الحدث- ال مش مواطن- بقلم: جوده أبو خميس
عبرت الهجمة الغوغائية على القاضية سلام عقيل لقيامها بواجبها عن واقع الحال بما يمثله من تطاول غير مسبوق على هيبة القضاء واستقلاليته، وانكشاف ظهر القضاة في ممارسة أعمالهم، ورفعت هذه الهجمة الطليقة الغطاء عن أكذوبة "استقلال القضاء في فلسطين". فهذه القاضية "الحرة" فصلت في ملف قضية جزائية كانت منظورة أمامها في محكمة البلديات قبل عامين، وحكمت على مواطن بدفع غرامة قدرها عشرون ديناراً، والذي قام خلال الجلسة بتحقير المحكمة والتطاول على القاضية، مما حدى بها لإعمال القانون وإحالته للنيابة العامة بتهمة ازدراء المحكمة، حيث أحالته النيابة بعد التحقيق إلى محكمة مختصة، التي أصدرت بحقه حكما غير قطعي وقابل للاستئناف بالسجن لمدة عام، إلا أن صاحبنا لم يستأنف على الحكم، إما لجهل منه أو لاعتقاده أنه بالإمكان الإفلات من العقوبة عندما يقوم بتحقير قاض خلال قيامه بواجبه، خاصة إن كان هذا القاضي أنثى في مجتمع بالغ الذكورية.
استحوذت قضية هذا المواطن على اهتمام صفحات التواصل الاجتماعي، والتي عجت بالتطاول على القاضية وكيل الاتهامات لها، على الرغم من أنه لا صلة لها بالحكم الصادر بحبس المواطن، ولم تسعفها حقيقة أنها قاضية، وربما لم تسعفها مرجعيتها العشائرية، وفي هذه الأثناء لم نسمع من المراجع الرسمية وخاصة مجلس القضاء الأعلى أو الحكومة دفاعا عن هذه القاضية وإنصافا لها، بل على العكس تبارى المتباكون على "فداحة الحكم" وهم يسفكون دم استقلالية القضاء بشخص القاضية، والأنكى من ذلك ما نسب لوزير العدل من استهجان للحكم الصادر وتعهده "بالتدخل" لإلغائه، وهو يعبر بذلك بصورة جلية عن استخفاف نظامنا السياسي بسلطة القضاء واستقلاليته.
تعتبر هذه القاضية مثالا لما يمكن أن يؤول إليه حال القضاة ذوي الضمائر الحية، الذين لا يخشون في الحق لومة لائم، ولا يبيعون ضمائرهم ومواقعهم ومواقفهم مهما كان، ولا يستجيبون لرنة الهاتف من المقاطعة أو الدوائر الأمنية للفصل في القضايا التي بين أيديهم على هؤلاء المسؤولين أو من يدور في فلكهم، وليس أدل على مستوى الهوان الذي وصلت إليه حال القضاء إلزام رئيس مجلس القضاء الأعلى السابق بوضع استقالته بتصرف القيادة قبل حلفان اليمين، حتى يتم خلعه حين يخرج عن المسار المرسوم له، ومن يدري...
إن من تطاولوا على القاضية على صفحات التواصل الاجتماعي معروفون لدوائر الأمن وصناع القرار، وعلى الرغم من ذلك فهاهم طليقون يغردون في شتى الاتجاهات، بينما تتسلل القاضية سلام عقيل ربما إلى مكتبها خلسة حتى لا يطالها الأذى المعنوي أو الجسدي، ولن أتفاجأ إن تبين لاحقا أن أهلها وعشيرتها طلبوا الصفح والغفران عن خطيئتها المتمثلة بالعمل بالآية الكريمة "وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ". وفي المقابل يتم شحذ مفردات ونصوص قانون الجرائم الإلكترونية بحق من يفكر ولو من بعيد بالتعرض أو الاعتراض على تصريح هنا وموقف هناك لقيادتنا المعظمة من أعلى الهرم وجر حتى قاع القاع.
إن الصمت المريب للحكومة والرئاسة ومجلس القضاء الأعلى على ما اقترف الرعاع بحق القاضية سلام عقيل يشجع القاصي والداني على التطاول وإلحاق الأذى بكل قاض شريف وصاحب رأي، وما لم يتداعَ العقلاء فينا الى إعلاء الصوت دفاعا عن استقلالية القضاء قبل فوات الأوان، وبذل الغالي والنفيس والرخيص في سبيل ذلك، فإننا هالكون لا محالة. وفي خضم الانهيار غير المسبوق في القيم والمواقف والتوجهات، فإن ظهرنا جميعا للحائط، ولم يتبق لنا من كرامة سوى الدفاع باستماتة عن هيبة القضاء واستقلاله.
إن القضاة مطالبون اليوم بالصمود والتمترس خلف ميزان العدل، والعمل وفق ما أملته الشرائع بنزاهة وصلابة مطلقة، فخير لكل منكم أيها القضاة المبجلون البقاء في بيوتكم على أن تداس كرامتكم بإملاءات من أي مصدر كان، للحكم بغير العدل، وأعتقد أن القاضية سلام عقيل تستحق منكم وقفة احتجاجية ولو لمدة ساعة، تضامنا معها وحماية لهيبتكم واستثمارا في استقلاليتكم. ودون ذلك ما نفع جلوسكم تحت شعار العدالة والميزان المعتدل، بينما صولجان عدالتكم مكسور، وإنكم بالتأكيد مطالبون بإعلاء الصوت رفضا لما نسب لوزير العدل، وانتصارا لزميلتكم.
أختم بالتذكير إن نفعت الذكرى بموقف لرئيس مجلس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل خلال الحرب العالمية الثانية، حيث "قامت مديرة مدرسة بريطانية بإقامة دعوى أمام القضاء البريطاني تطالب فيها بنقل مطار حربي قريب من المدرسة إلى مكان آخر لأن أزيز الطائرات عند اقلاعها وهبوطها يحدث صوتا يزعج الطلبة وفيه تعطيل للدراسة فضلا عن أن المطار الحربي يجعل من المنطقة هدفا للعدو لضربه بالقنابل مما قد يسبب خسائر في أرواح الطلبة الصغار ويصيبهم بأذى جسيم. وبناء عليه، قضت المحكمة البريطانية بنقل المطار الحربي إلى جهة أخرى بعيدة عن العمران مما أحرج السلطات البريطانية الحربية، وبذلوا جهدا لإيقاف هذا الحكم و لكن دون جدوى، وأخيرا لجأوا إلى رئيس مجلس الوزراء ونستون تشرشل ليوقف تنفيذ الحكم بدعوى أن نقل المطار سيضعف الدفاع الجوي البريطاني عن أداء رسالته ضد العدو النازي. رفض تشرشل هذا الطلب قائلا "خير لنا أن تخسر بريطانيا الحرب ولا أوقف تنفيذ حكم قضائي، إيمانا منه أن أحكام القضاء عنوان الحقيقة وأن القضاء العادل هو أساس الملك".
سلام عليك يا سلام عقيل... ولا نامت أعين الجبناء