الحدث الثقافي
لكل بلد تاريخه الحضاري والسياسي الذي يحدد وجوده في هذا العالم، ولا ينكر أحد على أن وجود أي شعب ما، أو عدم وجوده مرتبط بوجود حضارته أو عدم وجودها؛ ولهذا نلاحظ أن بعض المؤرخين يتجاهلون حضارة الكنعانيين في فلسطين بشكل مقصود؛ في إطار محو تاريخ الشعب الفلسطيني لتدعيم الذرائع الإسرائيلية وإثبات المقولة التي روجت لها إسرائيل (أرض بلا شعب لشعب بلا أرض)، ولنسبة الآثار الكنعانية القديمة إلى الحضارة الإسرائيلية القديمة المزعومة. وتماشى العديد من الباحثين خلف هذا الوهم عن قصد أو بلا قصد، فقلبوا الحقائق بشكل خدم إدعاءات الحركة الصهيونية وأهدافها.
واحتكرت الكتابات الصهيونية تاريخ كل فلسطين لليهود، إلى حد الادعاء أن اليهود هم الشعب الوحيد الذي سكن فلسطين، وإنكار تاريخ شعبنا الفلسطيني الذي تكالبت عليه قوى الاستعمار لخدمة مصالحها؛ فأصبح ضحية للمؤامرات التي حيكت بين هذه القوى والعديد من الأطراف والأنظمة التي تواطأت معها طمعًا في تحقيق مكاسب معينة، أو خوفًا من مواجهة هذه القوى.
أهمية الفن التشكيلي
إن الفن التشكيلي هو أحد مرايا الأزمنة؛ لعلاقته بالخط والرسم والنحت والحفر والعمارة، فالفن التشكيلي هو نتاج حضاري وتعبير ثقافي يقدم فقرات الحياة الإنسانية بعاداتها وتقاليدها وأساليب حياتها في مختلف الميادين، باحثاً في نفوس الآخرين عن شعور جمعي مشترك؛ وهو بهذا سجلٌّ يكتب آثار الأمم وما يميزها عن غيرها؛ ليرسم لها خصوصية تميزها عن باقي الأمم.
والفن التشكيلي لغة عالمية لها عمومية الفن وخصوصية البيئة. وهو صاحب الإنتاج الأكبر في الموروث الحضاري.
ولكل فنان عقلية خاصة جدا، وطريقة تعبير تشبه تمامًا بصمة الإصبع التي تحمل خصوصية كل فرد، يصوغها بطريقة
"لغة الشكل" التي يقرؤها البصر، وتفهمها كل الشعوب، وجميع الفئات الثقافية ومختلف الأعمار، وهذا يؤكد أن الفن التشكيلي يعد لغة عالمية يصوغها الفنان بطرق عدة كالنحت والتصوير، والتطريز، وغيرها.
الفن التشكيلي في فلسطين عبر العصور:
أولا: الفن الفلسطيني الكنعاني:
نسج الكنعانيون فنًا خاصًا بهم، مركبًا من عناصر مختلفة، مقتبسًا من الحضارات المجاورة، كحضارة بلاد الرافدين وسوريا والعالم الحيثي ومصر واليونان وقبرص؛ وقد تجلت عظمة الفنان الكنعاني في كيفية صهر وصقل هذه المقتبسات بأسلوب وطابع ذاتي خاص، جاعلاً من هذه العناصر المتباينة جداً فناً متميزاً خاصاً يعكس الوجه الحضاري للإنسان الكنعاني.
ويمكن تقسيم تاريخ الفن الكنعاني إلى عصرين:
العصر الأول: يبدأ من البدء إلى أول الألف الأول ق .م. وهذه الفترة كانت فترة محاكاة واحتضان لفنون مصر وإيجه والبلاد الأخرى.
العصر الثاني: ويشمل الألف الأول قبل الميلاد إلى آخر العصر اليوناني الروماني. وهو عصر التوليف بين ما ينقله ويتمثله الفنان الكنعاني، متجنبًا آفة التنافر بين أجزاء عناصر الحضارات المختلفة بأسلوب وطابع ذاتي خاص؛ أي إن الفنان الكنعاني يحمل في داخله عناصر الحضارات المجاورة مصهورة وممزوجة بأسلوب ذاتي خاص، متأثراً بهذه التيارات الحضارية المتنافسة؛ وهذا ما أعطى الفن الكنعاني شخصية متميزة ذات خصوصية. وقد أدى هذا التمازج دورًا رئيسيًا في صوغ الحضارة الفلسطينية؛ حيث إن الكنعانيين هم السكان الأصليين لفلسطين.
وأهم ما يميز فنون الكنعانيين هو علاقة التنافس بين الممالك الكنعانية المتحالفة حينًا والمتخاصمة حينًا آخر؛ ما أثر في رموز الفن لديهم؛ سواء في الناحية العمرانية أم النواحي الفنية الأخرى؛ فاشتهروا بفنون: التعدين، والخزف، والنسيج، والنحت، ومفاتيح المنازل الضخمة، وفن الموسيقى الذي استخدموه في طقوس عباداتهم.
1. فن النحت:
تميز فن نحت التماثيل بظهور طابعين مميزين: طابع عند فناني الجناح الشرقي ويمتاز بتجسيد الأفكار القديمة بأسلوب قديم؛ وطابع آخر عند فناني الجناح الغربي في مدينة ماري، يجسد الأفكار القديمة بأسلوب جديد يخرج عن المألوف؛ مع وجود طابع ثالث تجلى فيه فن نحت التماثيل، وهو تقليد الأسلوب المصري، إلا أن فن النحت قد أصابه الفتور فيما بعد.
2. فن النحت البارز والغائر:
كان الجناح الشرقي متمسكًا بتقاليد النحت القديمة؛ أما الجناح الغربي فكان فن النحت فيه متميزا بطابعه المحلي، وتختفي فيه التأثيرات القديمة.
3. فن نحت الختم الأسطواني:
يعد تصوير الربة "عشتار" أقوى ما يمثل الختم الكنعاني في جناحي الهلال الخصيب. وقد امتاز أسلوب النقش على الأختام الأسطوانية، باختصار الفنان لعناصر موضوعاته، لصالح المتممات التي ليست من صميم الموضوع.
وأهم الموضوعات التي نقشها الفنان الكنعاني على أختامه الاسطوانية: التوجه إلى الرب، وهو قديم عرضه الفنان الكنعاني بأسلوب محلي؛ والعناصر الزخرفيه البابلية والمصرية؛ إضافة إلى رسم أشكال قوية ظلية بارزة، ذات موضوعات متنوعة، كمصارعة الحيوانات.
كما امتاز فن الأختام الاسطوانية في العصور اللاحقة بظهور فئة امتازت بكونها ذات أشكال مفتولة قوية، وفي نقوشها تأثيرات غربية عديدة، معظمها جاء على شاكلة الأشكال المصرية، كنقش الرجال والتيجان المخروطية.
4. الأعمال المعدنية:
تميزت الأعمال المعدنية عند الكنعانيين في معظمها بالدقة والإتقان في الصنعة، والبساطة والوضوح والتجديد. وقد اتصفت هذه الصنعة أحيانًا بالتقاليد الموروثة، وبالتجديد وتداول العناصر الأجنبية.
وتعد التماثيل البرونزية والفضية أجمل ما وجد من هذه الصنعة، وبشكل خاص التي وجدت في ساحات مدينة بيلبوس وفي معبديها (معبد الرب "بعل"، والرب "رشف")؛ حيث وجدت مجموعات تماثيل ذكرية مصنوعة من البرونز المغشي بالذهب، أو المصنوعة من الفضة والرصاص.
وهذا ما يؤكد أن الحضارة الكنعانية بشقيها: (الأدبي والفني) كانت هي الأسبق في الوجود عن أية حضارة أخرى.