمها الله تحثني على مصادقة أولادها. وكان هذا متبادلا، فتناديني من الحارة:" تعال تعال يا حبيبي ..خذ هذا صحن الخبيزة لأمك..قل لها من خالتي رشيدة".
تنظر خالتي رشيدة إلى صورة زوجها على الجدار بالكوفية البيضاء والعقال، يبدو مبتسمًا، كأنما ينظر إلينا برضى، ملامح الموتى في الصّور ليست ثابتة، فهي تبتسم تارة، وتلوم تارة، بل وتبدو غاضبة أحيانا أو راضية فيها سكينة، وكأنها تبث إشارات وردود فعل لأفعالنا.
قالت وهي تنظر إلى صورته: يا خالتي أحسن شيء للمرأة زوجها، لا إبن ولا إبنة ولا كنّة، ما في للواحدة مثل جوزها، صحيح هو كان يضربني، ولكن يعني مش من كل قلبه...يعني هيك..كفّ وخلّصنا، مرة واحدة ضربني بقشاط بنطلونه، يعني هيك للتخويف، ولكنه ندم كثيرا، قلت له الله يسامحك، ورجعنا أحباب أحسن من الأول.
-الحمد لله يا خالتي الله يرحمه ويخليلك الأولاد والكنائن..
ومرة أخرى قالت كأنما تهمس- هذه كنتي اللي تسكن فوقي، الله يستر عليها..اليوم أنزلت لي صحن بطاطا ورغيف..أكلت منه لقمتين، وقلت حرام يظل هيك، ناديت عليها تأخذه، حرام يخرب! ثم أضافت" يا خالتي، الأولاد والكنائن مِش كلهم مثل بعض، يعني بعضهم يغيب شهرا أو شهرين، وبعضهم يطل كل يوم أو يومين أو جمعة.
وعادت لتقول: هذه كنتي اللي تسكن فوقي، الله يستر عليها..اليوم أنزلت لي صحن بطاطا و..!
-خالتي بتعرفي أغنية ع البطاطا البطاطا...صباح أعطتك عمرها.
-عزا مين صباح!
-صباح اللي بتغني ع البطاطا...
-هبط قلبي..الله يرحمها، كلنا بدنا نموت، أنا كل يوم بقول يا رب موّتني وغبار الطريق على كعب رجلي، ولكن الموت مش فالت، يا ريت عندي مثل أم مهنا، جارتنا،عندها ثلاث بنات بايزات (عوانس) يساعدنها بكل شيء، يدهنّ لها رجليها بالكْريم من أصابع رجليها لجبينها، قال يا سيدي ومش عاجبها، دائما تصرخ عليهن!أسمع صوتها من هون، يا ريت عندي ابنة واحدة بايزه، كانت ساعدتني، كلهن تزوجن وهذا مات..يعني شو العيشة لما تكون لوحدك بين أربعة حيطان، مرات أقعد أمام الصورة، وبصير أحكي معه، وبقول له...ليش هيك تركتني ورحت! ليش ما أخذتني معك! ما كان أحسن منه يا خالتي...صحيح هو ضربني، ولكن يعني مش من كل قلبه...يعني هيك، كفّ وخلصنا، مرة واحدة ضربني بقشاط بنطلونه و..".
-الله يخلي ولادك وكنائنك يا خالتي إنهم لا يقصرون.
غصّت وبصعوبة قالت: هم صحيح يزورونني يا خالتي..ولكن زيارتهم وقلّتها واحد...
-ليش كيف يعني!
-يا خالتي كل واحد منهم يحمل بيده سايِب...
- أه تلفون..!!
-آه تلفون، ويبحلق فيه، أنا مش عارفة شو فيها هالتلفونات!، يلعن أبو اللي جابها...طيب لما أنت جاي تزوريني، شو هالزيارة! ولا كلمة ولا نُصّ، قال بنتي هذه الزنخة نهاية، إمبارح بدها تدلعني..قالت مرحبا (رُشرش)! وقعدت وحطت راسها بالتلفون..قلت لها يلعن أبوكِ على أبو (رشرش) اللي بتعرفيها مليح!بتقعد يا خالتي وراسها بالتلفون، طيب أنا بدي أفهم! أنت جاي عندي عشان تقعدي مع التلفون! لأ خليكي في بيتك أحسن..بس هذه كنتي اللي تسكن فوقي، الله يستر عليها..اليوم نزّلت لي صحن بطاطا ورغيف و..!
- ونِعمَ البطاطا يا خالتي ونعم البطاطا.
ثم قالت كأنما ترثي نفسها:بعد ما كنت ريّس وقلمي بإيدي...صرت أقول لعبدي يا سيدي.
وأنا أقول في خاطري: لا حول ولا قوة إلا بالله، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا".
-بخاطرك خالتي..بمناسبة عيد الحب بدّك إشي!...
-عيد شو يا خالتي؟؟
-الفالنتاين يا خالتي؟
-سلم على (هيام) يا حبيبي...
-إن شاء الله يصل يا خالتي. خرجت وصوتها الحنون يرافقني"الله يسهل عليك..الله يبعد عنك أولاد الحرام..الله يوفقك"..ومضيت وأنا أفكر من هيام التي قصدتها خالتي رشيدة.