الأحد  24 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

هل "فتح" في طريقها نحو الاندثار !؟ بقلم: عبد الغني سلامه

2014-12-29 09:29:54 PM
هل
صورة ارشيفية

الحدث. 

قبل إنطلاقة فتح، في ذلك الزمن الصعب والكئيب، كانت فلسطين تمر ُّفي واحدة من أسوأ لحظاتها التاريخية؛ كانت أجواء النكبة والهزيمة تهيمن على الناس، وتدفعهم لليأس، والرضوخ للواقع الجديد؛ الأرض ترزخ تحت الاحتلال المباشر ومخططاته الرهيبة للضم والمصادرة، ومن تبقى عليها من ناس يتربص بهم خطر الاحتواء والتهجير، وهم وحيدون معزولون عن محيطهم العربي. الضفّة الغربية أُلحقت بالأردن، ومن هم في الشتات كانت تنتظرهم مخاطر الوصاية والتذويب والتوطين. الهوية الوطنية يتهددها خطر الإلغاء والشطب. القضية برمتها كان يتراكم عليها الغبار سنة بعد أخرى في محافل الأمم المتحدة، بعد أن تحولت إلى قضية لاجئين بحاجة إلى خِيام، أو "بركسات" لتحسين ظروف بؤسهم.

كان حُلم أغلب الشباب السَّفر للكويت للحصول على فرصة عمل، أو الهجرة إلى فنزويلا وأمريكا، فيما كان النشطاء يفنون شبابهم في خلافات الأحزاب القومية واليسارية والإسلامية. في المخيمات كان جُلَّ همّهم توفير "مرحاض"، وانتظار مندوب الوكالة للحصول على "بكجة"، و"سلّة المؤن"، في بعض مخيمات لبنان كان شرطي الدرك ينكّل بالعائلة بأكملها، ويجلد الأم أمام أبنائها دون أن يكون بمقدورهم عمل شيء، سوى النحيب.

ببساطة، كان الواقع ينـزُّ بؤساً، والمستقبل معتم ومجهول، لكن الإنطلاقة ستخلق واقعا جديدا ومختلفا؛ فمنذ أن أعلنت فتح عن الرصاصة الأولى حتى غطت غيمتها سماء فلسطين، بعد أن أنهكها الظمأ والـمحْـل، في سنواتها العجاف، ثم من بعدها انهمر المطر .. في هذا المنعطف المفصلي تحديدا ستصوّب فتح مسار حركة التاريخ، باتجاه الزمن الفلسطيني.

ومنذ البداية، رتّبتْ فتح أولوياتها، وجعلت فلسطين بوصلتها، ونأَتْ بنفسها عن الأحلاف والتكتلات الإقليمية، واعتبرت البندقية أداة رئيسية في المعركة الوطنية، ولم تقيد يديها في أغلال الأيديولوجيات، واحتوت طاقات الشعب بكل فئاته وطوائفه وطبقاته، فكانت بحق "بستان الثورة"، وخلال سنين كفاحها المرير، خاضت فتح، ومعها بقية الفصائل غمار أشرس المعارك السياسية والعسكرية، وثبّتت الوجود الفلسطيني على الخارطة السياسية.

وإذْ مثّلت فتح بنظريتها الثورية وإرثها النضالي ضمير الشعب، وروحه المتشوقة للحرية، وخشبة خلاصه الوطني، وجسر عودته لأحضان الوطن .. فإنها اليوم لا تشبه الأمس؛ سيسهل على البعض القول بأن "فتح" زمن الفدائيين تختلف عن "فتح" ما بعد أوسلو، أو أن فتح في زمن أبو عمّار ليست كما هي في زمن أبو مازن .. وفي هذا الطرح قدر من الصحة؛ ففتح اليوم تعاني من الترهل، وغياب القيادة الجماعية، وشخصنة القضايا الوطنية، وضبابية الرؤية السياسية الشاملة، وضعف البرامج الكفاحية في مواجهة مشاريع الاستيطان والتهويد، وقد فقدت الكثير من رصيدها النضالي، وباتت تقتات على أمجادها، دون أن تجدد هياكلها وقادتها وأن تطور آليات عملها ..

في زمن "الختيار"، لم تفقد فتح من رصيدها الثوري حتى حين انغمست في مشاريع التسوية؛ لأنها كانت تقاتل وتناور وتتوغل في وحول السياسة دون أن تتخلى عن البندقية، لكنها استنزفت الكثير من رصيدها الجماهيري في مشروع المفاوضات الخاسر، ليس لأن طريق التسوية والمفاوضات مسدود، بل لأنها أهملت خياراتها الأخرى، وهذا مهّد الطريق أمام خسارتها الثانية في صراعها (المؤسف) مع حماس، ومع حذرها الشديد (الذي كان مثيرا للشفقة أحيانا) من الوقوع في منزلق الاقتتال الداخلي، إلا أن أطرافا عدة من فتح تورطت فيه، وأطرافاً أخرى انحدرت في لغتها الإعلامية في خلافها مع حماس، حتى أن بعض ناطقيها الإعلاميين حولوا بوصلة فتح باتجاهات أخرى.

ولأنها "حركة الشعب الفلسطيني"؛ فإن الفوضى الداخلية التي تعيشها فتح تعكس طبيعة الفوضى في المجتمع الفلسطيني، أحيانا لا نميز إذا كانت في مرحلة صعود، أم هبوط، وأحيانا نشعر بأن الوضع ميئوس منه، والآفاق مغلقة تماماً، ثم فجأة تأتي مبادرة من هنا، وموقف بطولي من هناك، وتتغير الأوضاع، ولا ندري هل تم ذلك بِ"قدرة قادر"، و"على البركة"، أم بتخطيط مدروس !!

حين تخوض أية انتخابات؛ فإنها تخوضها ضد نفسها أولاً، ثم ضد حلفائها، وأخيرا ضد خصومها !! ولكنها على صعيد المواجهة، هاجمت العدو من البحر والبر، وواجهته على الحدود، وفي عواصم عالمية، وفي قلب تل أبيب، وعلى مدخل مفاعل ديمونا .. بالكلاشن، والحجر، والمولوتوف، وأخيرا بشتلة زيتون. ومع أن خطابها السياسي تطور ونضج حتى فرض احترامه على العالم؛ إلا أن بعض متحدثيها الرسميين، مصرّين على حشرها في الزاوية الحزبية الضيقة. والمؤسف أن قيادة الحركة لا تحسن تحريك قوتها الجماهيرية وهديرها الغاضب.

أبناء الحركة هم أكثر من ينتقدها، وهم أشد قسوة عليها من غيرهم حين يجلدوها، ولكنهم أمام الآخرين، يدافعون عنها باستماتة؛ حيث تبرز "قبيلة فتح"، و"التعصب الفتحوي". خلافات فتح الداخلية، عادة ما تكون علانية وعلى الملأ، وبالمناسبة، ليست كلها صحية بالضرورة، هنالك صراعات شخصية لا علاقة لها بالوطن.

ومع أن فتح قدمت من الشهداء والجرحى والأسرى ما يكفي لملئ دليل هاتف من الحجم الكبير؛ إلا أن بعض المحسوبين عليها يقزمونها عند طموحاتهم الشخصية الصغيرة. ومع أنها تمثل أنبل ظاهرة عربية (كما وصفها عبد الناصر)؛ إلا أن هناك بعض الحثالات والطحالب نمت على جنباتها، وشوهتها. ومع أنها وحّدت الشعب الفلسطيني واستوعبت كل تناقضاته؛ إلا أن البعض يسعى لشقِّها واختطافها لحسابه، ومع أنها أنجبت ياسر عرفات وأبو جهاد وأبو إياد وعشرات القادة العِظام، الذين نفاخر بهم الدنيا ونباهي بدمائهم التاريخ؛ إلا أنها أنجبت في سنوات الجزْر عدداً من القيادات الانتهازية، التي في الأحوال الطبيعية لا تساوي عند الله قشرة بصل.

وكما ألهمت فتح الجماهير، وحرضتهم على الثورة، فإنها أربكتهم حين وقفت في منتصف الطريق، ونحَّت المقاومة جانبا، قبل إنجاز مهمتها الوطنية، وهي التحرر والاستقلال. ومع أنها أرست الدعائم الموضوعية للدولة الفلسطينية، وتحملت تبعات وأكلاف بناء السلطة الوطنية، إلا أن مثالب السلطة ومساوئ الحُكُم كانت تنعكس عليها سلباً، دون أن تستفيد منها إعلاميا وتنظيميا، أو في الانتخابات.

صحيح أن الثورة الفلسطينية لم تحرز نصرها التاريخي بعد، ذلك لأنها تخوض كفاحا شرسا في أسخن وأهم منطقة في العالم، ضد كيان مدجج بالسلاح، ويمثل ركنا مهما من النظام الدولي، ومدعوم من الدول الكبرى، وربما أيضا لأنها لا تمتلك أدوات القتال الرئيسة التي بمقدروها أن تعدل موازين القوى، (وبالطبع لأسباب أخرى داخلية مهمة) .. ومع ذلك، ما دام الاحتلال جاثما فوق الأرض العربية؛ فإن فتح ستبقى الأداة التاريخية للتحرير. ولكل من يراهن على هزيمتها، أو أُفولها؛ نطمئنه بأن فتح لم تشيخ، لأنها ما زالت في مركز الحدث، ولم تهرم لأنها الرقم الصعب، ولم تفقد مرونتها، وقدرتها على التجدد، والمناورة، وما زال رصيدها الجماهيري بخير، وما زال مبرر وجودها قائما، بل وستظل فتح صمام الأمان، وحامية المشروع الوطني، وبوابة ولُوجنا نحو المستقبل ...بعبارة أخرى، فتح باقية وتتمدد، مع الاعتذار من تشبيهها مع حركة ظلامية إرهابية.