الحدث الثقافي
مر التراث الفني الإسلامي في فلسطين بعدة مراحل حتى وصل إلى مستوى راق تميز بالعظمة والثراء والبراعة التي تجلت في تكويناته الهندسية والنباتية الزخرفية، وأشكال خطوطه، في الرسوم واللوحات المخطوطات. ولم يؤثر هذا التراث في إنتاج الفن في فلسطين فقط؛ بل تعدى ذلك ليؤثر في إنتاج الكثيرين من فناني العالم. وهو فنّ عظيم بحاجة لمزيد من الدراسات العميقة كي يستوعبه المثقفون والفنانون، ولكي يصبح مصدر إلهام للجماهير العربية.
إن الفن الإسلامي لا يخص بلادا معينة أو شعبًا بعينه، فهو حضارة كاملة نتجت عن اجتماع ظروف تاريخية (الفتوحات الإسلامية في العالم، وحكم الإسلام لبلاد كثيرة، ودخول شعوب عديدة إلى هذه البلاد).
يعد الفن الإسلامي مزيجًا انصهرت في بوتقته الخبرات الفنية التي سادت مختلف البلاد إبان الفتوحات الإسلامية. وقد حافظ الفن الإسلامي على هذه الخاصية الفريدة حتى العصور الحديثة.
وقد التزم الفن الإسلامي في صناعة العديد من الحلي والعديد من المشغولات بوجهة نظر ومفهوم العقيدة الإسلامية التي تنادي بالتواضع؛ ولهذا صنعوا العديد من أعمالهم الفنية من النحاس والنسيج، وطعموها بخيوط الذهب والفضة، وزخرفوا أدوات الخزف والزجاج بالبريق المعدني، وحفروا على الخشب والعاج والعظم وعلى الحجر الأخضر والأحجار الكريمة، كما زخرفوا القطع المعدنية والآنية الفخارية والزجاج، ووضعوا الأحجار الكريمة عليها.
وقد اعتمد الفن الإسلامي في البداية على التقاليد الفنية التقليدية في بلدان العالم قبل فتحها. وفي منتصف القرن التاسع؛ وجد الفن الإسلامي طرق تعبير ذاتية طورها وصقلها بشكل راق كي تتلاءم مع التعاليم الدينية الإسلامية.
وقد دمج الفن الإسلامي في طياته بين تقاليد مختلفة، ربطتها وحدة فنية لا علاقة لها بالقومية والعرقية (أي ليست خاصة بشعب أو بعرق معين)، لا تكاد تجد مثيلا لها في التاريخ البشري، باستثناء عصر الإمبراطورية الرومانية.
الفن الإسلامي في صدر الإسلام:
إن طبيعة الحياة والظروف التي أحاطت بعصر النبي وعصر الخلفاء الراشدين لم تهيئ للمجتمع الإسلامي حينئذ أن يكون مرتعاً خصباً لفن يترعرع بينهم ويتطبع بطابعهم؛ فقد كان المجتمع الإسلامي في صدر الإسلام يتميز بالبساطة والتقشف والبعد عن الترف بكل مظاهره، ويظهر ذلك واضحا في المساجد الأولى التي أنشئت في المدينة والكوفة والبصرة والفسطاط.
وقد استمر الفنان المسلم في صدر الإسلام في استعمال الزخارف التي كانت سائدة في العصور التي سبقت الإسلام، مع ملاءمتها للعقيدة الإسلامية وللذوق المحلي.
العصر الأموي:
يلاحظ أن العصر الأموي هو الفترة التي ظهرت فيها أولى المدارس الفنية الإسلامية التي عرفت بالمدرسة الأموية. ويعد الفن الأموي فنا مركبا استمد عناصره المختلفة من الفنون الرومانية والبيزنطية والفارسية والساسانية والهيلينستية ولم يأخذوا هذه الفنون كما هي بل حوروا في بعضها وأضافوا إليها ما يتفق مع ثقافتهم؛ فبعد أن اتسعت في العصر الأموي رقعة الفتوحات الإسلامية، وامتدت الدولة الإسلامية واتسع نطاقها واختلط العرب بأمم وحضارات أخرى تأثر المسلمون بهذه الأمم كما أثروا بهم.
وكانت السيادة الفنية في عصر الأمويين للبيزنطيين والسوريين وغيرهم من رجال الفن والصناعة الذين أخذ عنهم العرب الفاتحون العديد من الخبرات والمهارات الفنية، وصهرها في بوتقة واحدة، وصاغ منها الطراز الفني الأموي الرائع، الذي تميز بتعدد عناصره الزخرفية التي ورثها عن الأمم المفتوحة؛ فبينما ورث الدقة في رسم الزخارف النباتية والحيوانية وأشكال الطبيعة وفنون العمارة من الفنون البيزنطية، نجد أن تأثير الفن الساساني يتمثل في الأشكال الدائرية الهندسية وبعض الموضوعات الزخرفية الأخرى، كرسم الحيوانين المتقابلين أو المتدابرين تفصلهما شجرة الحياة المقدسة أو شجرة الخلد.
ومما أثرى الفن الأموي؛ استخدام الفنانين الأمويين الكثير من الزخارف المعمارية التي كانت معروفة في سورية قبل الإسلام؛ فكسيت الجدران والأرضيات بالفسيفساء؛ إضافة إلى ظهور عنصر معماري زخرفي جديد لم يكن معروفًا من قبل في سورية، وهو تحلية الجدران بالزخارف الجصية.
ومن الأساليب والعناصر الفنية الأموية:
استخدام زخارف الفسيفساء، التي تتلخص في صف وتثبيت مكعبات الزجاج الملون والشفاف وقطع الحجر الأبيض والأسود فوق طبقة الجص التي تغطي سطح الجدار لتكوين موضوعات زخرفية أو حيوانية أو نباتية. وكان هذا الأسلوب مستخدمًا في العصر الإغريقي الروماني، كما استخدمت الفسيفساء الزجاجية في زخرفة الجدران في العصر البيزنطي.
وتعد زخارف قبة الصخرة أول وأقدم محاولة ظهرت في العصر الإسلامي لهذا النوع من الفن الزخرفي المعماري. وتغطي جدران المسجد عناصر زخرفية نباتية كثيرة كأشجار النخيل والصنوبر والعنب والرمان ووحدات الأهلة والنجوم.
فأغلب التعبيرات الفنية التي وجدت في زخارف قبة الصخرة كانت مقتبسة من الفنون الإغريقية والبيزنطية مع عناصر الفن الهيلنستي والساساني.
- ويتضح تأثر الجامع الأموي بالفن الهيلنستي حيث نلاحظ أن قوام هذه الزخرفة عبارة عن مناظر طبيعية وتوجد أيضا زخارف من وحدات نبات الأكانتاس.
- ويتضح تأثير الفن الساساني في الفن الأموي في العناصر الحيوانية الموجودة في زخارف فسيفساء قصر هشام بالمفجر، حيث تذكرنا وحدة الأسد المنقض على فريسته بنظائره في الفن الساساني.
الزخارف الجصية والنحت على الحجر:
استخدم الفنان الأموي الجص البارز المنقوش، على نطاق واسع في زخرفة القصور، مثل: قصور "خربة المفجر" الذي يحتوي على عناصر آدمية وحيوانية إلى جانب الزخارف الهندسية والنباتية، كما إن من أجمل أمثلة النقش على الحجر واجهة "قصر المشتى"، التي نقلت الواجهة الحجرية منها إلى متحف الدولة في برلين. وتنحصر زخارف هذه الواجهة في إطار أفقي ممتد بطول الواجهة الرئيسية. وقد قسم سطح الإطار إلى أربعين مثلثًا بواسطة شريط متعرج ذي زاويا حادة: عشرون مثلثا قاعدتها من أسفل، وعشرون مثلثا في وضع عكسي؛ ويتوسط هذه المثلثات زخارف منحوته على شكل وردة كبيرة يزخرفها نقوش قوامها مراوح نخيلية وأزهار اللوتس.
ويمكن تقسيم زخارف الواجهة إلى مجموعتين: الأولى تشمل زخارف الجهة التي تقع على يسار المدخل وتضم صور حيوانات طبيعية وخرافية وأوان تخرج منها فروع نباتية، كما تظهر طيور بين سيقان نباتات العنب، أما المجموعة الثانية التي توجد على يمين المدخل فلا نجد بها رسوم كائنات حية. كما أن تفريعات سيقان العنب الموجودة بها منقوشة بطريقة مجردة.
وأول من استخدم المراوح النخيلية وأنصافها، هم الساسانيون، ولقد اقتبس المسلمون هذه المراوح بدون تطوير في أول الأمر ولكنهم حوروا فيها تدريجيا فيما بعد مما نتج عنه ظهور وحدة زخرفية مبتكرة إسلامية الطابع.
أما استخدام وحدات الحيوانات المجنحة فهو أسلوب فارسي لم يعرف من قبل في سوريا.
ومن الزخارف الإسلامية المبتكرة التي أدخلها الأمويون زخارف كتابية منقوشة على تاج عمود وجد في بركة قصر الموقر عام 1954م. ويوجد بالنص اسم" عبدالله يزيد" أمير المؤمنين.
التصوير الجداري:
مارس الفنان المسلم نوعين من التصوير: التصوير الجداري، وتصوير المخطوطات. ويتصل التصوير الجداري اتصالا وثيقا بالزخارف المعمارية؛ فهو عبارة عن تصاوير ترسم على الجدران بالألوان المائية. ولقد اقتصرت زخارفه عادة على الموضوعات التي عرفت في بلاد الشرق الأوسط قبل الإسلام، مثل: تمجيد الملوك أو مناظر الصيد والطرب .... الخ، كما استخدمت زخارف الأشكال النباتية والطيور، وتصوير المخطوطات هو عبارة عن تزيين المخطوطات والكتب التاريخية والعلمية ببعض الصور التوضيحية الملونة. وقد برع الفنانون المسلمون في جميع البلاد الإسلامية في رسم الصور التوضيحية.
وقد استخدم الأمويون أساليب كثيرة لرصف أرضية مبانيهم؛ ففي الأماكن المفتوحة كانت تغطى بالبلاط الحجري؛ وفي غرفة النوم استخدموا قطع الحجارة المخلوطة بالجير والرماد؛ أما بقية الحجرات فكسيت بالفسيفساء.
الفنون الصغيرة:
الحفر على الخشب:
احتفظت صناعة النحت على الخشب في العصر الأموي بالأساليب الفنية التي كانت معروفة من قبل في سورية، لاسيما الهيلنية والساسانية؛ وأحسن مثال على ذلك ألواح الخشب في المسجد الأقصى، وتضم زخارف حشوات هذه الألواح، وحدات من أوراق الأكانتاس وتفريعات العنب. كما نرى أشكال السلال التي تخرج منها الفروع النباتية.
المعادن:
لم يعثر على الكثير من القطع المعدنية التي يمكن نسبتها إلى العصر الأموي. ومن القطع القليلة التي تأكد بصفة قاطعة نسبتها إلى ذلك العصر عدد من الأباريق البرونزية موزعة على المتاحف العالمية. ويتميز هذا الإبريق بجسم كروي ورقبة اسطوانية ومقبض طويل، أما صنبوره فمشكّل في صورة ديك يصيح. وتزخرف جسم الإبريق نقوش محفورة قوامها دوائر بداخلها وريدات. كما أن نهاية رقبته تزينها زخارف مفرغة من أشجار النخيل؛ ويزين المقبض زخارف منقوشة بتفريعات نباتية وثمار الرمان. ويلاحظ على شكل هذا الإناء تأثره بالفن الساساني.
عمارة المساجد:
تطورت عمارة المساجد تطورا كبيرا في عهد الأمويين؛ بعد مشاهدتهم العمران المسيحي في بلاد الشام. وقد ظهر هذا التغير في فترة حكم الخليفة "عبدالملك" وازدهر في عهد خلفه"الوليد بن عبدالملك" وتظهر من تلك الفترة مساجد فخمة لا تزال قائمة حتى الآن أهمها: "قبة الصخرة"، و"المسجد الأقصى"، و"المسجد الأموي" بدمشق.
مسجد قبة الصخرة:
شيد في عهد "عبد الملك بن مروان" في عام72هـ. وجدد عام164هـ. وهو يتميز بتصميم فريد لم يعرف من قبل في عمارة المساجد الإسلامية، ولم يتكرر ظهوره مرة ثانية.
تخطيط لقبة الصخرة:
ويمتاز هذا المسجد بجمال وفخامة زخارفه. ويتكون هذا المسجد من بناء من الحجر مثمن الأضلاع، ويقع بكل ضلع من أضلاعه الخارجية عقود مدببة تعلوها نوافذ، ويتوسط الأضلاع المقابلة للجهات الأربع الأصلية من المثمن أربعة أبواب. ويكسو الجزء الأسفل من الجدران الخارجية ألواح من الرخام، أما الجزء الأعلى فكان مغطى بطبقة من الفسيفساء أزيلت في العصر العثماني واستبدل بها لوحات من القيشاني.
ويتوسط المبنى الصخرة المقدسة التي عرج من فوقها النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى السماء ليلة الإسراء والمعراج. وتحيط بهذه الصخرة دائرة من الدعائم والأعمدة، ويبلغ عدد الدعائم أربعا، ويقع بين كل دعامتين ثلاثة أعمدة. وتحمل هذه الدعائم واجهة اسطوانية مغطاة من الداخل بالفسيفساء قوام زخارفها فروع نباتية. ويوجد بهذه الأسطوانة ست عشرة نافذة مزخرفة بالقيشاني من الخارج، وزخارف جصية بها زجاج ملون من الداخل. وترتكز على هذه الأسطوانة قبة خشبية مزدوجة الكسوة، من الخارج مغطاة بطبقة من ألواح الرصاص، وفي داخل القبة كتابة كوفية كتبت بماء الذهب على أرضية زرقاء؛ ويفصل جدار المثمن الخارجي عن الجزء الدائري مثمن أوسط يتكون من دعائم يكسوها الرخام وستة عشر عمودا رخاميا ذات تيجان مختلفة الطراز. ويعلو هذه الدعائم والأعمدة عقود زينت جدرانها بطبقة من الفسيفساء، قوام زخارفها عناصر نباتية. ولقد نتج عن تشييد هذا المثمن الداخلي وجود رواقين داخلي وخارجي. ويغطي هذين الرواقين سقف من الخشب مزدوج الكسوة؛ فمن الخارج ألواح من الرصاص، ومن الداخل ألواح خشبية منقوشة. ويوجد بقبة الصخرة محراب أملس غير مجوف ينسب إلى عبد الملك، ومحراب آخر يعرف باسم "قبلة الأنبياء".
تصميم هذا المسجد يعتمد على رسم دائرة داخل مثمن، وهو ابتكار جديد ظهر في تصميم المساجد الإسلامية. ويظهر من دراسة هذا التصميم تأثر العمارة في فجر الإسلام بالأساليب الفنية التي كانت سائدة في بلاد الشام قبل دخول العرب إليها؛ فتصميم المسجد مقتبس من تصميم بعض الكنائس التي كانت موجودة ببلاد الشام وإن اختلفت عنها في التفصيل.