الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

"مسؤوليَّة ودور المُفكِّرِ والمُثَقَّف الحقيقي.. ودور الانتهازي " بقلم: رائد دحبور

2019-02-15 08:46:48 PM
رائد دحبور

يهتمُّ المؤرِّخُ بالأحداث التَّاريخيَّة وبِسِياقَاتِها التَّفصيليَّة كما لو أنَّها تقع الآن، وكما لو أنَّها تؤثِّر باضِّطرادٍ في تكوين عناصر الحاضر، وهو يهتَمُّ بها بمقدار درجة اهتمامه بالحاضر ربَّما؛ وسلوك المؤرِّخ هذا وإنْ كان يخدم منهج التَّدوين؛ إلَّا أنَّه ربَّما لا يخدم منهج التَّحليل؛ إذا اقتصر الأمر على مجرَّد سرد الأحداث وتدوينها؛ بما يؤدِّي إلى مجرَّدِ إبراز أهميَّة ماضوِيَّتِها وحشد القناعة بضرورة إدامة دورِها وتأثيرها الماضَوي في استمرار تشكيل الوجدان الانفعالي وفي تشكيل الوعي على الذَّات وعلى الآخر الثَّقافي المختلف.

ومن هذه الزَّاوية يمكن ملاحظة الفرق بين منطق ومنهج السَّرد والتَّدوين التَّاريخي وبين منطق ومنهج التَّحليل التَّاريخي.

ففي المنطق والمنهج الأوَّل يتم تدوين الرِّوايات والتَّسليم بها وتثبيتها – بل ومحاولة تعزيزها وفق منطق الانحياز الشَّخصي أو الثَّقافي والتَّربوي أو العاطفي الانفعالي أو وفق مقتضيات السُّلطة ومقتضيات مصالح ومنافع وأهداف مراكز القوى الفعليَّة أو المعياريَّة أو العُرفيَّة في المجتمع – أمَّا في المنطق والمنهج الثَّاني؛ فلا يتم التَّسليم بِمُطلَق صِحَّة الرِّواية التَّاريخيَّة دون إخضاع عناصرها ومكوِّناتِها لمنطق الفحص والتَّدقيق والتَّحليل ومحاولة اكتشاف ما إذا كان هناك تناقضات تَعتَوِرُ عناصِرِها الزمانيَّة والمكانيَّة أو الظَّرْفيَّة بما يضعها موضع الشَّك وإعادة دراستها وتقييمها مجدداً. هذا المنطق الأخير – منطق التَّحليل التَّاريخي – هو ما نحنُ بحاجة إليه كمجتمعات تقع تحت وطأة العجز والتَّخلُّف وتخضع لمنطق الهيمنة الأجنبيَّة وتُعاني من مفاعيل وطأة الاستبداد – الثَّقافي والتربوي والاجتماعي والسِّياسي – لعقودٍ بل لقرونٍ مضت.

إنَّنا بحاجة لتكريس منطق التَّحليل التَّاريخي ربَّما لأنَّه أولى الخطوات الضَّروريَّة نحو ولوج عصر الحداثة – وإنْ مُتَأخِّرين – ولمواصلة الاندماج فيما بعد الحداثة؛ لأنَّ الحداثة التي بدأتْ في أوروبا مع بزوغ القرن السَّابع عشر عَنَتْ وتضمَّنت وقبل كل شيءٍ تطبيق مفهوم >> العَقْلَنَة <<  عقلَنَة العلم وعقلَنة الموقف من الظَّواهر الطَّبيعيَّة وعقلنة رؤية التَّاريخ وتفسير أحداثه؛ بعيداً عن المنهج الميتَفيزيقي – المثالي – وبعيداً عمَّا كانت تفرضه قوالب التَّأويلات الدِّينيَّة التَّقليديَّة، الَّتي تُقَدِّم وتُقدِّس التأويلات التَّقليديَّة الماضويَّة على حساب النُّصوص أصلاً عِوَضاً عن محاولة قراءَتِها وتأويلها من جديد بما يُلائم الواقع المُتحَوِّل. وكذلك جرت مسيرة الحداثة من خلال العقلنة بعيداً عمَّا كانت تفرضه الأطر والقوالب التربويَّة والثَّقافيَّة الجامدة.

ويهتَمُّ عالِمُ الاجتماع بالأحداث والوقائع التَّاريخيَّة – وبما تمَّ تدوينه وتحليله تاريخيَّاً - لأنَّها تُعينُه على وضع افتراضات واستنباطِ نظريَّاتٍ يُفسِّرُ ويحلل بها سلوك مجتمع ما في مرحلةٍ تاريخيَّةٍ ما ثقافيَّاً وتربويَّاً واجتماعيَّاً؛ وهذا المنهج من التَّحليل مهم جدَّاً لجهة الحاجة إلى تشخيص أسباب العجز والتَّخلُّف والقابليَّة لمزيدٍ من العجز والتَّخلُّف واالتَّسليم بمنطق الخضوع وعدم القدرة على الانبعاث والانعتاق نحو فضاءَات الحريَّات الخاصَّة والعامَّة.

ويهتَمُّ بها المُفَكِّرُ – والمثقَّف الحقيقي المُهتم والمُلْتَصِق بقضايا وهموم مجتمعه - من زاويَةِ البحث عن أصل الأفكار والظُّروف التي وُلِدَتْ بها تلك الأفكار والتي ما زالت تؤثِّر في تكوين الحاضر ورسم معالم المستقبل، وهو يستعين بمعرفتها في محاولة توليد أفكار جديدة أكثر ملاءَمَةً للحاضر وتؤدِّي دوراً فعَّالاً وأكثر نفعاً في المستقبل – وهذا هو جوهَر مهمَّة ومسؤوليَّة المفكِّر والمثَقَّف الحقيقي المُرتَكِزة على قاعِدَتَيْنِ أساسِيَّتَن الأولى: الوعي القائم على البصيرة والعَقلانيَّة والتَّحليل، والثَّانيَة: صدق الانتماء والانحياز لقضايا مجتمعه الجَمْعِيَّة العامَّة العادلة والأشمل من أيِّ أُطُرٍ فئويَّة أو طائفيَّة أو عرقيَّة أو قَبَلِيَّة اجتماعيَّة أو قَبَلِيَّة سياسيَّة؛ ودون استخدام وتوظيف الاهتمام بالقضايا العامَّة لصالح تحقيق وتكريس أهداف وغايات الجماعة التي ينتمي إليها. وهو من هذه الزَّاوية بحاجَّة ماسَّة لمنطق ومنهج التحليل التَّاريخي ولمنطق علم الاجتماع ومناهجه التَّحليليَّة العقلانيَّة. والمفكِّر والمثقف الحقيقي ليس شرطاً أنْ يَقودا؛ بل ينبغي اَلَّا يَسْعَيَا وراءَ الحرص على القيامِ بأدوارٍ قياديَّة بالمعنى الرَّسمي أو البيروقراطي – فهذا ينبغي أنْ يكون آخر همومِهما – وهذا لا يعني عدم الحرص الدَّائم على القيام بأدوارٍ رياديَّةٍ لجهة التَّوجيه والتَّوعيَة والتَّثقيف وتمثيل القدوة والمثال الحي بما يخص تطبيقات الرُّؤى والأفكار الصَّحيحة؛ فثمَّة فرقٌ بين الحرص على القيام بدورِ قياديٍّ عبر مؤسسات بيروقراطيَّة وبين الحرص على القيام بدورٍ رياديٍّ تُمليه مسؤوليَّة أخلاقيَّة ووجدانيَّة واجتماعيَّة وإنْ كانت خرج الأطر البيروقراطيَّة التَّقليديَّة المُهيمنة.

ويهتمُّ الفيلسوف بالتَّاريخ وتدويناتِه وتحليلاته لجَهَةِ اكتشاف صِلَتِها بالبيئات التاريخيَّة التي نبتت فيها التيارات الفلسفيَّة المتعددة والتي حاولت تفسير مسائل إشكاليَّة ومفاهيم أساسيَّة أشغَلت الوجدان البشري على مرِّ العصور وما زالت تُشغِلُه كمفاهيم الحياة والموت وكثير مما يتصل بمنطق الزَّمن والأشياء.

وكل الَّذي تقدَّم من عمل وسلوك المؤرِّخ والمحلل التَّاريخي وعالم الاجتماع والمفكِّر والمثقف الحقيقي والفيلسوف يؤدِّي دوراً أساسيَّاً في إثراء التجربة الجمعيَّة وترشيدِها وعَقْلَنَتِها بكل تأكيد.

لكن وعلى النَّقيض من كل ذلك؛ فإنَّ السِّياسي والمُثقَّف الانتهازيَّان يهتمَّان بتأويل الأحداث والوقائع التَّاريخيَّة وتوظيف ذلك التأويل، واستخدام دلالاته الجُزافيَّة - وعلى نحوٍ انتقائيٍّ - في تبرير سلوكِهِما، وفي الدِّفاع عن أخطائهما، وفي إضْفاء القدسيَّة على أهدافهما؛ بهدف البقاء في الصَّدارة والحفاظ على تبوُّءِ مكانة الزَّعامة حتَّى مع غياب أيِّ مصامين قياديَّة ورياديَّة لأدوارِهما.

وهذا النَّوع من السِّياسيين والمثقفين الانتهازيين؛ وفيما يخص النَّظرة إلى التَّاريخ وتحليل أحداثه، وفيما يتصل بأخذ العبرة من سياقاته التَّفصيليَّة ومؤدَّياتِه؛ عادةً ما يُقصونَ عالِمَ الاجتماعِ والفيلسوفَ والمفكِّرَ والمثقَّف الحقيقي المُنتمي ويُهمِّشونَهُم، ويُلْقونَ بآرائِهِم في غياهِبِ النِّسيان أو يَكْنِسُونِها تحتَ بِساطٍ سميكٍ من الذَّرائع المتصلة بادِّعاءَاتِ مسؤوليَّات الطَّلائعيَّة القياديَّة.

وهذا هو أحد أهم الفوارق بين الأمم والشعوب والمجتمعات الحيويَّة والنَّاهضة، وبين الأمم والشُّعوب والمجتمعات الخاويَة والرّاَكِدة؛ المُمْتَثِلَةِ والمُنقادةِ للأكاذيب وللأوهام وللإدِّعاءَات والعنتريَّات والبلاغيَّات الفارغة التي تحوِّل الهزائم الماحقة إلى انتصاراتٍ لفظيَّةٍ ساحقة.