الحدث.
في روايته الأولى "مسك الكفاية" أو سيرة سيدة الظلال الحرة، يُخرجُ باسم خندقجي التاريخَ من علبته الحديدية، ينظفه، ويبث فيه الحياة، يؤنسنه، بعيداً عن الوقائع الجافة التي تحفل بها كتب السير الماضية، يبعث الحياة في أطراف الحكايات المدرسية التي طالما بقيت حبيسة التواريخ والأرقام والأعداد والمساحات، وبقيت كذلك حبيسة صوت السلطة التي هيمنت على الكتابة فأخرجت كل الحكايات على شاكلة من كُتبت عنهم وعلى وفق رغباتهم.
الرواية تقع في 341 من القطع المتوسط، وصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت عام 2014، وقدم لها الروائي محمود شقير.
تتحرك "مسك الكفاية" في خطين منفصلين ظاهرياً، وانفصالهما يأتي لسببين، أولهما أن كل قصة تتحرك بمعزل عن القصة الأخرى، وثانيهما أن زمناً يفوق العقدين يفصل بين الخطين، ففي حين تبدأ قصة المقّاء بنت عطاء بن سبأ اليمانية، وفارسها الأنهد، في عهد الخليفة أبي جعفر المنصور، وتنتهي فيه، تبدأ القصة الأخرى في عهد أبي جعفر وتمتد إلى عهد الخليفة هارون الرشيد، وبطلة الخط الثاني هي الخيزران، جارية المهدي في البداية، ثم زوجته وأم وليّي عهده، موسى وهارون.
اللافت في الخطين الذين اتبعهما باسم خندقجي، هو مسيرة خط الزمن، ففي الوقت الذي تجري فيه قصة الخيزران والمهدي بتتابع مذهل وإيقاع سريع إلى حد اللهاث، نتيجة ما يحدث في أروقة الخلافة العباسية وقصورها من أحداث، فإن الخط الآخر يسير ببطء جنائزي فرضته الصحراء الشاسعة، ومفازاتها، فلم يكن غريباً إذن أن يستخدم باسم شخصية "الأنهد" الفارس الكريم الشهم حفيد الصعاليك الأولين، والذي يضحي بالكثير من أجل إنقاذ فتاة لا يعرفها، في مقابل شخصيات تدور في فلك الخلافة، فتستخدم السم للقتل، والسيف للذبح، كل هذا من أجل الوصول إلى العرش، أو ظلاله على الأقل.
بعبارة أخرى، إن الزمن الذي يعيشه الناس العاديون ساكنو الصحراء والخيام، هو زمن مختلف في إيقاعه وسرعته عن الزمن الذي يعيشه الخلفاء وأهل المدن القريبة منهم، لذلك كانت الفصول الخاصة بالمقّاء فصولاً تأمليةً بالدرجة الأولى، مملوءة بحوارات المقّاء مع نفسها، مملوءة بأحلامها، بتصوراتها عن العالم، بأوهامها، بينما جاءت الفصول الخاصة بالخيزران مليئة بالأحداث المتلاحقة، بالمعارك على كل المستويات سواء تلك التي تحدث بين الجواري في قصور الخلفاء وأولياء عهدهم، أو تلك التي تحدث في قصور الخلفاء بين وزرائهم وأصحاب رأيهم، وهذا الفصل في إيقاع الزمن بين القصتين في رأيي هو ما صنع جمال رواية باسم خندقجي.
في الخط الذي يتتبع رحلة المقّاء، فتاة حرة، يتم سبيها، وهي تريد أن تكون جارية للخليفة كي تحصل على حريتها بطعم ولون مختلفين عن الحرية التي ولدت بها، تريد بمعنى آخر أن تحصل على حريتها بيدها، بعقلها، باندفاعها المراهق نحو الحياة، أما الخط الذي يتتبع رحلة الخيزران، فيبدأ بها كجارية إلى أن يتم تحريرها على يد الخليفة المهدي، ومَنْ علّم الأولى هي امرأة "رقية"، ومن علم الثانية هي امرأة "خلوب"، فنجح باسم خندقجي في أن يظهر الدور الخطير الذي طالما قامت به المرأة العربية من وراء الأحجبة، ففي مشورات الخيزران للمهدي كان هناك الكثير من التفوق للعقل الأنثوي على عقول وزراء ومفكرين مثل يحيى البرمكي، وإن لم تخل الرواية من إشارات إلى نساء لم يكنَّ غير مجرد نساء لا يهمهن إلا الزينة والعيشة الهانئة سواء كنّ جواري أو حرائر.
تتجلى المرأة في الخط الآخر في "أم القبيلة" أو العرافة إذا شئتم، فالجميع يبجلها ويضعها في مقام لا يطاله مقام، وهذا الانتصار للمرأة لم يأت فقط من خلفية ثقافية يتمتع بها باسم، بل يأتي من حقيقة فهمه للدور اللامنظور الذي كانت تقوم به المرأة العربية في صيرورة التاريخ الذي صنعته الدولة الإسلامية في بداية انتشار الإسلام في العالم، فيستخرجها باسم من بين بطون الكتب التي اكتفت بمجرد إشارات هنا وهناك إلى هذه المرأة أو تلك، ليضعها بلغته الجميلة "والشاعرية في أحيان كثيرة" في المشهد الأمامي للحدث التاريخي، وحتى حين كان يسرد بعض القصص في سياق ما، فإن امرأة مثل ليلى العامرية هي نموذج للتحدي كذلك حين تمنعت على زوجها بعد أن رفض أبوها تزويجها من توبة بن حِمْيَر، كل السياقات التي استخدمها باسم في الرواية تقود إلى ذلك، بدءاً من الأم التي عملت لتعيل أسرتها بعد وفاة زوجها، وانتهاء بالخيزران التي ثبتت ملك ابنها هارون رغم أنف الخليفة الهادي "موسى" بعد محاولته تسميمها.
يترك باسم الخط الأول مفتوحاً، حين يعلن "الأنهد" أنه لن يكمل الرحلة إلى بغداد، ويترك المقّاء أمام خيارها، أما الخط الثاني فيغلقه بموت الخيزران بعد أن حققت طموحها كاملاً، طموحها الذي بدأ برغبة التقرب من ولي العهد "المهدي"، الطموح الذي تطور لتصبح محظية المهدي، ثم أم أبنائه، وزوجته لاحقاً بعد أن أصبح أميراً للمؤمنين، وآخر طموحاتها كان وضعها لابنها الثاني على سدة الحكم كأمير للمؤمنين، بعد أن قضت على ابنها الأول بحيلة الجواري، في الخطين، المرأة سيدة مصيرها، وإن بدا ظرفها مغاير لذلك، وإن بدا أنها في ذلك العصر لم تكن سوى أداة للمتعة والإنجاب، لكن دخول باسم إلى عمق الشخصيات، إلى روحها البعيدة، يضيء الكثير من النقاط المظلمة، ويعيد سبك الحكاية من منظور مختلف تماماً عما ألفته الرواية التاريخية في كتب التاريخ.
باسم، ابن الثلاثين عاماً، والذي يقضي حكماً ثلاثياً بالسجن المؤبد منذ عشر سنوات في السجون الإسرائيلية، يمتعنا بكتابه الثالث بعد ديوانيه "طقوس المرة الأولى" و"أنفاس قصيدة ليلية"، ليثبت مرة أخرى أن الاعتقال لا يمكنه السيطرة على الروح المبدعة، بل إنه أحياناً يزيدها اشتعالاً وفطنة وتأملاً.
أجزم بأن باسم قام ببحث عميق وطويل قبل أن يكتب هذه الرواية، فما أورده من معلومات عن العصر العباسي "على ألسنة الشخصيات"، وما أورده من أحداث يقول بوضوح إنه قام بهذا البحث بجدية بالغة، ولكن النتيجة لم تأت ملخصاً لبحث في أمور الدولة العباسية، بل جاءت أنسنةً للتاريخ، وقولاً آخر غير القول الذي اعتدنا على سماعه، فقد نجح باسم خندقجي أن يحول تماثيل التاريخ إلى لحم ودم.
31-12-2014