الأربعاء  27 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

إنليل ومعتقلات التلقين الكريهة ناجح شاهين

2019-02-23 05:29:48 PM
إنليل ومعتقلات التلقين الكريهة
ناجح شاهين

لدينا بالتأكيد أكوام من الهموم العربية/القومية والفلسطينية/الاقليمية خصوصاً ما يتصل منها بالسياسة والاقتصاد وتصدع النسيج المجتمعي...الخ ولذلك يؤسفنا الإصرار على تشتيت الانتباه عن القضايا الأعمق والأكثر شمولاً، لكن حياة أطفالنا ليست على الرغم من ذلك شأناً يستهان به. المشكلة أن "الخطاب الرسمي المعلن" يتحدث طوال الوقت عن "النهوض" بأوضاع التعليم والمدارس، لكننا نسمع قعقة ولا نرى طحناً على الإطلاق.

في فلسطين المصغرة كثيراً عن نسختها الانتدابية، ما تزال الممارسة الأوسع انتشاراً في مدارس الحكومة ووكالة الغوث هي قمع الأطفال واضطهادهم جسدياً ونفسياً، إضافة إلى ممارسة الحديث الممل عن تنمية التفكير والإبداع في حين أن الممارسة السائدة الأساس، ونخشى أنها الوحيدة هي التلقين من جانب المعلم، والحفظ الصم من جانب التلميذ.

منذ أيام قليلة كاد إنليل صغير أسرتنا أن يفقد عينه في حادث مدرسي نمطي. وعاشت أسرتنا كابوساً ثقيلاً على امتداد الدقائق الطويلة من معاناة نقله من المدرسة إلى حين وصوله إلى المشفى والبحث عن الطيبب المناسب، والرعب من أن بصره سيضيع نهائياً ....الخ تعرفون أن منظومة الطب في بلادنا لا تقل رعباً عن منظومة التعليم.

مع ذلك لم أتمكن من إخفاء ابتساماتي بينما كان إنليل يعبر عن سعادته طوال الوقت بسبب أنه سيغيب عن المدرسة. في إحدى اللحظات تعرض للصراخ من أمه لأنه تمنى أن يتعرض لحادث آخر بعد أشهر لعله يغيب عن المدرسة فترة طويلة أخرى.

مدارس وزارة التعليم رائعة! عندها قدرة عظيمة على جلب الفرح للأطفال، على الأقل، يفرحون بسبب غيابهم عنها.

لماذا يصرون علينا أن نرسل اطفالنا إلى المدارس؟

المدارس لا تهتم بصحة الأطفال ولا حياتهم ولا سلامتهم. وهي لا تهتم بعقول الأطفال ولا بناء قدراتهم على البحث والتفكير.

وهي لا تهتم بنفسياتهم ولا فرحهم ولا نموهم السوي.

ماذا تريد التربية من الأطفال؟ أن يتشربوا ثقافة الخضوع والقمع والولاء للقيم السياسية والايديولوجية السائدة؟

 قال لي الطبيب الذي قام بخياطة عين إنليل إنه شاهد آلاف الإصابات في عيون أطفال المدارس بأقلام الرصاص على وجه التحديد. وقد أبدى الرجل استغرابه من تقاعس وزارة التعليم عن القيام بعمل جذري للتخلص من حوادث أقلام الرصاص الناجمة غالباً عن لعب الأطفال بتلك الأقلام بطريقة خطرة.

في مدرسة إنليل اهتموا بما حصل بأكبر قدر ممكن. أقصد ذلك حقاً. لقد وضعوا إنليل تحت الرقابة في غرفة الإدارة مدة ساعة. طبعاً اضاعوا وقتاً ثميناً، وكاد ذلك يتسبب في فقد إنليل لعينه تماماً. لكنهم لم يقصدوا ذلك، كانت المشكلة أنهم لم يقدروا الموقف. ومن "حسن الحظ" أنهم اتصلوا بي في غضون تلك الساعة، وأخبروني بأن الصغير قد تعرض لحادث "بسيط"، وأنهم سيرسلونه إلى مشفى رام الله لأن تأمين المدرسة هناك.

كانت ردة فعلي هادئة ولكن سريعة، طلبت منهم بحزم أن يأخذوا الصغير إلى مشفى الرعاية، ويطلبوا فوراً مشاهدة إخصائي العيون رياض عويضة. وقد تصرف الدكتور رياض مشكوراً بسرعة وحزم واتصل بزميله الجراح محمد معالي الذي حضر من مشفى هداسا وأجرى لإنليل عملية جراحية عاجلة.

المدرسة وجهت لي اللوم لأني تجاوزت مشفى رام الله. قالوا لي إن من حق الطفل أن يتلقى العلاج في مشفى رام الله لأن المدرسة مؤمنة...الخ أما الدكتور رياض عويضة فأخبرني ضاحكاً أن مشفى رام الله ليس لديه جراح عيون قدير أو غير قدير وأن إنليل كان سيتعرض لمضاعفات خطيرة لو أننا لم نتصرف بسرعة.

بعد ذلك انتهى دور المدرسة، والتربية والتعليم والوزارة كلها، كتبوا تقريراً قالوا فيه إن طفلاً رمى قلماً دون أن يستهدف إنليل على وجه الخصوص، وتسبب في الإصابة. الموضوع قضاء وقدر مثل مئات الحالات التي تحدث كل سنة. والوزارة لا يدخل في عملها محاربة القضاء والقدر بطبيعة الحال. كما أن لديها مهام جليلة تواصل القيام بها بما لا يعطي لها الفرصة لمتابعة إنليل أو غيره من الأطفال. ثم أن حياة الطفل أو نفسيته أو عقله ليست مسؤولية المدارس: مسؤولية المدارس كما تعلمون هي تلقين الناشئة محتوى الكتاب المطبوع او الإلكتروني وذلك ما تدعوه الوزارة عملية التعلم والتعليم.

 

ليست نيتنا في هذه العجالة أن نوجه اللوم إلى المعلم أو نجلده أو أي شيء من ذلك القبيل. من العبث فيما نتوهم أن نلوم جيش المعلمين الضخم على ممارسة يمارسها أفراده كلهم تقريباً. الأفضل أن نبحث عن السبب الكامن وراء ذلك. تقريباً لا يوجد معلم أو معلمة واحدة في مدراس الحكومة ووكالة الغوث ولا يمارس عنفاً جسدياً أو نفسياً أو لفظياً بحق الطلاب من نوع أو من آخر. الحق أقول لكم لو أنني –وقد عملت في مهنة التدرس في الجامعة وقبل ذلك في المدرسة ما يربو على خمسة عشر عاماً- ذهبت الآن إلى مدرسة الأمعري أو مدرسة قلنديا التابعتين لوكالة الغوث، أو إلى مدرسة سلواد التابعة للحكومة على سبيل المثال، لما تمكنت من فعل شيء يختلف عما يقوم به المعلمون والمعلمات الذين على رأس عملهم في هذه اللحظة.

حسناً، سيدي وزير التعليم في السلطة، وسيدي مدير التعليم في الوكالة أنتما تصرحان بأنكما تعدان العنف ممنوعاً في المدارس. بالطبع نحن نعرف أنكما تعرفان أن العنف موجود في مدارسكما مدرسة مدرسة، وصفاً صفاً، لكن هذا ليس بيت القصيد. ما نريد أن نسألكما عنه هو كيف يستطيع المعلم أن يقوم بالشرح وحفظ النظام والانضباط وإكمال المقرر وإجبار الطلاب على القراءة والقيام بالواجبات وهو يعاني من عدد في الصف الواحد قد يصل إلى خمسين تلميذاً؟ وهل فكرتما في الخلفيات التي يأتي منها التلاميذ والتي تتصف غالباً بالفقر وانتشار العنف في الأسرة والحارة والحي والمدينة كلها؟

ماذا يفعل المعلم في مواجهة خمسين طفلاً ضجراً محملاً بالمشاكل الأسرية والمجتمعية والنفسية وضغوط الفقر وقهر الاحتلال وألف ألف قصة مزعجة؟ ماذا يفعل المعلم مع طفل نقوم باحتجازه في غرفة ضيقة ليستمع إلى قصص مملة لا تعني له شيئاً، ويظل يفكر من لحظة دخوله المدرسة إلى لحظة المغادرة في الوقت الذي سيقرع فيه جرس النهاية: نهاية الحصة أو الاستراحة أو الدوام اليومي كله.

لا أريد أن أقول كلاماً رومانسياً "أهبلاً": ابنة أختي في السويد تحب المدرسة، وتحب أن تظل هناك وقتاً طويلاً.

أنا لم أشاهد في حياتي طفلاً يحب الذهاب إلى مدرسة الحكومة أو الوكالة. بصفة شخصية عندما كنت على مقاعد الدراسة كنت أعد المدرسة عدواً لا يقل شراً عن الاحتلال. كنا جميعاً متفوقين أو "تيوساً" نتفق على كراهية الاحتلال والمدرسة. وأتوهم أن معظم الأطفال ما زالوا يفكرون على هذا النحو. هل لديكما فكرة للنهوض بالأوضاع تختلف قليلاً أو كثيراً عن استعمال الكمبيوتر والتكنولوجيا في التعليم؟ لا بد أن بيل جيتس وشركات الحواسيب المحمولة والانترنت وما لف لفها تبتهج بدخول أعمال المعلم والعلامات وأعمال الطلبة في هذا النطاق، ولكن هذه التسهيلات الشكلية لن تغير في واقع التعليم شيئاً من ناحية أنه مكان للملل والقمع والاضطهاد والتلقين ومحو شخصية الطفل وحرمانه من طفولته وسعادته. وقد بالغت وزارة التعليم في السلطة الفلسطينية في هذا الأمر بقضمها حصص الرياضة والتربية الفنية لمصلحة مقررات ذات طابع ايديولوجي لا تسمن ولا تغني من جوع.

لسنا ننكر أن المعلم في حاجة إلى إعداد أفضل كيما يكون قادراً على تنفيذ عملية تعليمية/تعلمية عالية المستوى عامرة بالحب والفرح والتفكير. لكن ذلك يشترط استباقياً النهوض بأوضاعه المالية وزيادة أعداد المعلمين على نحو لا يقل عن الضعف من أجل تخفيض أعداد الطلبة في الصفوف.

تعرفون، لو كان عندي خمسة عشر تلميذاً في الصف فإنني لن أعدم السبل لإدارة الوقت معهم على نحو لا يخلو من الفرح والجمال والاحترام المتبادل، ولكن إن كان عندي أربعون تلميذاً أو أكثر، فقد انغلقت السبل أمامي باستثناء أن أقوم بكتم أنفاس الطلبة وإلقاء المحتوى على مسامعهم على أي نحو، ولن أجد الوقت للتواصل معهم أو للتعرف إلى صعوباتهم التعلمية ناهيك عن صعوباتهم النفسية أو الاجتماعية....الخ.

العنف الجسدي المباشر بالعصا والرفس واللكم، والشتائم البذيئة كلها تستخدم في مدارس الحكومة والوكالة طوال الوقت. الحق أقول لكم إن معظم المعلمين لم يعد يكترث حتى للتهديد بالشكوى لأية جهة، وذلك لأنه سئم التعليم والحياة ذاتها من ناحية في ظل بؤس أوضاعه المالية والمهنية، كما أنه يدرك أن المسؤولين لن يستطيعوا له شيئاً في ظل انتشار ظاهرة العنف على نطاق واسع جداً.  هكذا يغدو العنف ممارسة مستدخلة في عقل الطفل وقلبه هزلاً وجداً "طوشاً" ومرحاً. العنف هو كلمة السر في بيئة تخلو من أية معاني عميقة للجد أو للهزل.

القصة إذن أعقد من إصدار مرسوم بمنع الضرب، أو منع التلقين مع بث دعاية إذاعية عن أهمية الإبداع والتفكير تمولها وكالة سويدية أو كندية أو نرويحية. القصة الجوهرية هي رصد الموارد الضرورية للنهوض بالمعلم والمدارس، وهذه خطوة أولى على طريق تغيير الأوضاع. أما الخطابة عن زرقة عيون أجهزة بيل جيتس وأبل وسام سونغ فإنها تفرح الشركات الكورية والأمريكية وبعض المستوردين المحليين.

تغيير أوضاع التعليم يتطلب تغيير الإنسان، والسياق الذي يحيا فيه، وهذا أمر سياسي فيما نحسب، لأنه يتطلب قراراً من المستوى السياسي بأن نولي التعليم اهتماماً أكبر. وبالمناسبة لا يجهل أي مفوض في وكالة الغوث كيف تكون المدارس المعدة للسعادة والفرح والإبداع لأنهم على الأغلب يأتون من دول مثل السويد وكندا وما شاكلها، لكنهم لا يكترثون بالطبع للأوضاع البائسة لأطفال مدارس الوكالة. لكن ما الغرابة في ذلك؟ وهل يكترثون أصلاً لبؤس المخيم وسكانه اقتصادياً وصحياً ناهيك عن التفكير في حقهم القومي في العودة إلى البيوت التي طردوا منها؟

العنف في المدرسة مستمر في مدرسة الحكومة والوكالة، والتغيير الجذري مرهون بالسياسة، لكن ذلك لا يمنعنا من القول بأن تحسن ثقافة المجتمع وخصوصاً قطاع المعلمين يمكن أن يخفف قليلاً من بؤس الأطفال في هذه المدارس. ولعل إمكانية التغيير هنا إنما تأتي أساساً من المعلمات والمعلمين الأكثر انتماء وإنسانية وإبداعاً، الذين يمكن أن يشكلوا قدوة لزملائهم، مثلما تأتي من اهتمام الأهل بمتابعة هذه الأمور في المدراس بالسبل الذكية العاقلة والمسؤولة.