الحدث الثقافي
أهمية البيت في الوجدان الشعبي الفلسطيني:
للبيت مكانة عاطفية مرموقة في الوجدان الشعبي الفلسطيني؛ فهو يرمز للسعادة العائلية ووحدة الأسرة والستر، وليست هناك سعادة عائلية بدون بيت يضم الأسرة، ونحن نستدل على ذلك من أمور عدة، إذ إن الفلاح الفلسطيني وكذلك الفلسطيني المشرد أعطيا أهمية فائقة لوجود البيت، وعندما كان الواحد منهما يحصل على النقود كان يفكر في بناء بيت، أو شراء أرض والزواج، وحتى الآن فإن كل هذه الممارسات ترمز إلى حس إنساني غريزي في الرغبة بأن يكون للإنسان وجود ثابت في بيت وعلى أرض ومع أسرة، هذا فضلاً عن تعبير حقيقي من جانب الإنسان الفلسطيني في الانتماء والولاء للأرض.
إن الفلاح يجوع ليوفر ما يعينه على إكمال بناء بيته، وتعتبر مساعدة الفلاح في بناء بيته واجباً أدبياً على كل أهل قريته، وهم يقومون بما يسمى "عونة" –معاونة– عند العقد، ومن أكثر أمنيات اللاجئ الفلسطيني أن يكون له بيت، ففي المخيم أعطت "وكالة الغوث" اللاجئ الفلسطيني خيمة صغيرة، أو ساعدته في بناء غرفة واحدة، لكن هذا اللاجئ سرعان ما تخلص من الخيمة وأضاف للغرفة غرفاً أخرى أو بنى بيتاً كبيراً متعدد الطوابق، ومن السهل أن نشاهد هذه البيوت في مخيم الوحدات (الأردن)، اليرموك (سوريا)، صبرا (لبنان) وغيرها من المخيمات الفلسطينية.
وفضلاً عن التوسع في البناء، فإن المخيم الفلسطيني يعطى انطباعاً آخر من ناحية الحس الغريزي في التمسك بالأرض من خلال زراعة أشجار العنب والزيتون والأشجار الباسقة، فبمجرد أن ينشأ مخيم في منطقة ما سواء كانت خضراء أو مقفرة حتى يبدأ اللاجئ في تحويله إلى ما يشبه الغابة الخضراء.
إن هناك أقوالاً شعبية تؤكد أن البيت هو رمز السعادة العائلية ووحدة الأسرة.
(فش مثل بيتك يا الإنسان)، بمعنى لا يوجد ما هو أكثر جلباً للسعادة مثل البيت.
ففي البيت يشعر الإنسان بحريته من القيود، لدرجة أنه من الممكن أن يملأ فمه بالطعام بصورة كبيرة وبلا حرج، وهذا ما لا يفعله أمام الآخرين.
(ريت هالبيت يظل مفتوح والحبايب تيجى وتروح)، إن القول المأثور يربط بين وجود البيت، فالبيت المفتوح رمز لوجود الإنسان وللمكان الذي يلتقي فيه الأصدقاء والأحباب، ومن أكثر الأمور التي يفتخربها البدوي الفلسطيني هو أن يكون له "بيت شعر" (خيمة كبيرة من شعر الغنم)، تأوي إليها أسرته، ويتردد عليها الضيوف.
(بيت ربانى ما راح وخلانى)، حتى البنت التي تغادر بيت أهلها إلى عش الزوجية تظل تفتخر بالبيت الذي رباها وتحس بالسعادة لوجوده، فذلك البيت لا يتخلى عنها.
وتعتقد المرأة الفلسطينية في الوسط الشعبي أن "البيت" ليس مجرد بناء فحسب، بل هو ذو محتوى أساسي، وذلك المحتوى هو الرجل وأن قيمة البيت بمحتواه، بمعنى أن البيت الذي لا يضم رجلاً يعتبر بيتاً ناقص المحتوى، فالرجل سواء كان زوجاً، ابناً أو قريباً هو "شمعة البيت"، " نوارة البيت"، "عمود البيت"، وتشهد بذلك أساليب الدعاء بالخير والتي تصدر من امرأة لأخرى، مثل: "الله يخلي لك عمود بيتك"، الله يخلى لله نوارة بيتك، الله يخلي لك شمعة بيتك.
ونجد في سيرة "الزير سالم أبو ليلى المهلهل"، أن البنات والنساء كن في غيبة الزير يسكن في بيت لا يشعلن فيه النور، وعندما وصل الزير السالم فجأة؛ وبعد غيبة سبع سنوات بادرت إحداهن إلى إضاءة البيت، وزغردت رمزاً إلى أن الرجل هو "شمعة البيت" الحقيقية، وأن البيت بدون الرجل يظل معتماً حتى لو أشعلت فيه نور.
إن الرجل هو المنتج الوحيد لغذاء الأسرة، وعليه وحده يتوقف بقاؤها، كما أن الرجل هو المدافع عن النساء والأرض، وهذا فضلاً عن أن الحياة الاعتيادية والسوية لا تتوفر في بيت ليس فيه رجل، ونحن نتحفظ هنا بالقول بأننا نسوق هذا الكلام ليس بهدف الانتقاص من مكانة المرأة، بل لنساعد المرأة المعاصرة لترى صورتها في التراث، ولتتأكد بأنه لا يمكن للمرأة أن تنال كامل حقوقها، إذا ظل الرجل هو المنتج الوحيد لغذاء الأسرة.
الدار مصدر فخر: إن وجود الدار لدى الإنسان في الوسط الشعبي وعلى الأخص إذا كانت كبيرة وجميلة وحديثة، فهي مصدر فخر وتباه، ونجد هذا التفاخر ينساب في الأغاني النسوية الشعبية وفضلاً عن كون الدار مسكناً للأسرة، فهي أيضاً تحقق أهدافاً أخرى، ومن هذه الأهداف إن الدار الواقعة على الطريق العام أو على مفترق الطرق هي المكان الذي يقصدها الضيف والعطشان.
ونسمع في أغاني نساء بدو النقب التفاخر بوجود الدار الواقعة على "الدربين" مفترق الطرق وقد ارتفع صوت "دق القهوة "، كدعوة مفتوحة لكل الناس للمرور بهذه الدار وتناول القهوة.
دامت عينك يا عابد
بانى بيتك ع الدربين
يللى قهوتك بتدق
وفناجيلك ع الصفين.
إن بناء الدار هو دليل على القدرة المالية، وبالتالي فإن إثبات هذه القدرة يتم عن طريق بناء بيت، و أبرزها كدعم للادعاء بتلك القوة.
لولانا مقدرين ما عقدنا عقود
لا جبنا من بنك ولا بعنا زيتون
وتظهر الدار الكبيرة والجميلة مصدر فخر في كونها تصلح لاستضافة "العسكر"، إن كلمة العسكر هنا ترمز لكل الحكام الذين تعاقبوا على أرض فلسطين، وكما هو معروف فإن أولئك الحكام الأجانب والمستعمرين كانوا يمثلون أشكالاً من القمع والتعسف تتجه دوماً لابتزاز الشعب وتجاوز حقوقه، وكان الشعب يثور عليهم ويحاربهم، ثم يضطر في بعض المراحل لاسترضائهم ومسايرتهم، وهل هناك ما هو أفضل من الدار الكبيرة لاستضافتهم؟.