من يقرأ قصيدة (قد يحدث) يقف مطولا أمام تلك الكلمات، وإن بدت بسيطة لكنها تبدو غير بسيطة في انتاج المعنى لما يحمله من تأويلات كثيرة، أو رؤى الكاتب.
إن ما يهمنا في هذه الدراسة غور سبر النص بعملية تفكيكية، فمهمة التفكيك كما يقول (جاك دريدا) "تفكيك الخطابات وفك عرى النصوص للكشف عن الوجه الآخر للأمور" (أحمدعطية، ما بعد الحداثة، ص163)
والانتقال بين الدال والاحالة بين المدلولات لاستحضار المغيبات، هذه العملية التي يسميها دريدا "التعويم" فالقراءة تقوم على سبر النص وتحليله او تفكيكية بغية تأويله (عطية، 165).
قد يحدث..
للشاعر: احمد زكارنة
قد يحدث أن تتعثر في ظلك
تعاتبه..
أو تغرق فيه ويسبح فيك
قد يحدث سوء تفاهم لسبب
مجهول
أو لوجع ما
فتأخذ كفايتك من الجواب دون
حلول
قد يحدث أن تغرق في نقطة ماء
أن تعي الحب تاجرا فاشلا
في الاقتصاد
كريح تدلت في المكان
أو نص بلا عنوان
في تلك الزاوية الحادة أو
المنفرجة
حدثتني عصاتي عن عتمة الطريق
عن الدوائر المغلقة وهي تبحث
عن شدة الوضوح بين التقاطعات
المزنرة بالحفر
-على سبيل الضرورة-
عن فوارق الشبه بين الناجي والغريق
في تلك الزاوية الحادة أو المنفرجة
نكتشف ما للأقنعة من ملامح
وما للزيف من وضوح
وما للأوجاع من فوائد
في تلك الزاوية الحادة
أو المنفرجة
في كل منا
يتدلى قلب ما بين الشارع والباب
تنزاح الرغبة بالايماء
ينسدل كلام ملغوم
فيتدلى السؤال
من فينا الظل
ومن فينا الانسان؟!!
***********
بدأ الشاعر القصيدة بكلمة " قد يحدث" وهنا يأخذنا منذ البداية الى التشكيك، تشكيك حدوث الفعل وهو فعل التعثر في الظل، أو معاتبته، أو الغرق فيه، فنجد الشاعر ينحاز في التلاعب بين فيه وفيك، فتصبح عملية عكسية بين الغرق والسباحة لتتحد الذات، فيصبح الظل (هو)،( وهو) الظل لينتج (الأنا).
وهنا نسمع صوت الشاعر وكأنه منفصل عن عملية (يحدث)، فياتي السؤال: من يخاطب الشاعر؟ ومن يهدف بعملية التشكيك؟! اذن نحن هنا أمام صورة شعرية فيها يتقابل هو، وهو أو أنتَ ، وأنتَ، حيث أن الشاعر يستخدم أسلوب المخاطبة، لكن (الظل) يحمل ضمير (هو)!!
ثم يقول الشاعر:
قد يحدث سوء تفاهم لسبب مجهول
او لوجع ما
فتأخذ كفايتك من الجواب
دون حلول.
يكرر الشاعر "قد يحدث" ويستخدم أيضا أسلوب المخاطبة بين اثنينن او فريقين أو.. ليقول ربما يحدث سوء تفاهم لسبب مجهول أو لوجع ما والنتيجة أسئلة كثيرة ينتج عنها أجوبة كثيرة لكن دون حلول.
وربما هنا يقصد الشاعر الشارع الفلسطيني (كون الشاعر فلسطينيا) وما يعانيه من الانقسام، حيث لا حلول بعد لقاءات كثيرة!!!
ثم يعيد الشاعر (قد يحدث) للمرة الثالثة، والفعل يحدث فعل مستمر يتضمن التشكيك فيقول:
قد يحدث أن تغرق في نقطة ماء
أن تعي الحب تاجرا فاشلا
في الاقتصاد
كريح تدلت في المكان
أو نص بلا عنوان
في تلك الزاوية الحادة او المنفرجة
هنا تظهر فلسفة الشاعر أو رؤيته للأمور بطريقة مختلفة للأشياء مستخدما اللا ممكن، كغرق الانسان في نقطة ماء، أو تدلي الريح في المكان، واستخدامه أيضا فوضوية الممكن بوجود نص دون عنوان وهذا يدل على الضياع، والتشتت باستخدامه زاوية حادة أو منفرجة.
ثم يصف الشاعر الحب تاجرا فاشلا في الاقتصاد، وهنا يحاول الشاعر ايجاد علاقة تقاربية بين الحب والتجارة، ويربطهما بالاقتصاد، ويربط كل ذلك بالريح، وبالنص بلا عنوان، وبالزوايا الحادة والمنفرجة، وهنا يدخلنا في متاهة الواقع بتغيراته الاجتماعية والاقتصادية، وما آلت إليه الأشياء من سوء إلى سوء.
ثم ينتقل الشاعر إلى أسلوب آخر، فنجده قد انتقل من أسلوب المخاطبة إلى المتكلم، حيث يقول:
حدثتني عصاتي عن عتمة الطريق
عن الدوائر المغلقة وهي تبحث عن شدة الوضوح بين التقاطعات
المزنرة بالحفر
-على سبيل الضرورة-
عن فوارق الشبه بين الناجي والغريق
الشاعر هنا يستمع إلى صوت العصا وهي تتحدث عن عتمة الطريق، وعن الدوائر المغلقة، وعن عملية البحث عن شدة الوضوح، وفوارق الشبه بين الناجي والغريق. فالحوار في عملية عكسية بين الشاعر والعصا.
دخول الشاعر في عملية الفعل تعني بأنه جزء من النسيج الاجتماعي الذي تحدث عنه، وهنا يبحث عن البدائل بالانصات إلى صوت العصا، فنجد الشاعر قد تجاوز عن منطوق الخطاب إلى ما لا يسكت عنه، فالعصا وردت في القران الكريم مع سيدنا موسى، وكانت متكأ لسيدنا سليمان، وهي سند العاجز أيضا، وهي متكأ الشاعر يبوح لها بأسراره وكأنه يريد معجزة منها كما عصا سيدنا موسى عليه السلام.
بعيدا عن دلالات العصا التي تتحدث نجد أنها تقوم بفعل الواعي، بفلسفة الشاعر الذي استبعد نفسه هنا ليتحول الخطاب إلى العصا.
فالعتمة تعني عدم الوضوح وربما الوقوع في الخطأ، والدوائر المغلقة لن تجد مخرجا إلا بفعل خارجي يغير مسارها، وشدة الوضوح بين التقاطعات لكن الوضوح مزنر بالحفر. مشيرا الشاعر إلى -على سبيل الضرورة- جملة معترضة. ليشير أن الحفر أصبحت ضرورة للأشياء الواضحة حتى تتعثرَ!!
وعن فوارق الشبه بين الناجي والغريق، فكلاهما غريق لا فرق بينهما بمنطق الشاعر ورؤيته للأمور.
وهنا لا نريد أن نقع في رؤية الشاعر فقط، بل برؤية النص وما يحمله من معاني لنخرج برؤية النص نفسه.
لذا نجد أن الشاعر الذي نوع في استخدام الضمائر والانتقال من أسلوب المخاطبة إلى أسلوب المتكلم لم يخرج من (الهو) او (الأنت) الذي تحدث عنهما منذ بداية القصيدة، بل لا يزال يقيم قصيدته على صراعهما، لتتوضح الرؤية إلى ما يرمي إليه.
ثم يكمل الشاعر:
في تلك الزاوية الحادة أو المنفرجة
نكتشف ما للأقنعة من ملامح
وما للزيف من وضوح
وما للاوجاع من فوائد
في تلك الزاوية الحادة أو المنفرجة
نجد أن الشاعر يكرر "في تلك الزاوية الحادة أو المنفرجة" ليشير إلى تأزم الوضع أو انفراجه، ويؤكد ذلك بذكره للأقنعة صاحبة الملامح والزيف الواضح، ولفوائد الاوجاع.
فالشاعر هنا يوظف التناقضات بطريقة فلسفية؛ لأن الاقنعة لا تظهر الملامح، والزيف ليس واضحا، والوجع لا فائدة منه، لكن الواقع أصبح أكثر وضوحا حيث تكشف الواضح وأُعلن المستور، فبدت الأقنعة بملامح، وبدا الزيف واضحا، وحتى الوجع له فوائد، فبه توجد الحلول. سواء أكان الوضع في زاوية حادة أم منفرجة.
وفي خضم هذه الفلسفة التي تحملها الكلمات، والرؤية التي بدأت تتضح للمتلقي، نجد الشاعر قد انتقل إلى ضمير المتكلم ليخاطب الإنسان فينا فيقول:
في كل منا
يتدلى قلب ما بين الشارع والباب
تنزاح الرغبة بالايماء
ينسدل كلام ملغوم
فيتدلى السؤال
من فينا الظل
ومن فينا الانسان؟!!
كل واحد منا له قلب، وهذا القلب يتدلى ما بين الشارع والباب، فنجد القلب في حالة متعبة موزع بين الشارع والباب، وإن حضر السؤال: أي باب يقصده الشاعر؟! فالباب تختلف دلالته في حالة إن كان مغلقا أو مفتوحا، لكن القلب يتدلى بينهما وهو في هذه الحالة يعيش حالة عذاب؛ لأنه لم يستقر بعد، فالتدلي يعني القلق والغضب والخطر وعدم الاستقرار.
وعدم الاستقرار أدى إلى تخطي الايماء لينسدل الكلام الملغوم، وعملية الانسدال تحمل المطاوعة، والايقاع الهادئ، ليتدلى السؤال الذي يحمل المفاجأة: من فينا الظل/ ومن فينا الأنسان؟!! وهو سؤال منطقي لواقع يحمل الكثير من التناقضات.
وهنا يفجر الشاعر رؤيته للأشياء ويحملنا النص إلى محطات كثيرة لينبت السؤال، بل يتدلى ليبقى معلقا يتمايل، ليبقى متأرجا بين حقيقة: من فينا الظل، ومن فينا الإنسان؟!!! ويبقى ضمير (هو) في الظل، وضمير (أنت) في الإنسان..