اختلف كتّاب ومؤرخي سيرة الحزب النازي الألماني حول المقولة، منهم من اعتبرها فقرة وردت في نص المسرحية التي كتبها الشاعر الألماني النازي "هانس يوهست" وعرضت في مدينة برلين بالذكرى الرابعة والأربعين لميلاد زعيم النازية "أدولف هتلر". منهم من نسبها إلى قائد سلاح الجو الألماني الشهير "هيرمان غورنغ" أحد أبرز مساعدي هتلر. وبعضهم يدعي أن من قالها هو وزير الدعاية النازي المعروف "جوزيف غوبلز". بل أحياناً ينسب هذا القول إلى هتلر ذاته.
إنها العبارة الشهيرة "عندما أسمع بكلمة مثقف أتحسس مسدسي".
لن نكترث بشأن من قالها، الأهم هنا أن هذه المقولة تعكس أيديولوجية تسلطية، لا تعترف بغير القوة الجائرة لتمد سطوتها وتبسط هيمنتها. هي تعبير عن التزمت والتشدد الفكري، والإسهاب في المغالاة الأيديولوجية التي قد تكون جذورها دينية أو عرقية أو مذهبية أو فكرية.
لا يمكن فصل هذه الفقرة أياً كان قائلها، باعتبارها تهديداً واضحاً ومباشراً ضد كل من يختلف عنه فكرياً ومع أيديولوجيته، عما يجري في أماكن كثيرة بهذا العالم، خاصة في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط. بالرغم من مرور ثلاثة أرباع القرن على هزيمة النازية عسكرياً في الحرب العالمية الثانية، وتصفية قياداتها جسدياً في محاكمات "نورنبرغ" الشهيرة، لا تزال بعض الأنظمة العربية والشرق أوسطية تعتمد المقولة النازية. بل امتدت هذه الثقافة البغيضة إلى بعض الأحزاب والقوى والجماعات التي تستهدف الثقافة ورموزها. الفارق الوحيد أن غوبلز كان يمتشق مسدساً حول خصره، فيما القتلة الجدد لا يتورعون عن استعمال أبشع الأساليب في تصفية المفكرين والمثقفين المخالفين.
قائل تلك العبارة أدرك أن المثقف الذي يخالفه المعتقد، ويرى أن العنصرية والفاشية والدكتاتورية أعداء للقيم الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان، يشكل خطراً يستوجب التصفية. لا يزال هذا التهديد والعنف والتدجين قائماً ومتواصلاً ضد المثقف، وضد كل من يعارض سياسات بعض الأنظمة العربية، ولم يكن المسدس سوى إشارة إلى المعنى الأوسع للوعيد والترهيب الذي تعتمده السلطة السياسية كوسيلة لمعاقبة المواطنين المخالفين ودلالة على الاضطهاد والاعتقال والتعذيب والقتل. وإن كانت النازية تحرق وتطلق النار على رؤوس الناس، فإن ما يحصل في عصر النكوص الحضاري الحالي، لا يقل بشاعة بل إنه أكثر دموية وقبحاً.
دولة القمع
تمارس الكثير من الدول العربية، وعديد الدول في منطقة الشرق الأوسط، وأماكن أخرى في العالم، قدراً ما من القمع والقهر على الأفراد، وتبدو الشعوب الشرقية وكأنها تمتلك قابلية مرنة للخنوع، إذ أن معظم هذه الشعوب لا ترفض جرعات بحدود معينة من البطش والاستعباد من قبل الأنظمة القائمة، بل أكثر من ذلك، هناك أفراد وجماعات تقبل سياسة الإخضاع من قبل الدولة وتقوم بتبريرها. الكارثة حين نعلم أن هذا القبول بالقمع لا يرتبط بمستوى التعليم المرتفع أو التخلف العلمي للمجتمع، أو الإخفاق الاقتصادي أو الفشل السياسي للسلطة، ولا حتى بالتطور العلمي، لأن هناك دولاً تمتلك نظاماً تعليمياً يشهد له ومع ذلك خضع الناس فيها للبربرية العنصرية الفاشية مثلما حصل في ألمانيا. أيضاً هناك العديد من الأنظمة الدكتاتورية القهرية تمكنت من تأسيس دول متطورة ومتقدمة. لعل الأمر يتصل بالتجربة والذاكرة التاريخية لتلك الشعوب التي لا تمانع درجة ما من الاستبداد.
خبايا دولة الاستبداد
تلجأ الأنظمة القهرية في سعيها لبناء قلاع القمع إلى إيجاد القائد الرمز الذي تدور حوله فظاعة الاستبداد وتخشاه الجماهير، ثم تبدأ بفبركة حكايات عن حصافة وحكمة ورجاحة عقل الزعيم الألمعي الشجاع، وخدماته المبجلة للوطن، وتضحياته المشهود لها في سبيل رفعة الشعب وعزته. ويصبح الشغل الشاغل لوسائل الإعلام الحكومية والخاصة تغطية أخبار القائد الاستثنائي، ودوره التاريخي في خدمة الإنسانية. وتخصص الصحف مساحات للتمجيد بشجاعة الزعيم العظيم المقدام الذي يخشاه الأعداء ويقدره الحلفاء.
هكذا كان الحال منذ فراعنة ما قبل التاريخ ولغاية العصر الحديث. والحالات الاستثنائية القليلة التي فشلت فيها الدولة عن إيجاد رمز للقمع، أو حين تصاب صورة القائد المستبد بالشرخ لسبب من الأسباب، يلجأ النظام حينها إلى ممارسة القمع العشوائي دون أية ضوابط، في معركة ليست مع المخالفين فقط، بل مع الشعب كله، ومن هنا تبدأ مرحلة انهيار هذا النظام المتوحش وأدواته.
ثم يعمد النظام إلى ترسيخ فكرة الربط بين الحريات العامة والأمن العام، فيجري إلصاق وهم أن الحرية تعني دوماً الفوضى والخراب في عقول المواطنين، وأن من يطالبون بالحريات السياسية والفكرية هم أناس يتسببون بعدم انضباط المجتمع، وهذا يؤدي إلى أن تفقد الدولة سيطرتها على مقاليد الأمور، وبالتالي تصبح عاجزة عن توفير الأمن والأمان للناس. هذا الربط الخبيث تعتمده دول القهر عنواناً لتبرير تصرفاتها الأمنية الوحشية بحق البشر. هنا قلاع الاستبداد تستلهم في سلوكها القاعدة المقررة التي تُظهر أن الناس يمكن أن يتنازلوا عن بعض من حرياتهم العامة إذا لمسوا أن أمنهم مهدد.
ليس فقط في الدول النامية تنجح هذه الوصفة السحرية، بل حتى في الدول المتطورة يميل الناس إلى تصديق كذب السلطة والموافقة على خيارات قهرية استبدادية ضد دولة أو جماعة أخرى، بالرغم من معرفة الناس أن هذه السلطة ذاتها التي يقبلون بعنفها قد تنقلب عليهم وحشاً ضارياً في أية لحظة. وهذا شأن تراه في دول ديمقراطية كما هو في أنظمة دكتاتورية. حين تريد السلطة -أي سلطة- تكبيل الحريات -أو بعضها- لا بد أن تُشعر مواطنيها أن أمنهم صار موضع تهديد، كي يغض الناس النظر عن طغيان السلطة الشائن.
ماذا بعد من الخبايا في جعبة قلاع الاستبداد؟ حسنا هناك الكثير بعد. إذ أن السلطة تعتمد مبدأ ربط الزعيم القائد بالدولة ويصبح كلاهما شيئا واحدا، وتقوم وسائل الإعلام ومناهج التعليم والمهرجانات الخطابية والمناسبات الوطنية على فكرة أن لا فرق بين الرئيس والوطن. ثم تصبح بطانة الحاكم كل واحد منهم دولة، ويتحول موظفو الدولة كل واحد منهم إلى سلطة في موقعه، فترى أن كل من يمتلك سلطة ما في نظام قمعي ما هو دولة بذاته. فمن ينتقد الموظف من الناس يعتبر انتقاده فعلاً ينتقص من النظام. ومن ينتقد صاحب سلطة في النظام يتحول إلى مخرب للدولة، ومن ينتقد أحد رموز الدولة يصبح خائناً للوطن. هكذا حال الأنظمة الشمولية الدكتاتورية التي تعمل على إحكام سطوتها على كل شيء، بحيث يصبح صعباً على المواطن والمراقب التمييز بين بطانة الحاكم وبين مؤسسات الدولة، وبين الحاكم نفسه وبين الوطن. لأن القائد الزعيم وبطانته الحاكمة المتسلطة تقوم باستثمار كافة مؤسسات الدولة لخدمة مصالحهم الخاصة.
ثم تقوم بطانة الحاكم ورموز السلطة في التحكم بالمفاصل الرئيسية المهمة للدولة، ويتغلغلون في الهيئات التنفيذية وينتشرون في كافة الدوائر الحكومية، ومع الوقت ما تلبث أن تتشكل الدولة العميقة التي تهيمن على الدولة الحقيقية وتفرض عليها رؤيتها.
استلاب العقول
تلجأ الأنظمة الجائرة إلى محاصرة وعي المواطنين واعتقال عقولهم في صناديق تحدد شكلها ومساحتها الأجهزة الأمنية عادة، بمشاركة واضعي خطط اغتصاب السلطة من بطانة الحاكم. لا تترك دول القمع للناس أية مساحة للتفكير والتحليل الحر في سياق الأخبار والمعلومات التي يتم تداولها حتى لا تتشكل لديهم قناعات أو مواقف أو رؤى تخالف الموقف الرسمي للدولة. ممنوع على الناس قبول أية رواية حول أي شيء أو أي حدث في الدولة أو خارجها، سوى رواية النظام الذي يكون حريصاً على أن يحدد طريقة نظر المواطنين للأحداث.
هذا الأسلوب الاستلابي لا يرتبط فقط بالأحداث السياسية والأمنية، بل على الذاكرة أيضاً والتاريخ، الذي ترويه الدولة القمعية بما يتناسب مع الرواية الرسمية حتى يكون منسجماً مع معطيات الحاضر. لأن المخالفين في الواقع الراهن الذي يعتبرهم النظام أعداء للوطن، يحرص أن يظهروا كأنهم أحفاد للأعداء التاريخيين.
الفاجعة أنه حتى في الدول القهرية التي لا تقيم وزنا للدين، تقوم السلطة بتحديد المعايير التي تحدد نظرة وطريقة تعامل المواطنين مع الدين والأخلاق. وهي هنا لا تهتم بالعبادات والطقوس الدينية، بقدر اهتمامها على الأثر الهام الذي يخلفه الدين على البشر اجتماعياً وسياسياً. لذا فالسلطة تسعى إلى إحداث موالين دينيين يحمدون ويشكرون فضلها على العباد، وينشرون روايتها الدينية ورؤيتها وفهمها الديني، الذي يكون انعكاساً وامتداداً للرواية السياسية للسلطة.
في سعي أنظمة القمع لتبديد المفاهيم والتصورات والقيم والمعايير لدى المواطنين، وإعادة خلق مفاهيم جديدة تافهة وسطحية، ومعايير مركبة تصبح أحكاماً مع الوقت. تحرص هذه الأنظمة على إيجاد حلفاء وأعداء دوماً، إن كان على مستوى الدول والأحزاب والجماعات والمنظمات، أو إن كان على صعيد الأفراد مواطنين كانوا أم رعايا دول أخرى من مفكرين ومثقفين ومشتغلين بالشأن العام. يتم التركيز تعبوياً وإعلامياً ونفسياً على حكاية المواطن الصالح الشريف، المواطن الغيور المخلص. ويتم رسم وتحديد ملامح وصورة هذا المواطن البار المهذب من قبل خبراء نفسيين بكل عناية وحرص. في كل أنظمة القهر تكون صورة المواطن المستقيم هو الذي يهتم فقط بقضايا حياته الشخصية والعائلية والمعيشية، لا يهتم بأمور الشأن العام إلا إذا طلبت الدولة منه المشاركة في عمل ما. مواطن يبدي أقصى درجات التعاون مع أدوات النظام في كافة المواقع، وخاصة مع الأجهزة الأمنية التي تشجعه أن يكون عيناً يقظة على مصلحة الوطن. يكون مواطناً مدركاً أن بلاده مهددة دوماً من قبل الأعداء الداخليين والخارجيين، وأن وطنه يتعرض لمؤامرات تحيكها أطراف لا تريد الخير له، ولا بد له من أن يتبنى الحكاية الرسمية حول كل شيء، ولا يتابع إلا الإعلام الرسمي.
في مقابل هذه الصورة يوجد مواطن آخر، هو المواطن الشرير، الخبيث، الخائن، الفاسق، المخرب. ويقصد بذلك الوصف كل المواطنين العاديين الذين يحبون وطنهم، ولم يعتادوا على التطبيل والتزمير لرجال السلطة، لذلك فهم ببساطة استعصوا على النظام الذي لم يتمكن من تفتيت قناعاتهم، ولم يهز انتماءهم، ولم يستطع قولبة أفكارهم.
دولة القتل
تعتمد الدولة الاستبدادية لفرض سطوتها على المواطنين أدوات متنوعة مركبة وشائكة، منها ترسيخ صورتها في أذهان الناس على أنها دولة قوية وصلبة ومتماسكة، دولة قادرة على حماية الأفراد والمؤسسات والوطن، وتوفير الأمان للجميع، لذلك على الناس أن تغفر للسلطة أخطائها وزلاتها مهما كانت، وأن تقبلها وتجد لها مبرراً أيضاً. لذلك يتعامل النظام مع رجال الدولة مهما صغر شأنهم باعتبارهم أفراداً أكثر أهمية من كافة المواطنين مهما كانت صفتهم الأكاديمية أو الاجتماعية.
الموظفون الحكوميون يوفرون لك الخدمات، لذلك عليك أن تقبل أنهم في مرتبة أعلى منك، ويجب ألا ترفض حصولهم على الرشوة وقيامهم باختلاس المال العام. الشرطي والعسكري ورجل الأمن هم أفراد من المجتمع، لكنهم يوفرون له الحماية ويسهرون على أمنه، لذلك عليك وعلى المجتمع التعاون معهم وإخبارهم بما يقوله المخالفون. ليس هذا فحسب، بل يجب أن تتقبل أن هؤلاء الساهرين على أمنك سوف يحظون بامتيازات لن تحصل عليها أنت والآخرين، ثم بالضرورة يجب عليك أن تكون مقتنعاً أنهم يستحقون هذه الامتيازات، وأنه مطلوب منك تبريرها أمام من يعترض عليها.
عليك التسليم أن الدولة لا يمكن إخضاعها للنقد أو المحاسبة. لأن الدولة والنظام والسلطة والقانون يصبحون مع الوقت شيئاً واحداً في قلاع القهر. الدولة هي من يضع القوانين وتطلب من المواطنين احترامها وتنفيذها، وإن خالف أحد الأفراد هذه القوانين فإنه يتعرض للعقاب، أما إذا خالفت الدولة ذاتها هذه القوانين عبر أحد رجالها أو موظفيها، فإنها تقوم بذلك لضرورات الأمن والمصلحة العامة.
لا يقتصر الأمر على تبرير وتحليل الفساد المالي والإداري والرشوة والاختلاس واعتبار ذلك لزوم منفعة الوطن. بل إن الطغيان قد يصل إلى درجة القتل. هو قتل تقوم به الدول القمعية بذريعة أداء الواجب، والحفاظ على البلاد ودرء المخاطر عنها. لذلك نرى أن دول الاستبداد تقتل عدداً من البشر داخل حدودها وخارجها، أكثر كثيراً بما لا يقاس من عدد الناس الذين تقتلهم الجماعات والمنظمات الإرهابية، التي تدعي هذه الدول محاربتها.
إن ماكينة القتل ترتكز على دجل وشعوذة تجعل من اللباس الرسمي الذي يرتديه رجل الدولة إن كان عسكرياً أو شرطياً أو رجل أمن ومخابرات، بمثابة مطية للقتل. حين يقوم المواطن بارتكاب جريمة قتل فهذا فعل يستوجب المحاسبة، لكن حين تقتل الدولة القهرية عبر أحد رجالها أو أجهزتها فهي فقط تقوم بواجبها. حين يرتدي رجل الدولة زيه الرسمي لا تكون تصرفاته تحتكم للقانون، لأن إشاراته وأقواله وأفعاله هي قانون بذاته في أنظمة القمع.
يحظى أصحاب الثياب الرسمية داخل قلاع الاستبداد بما يشبه الحصانة الدائمة لعدم تعرضهم للمحاسبة مهما فعلوا، أصابوا أم أخطأوا. وعلى الدوام هناك أعذار ومسوغات لتصرفاتهم تبرر ما يقومون به. هذه الصورة النمطية عن رجل الأمن ورجل السلطة يتم طبعها في عقول الناس بالدول الجائرة، إلى حدود أن البشر لم تعد تشعر بالإهانة إذا تعرضت لتصرفات أو لأفعال مشينة من قبل أصحاب الملابس الرسمية، بينما تنفعل غضباً فيما لو تعرضت لنفس الموقف من أناس عاديين. إن رغبت في رؤية الوجه الحقيقي لدولة القمع ولرجالها وأدواتها وأجهزتها الأمنية القهرية، ما عليك سوى أن تخلع الزي الرسمي عنهم، أن ترفع منهم صفة رجل الدولة، وسوف ترى أنهم ودولتهم لا يختلفون بشيء عن أية عصابة أو ما فيا أو جماعة إرهابية.
صناعة الخوف
تعمل الدكتاتوريات العسكرية أو المدنية على أحد مبادئ الفيلسوف الإيطالي المولود في عصر النهضة "نيكولو مكيافيلي" الذي حدد القاعدة الماسية "من الأفضل أن يخشاك الناس على أن يحبوك، إن لم يكن بمقدورك تحقيق كليهما". لذلك فهي تقوم بصناعة هذه الخشية التي تجعل الشعوب في حالة من الخوف الدائم. هذا يتحقق عبر وسائل متعددة منها إيجاد واستدعاء أعداء للدولة من الداخل والخارج. حين يخاف الناس يكونون مستعدين لقبول قرارات تمس حرياتهم الشخصية، وأحياناً تمس حياتهم واحتياجاتهم الأساسية إن أقنعتهم السلطة بقدوم خطر يتوعدهم. وهكذا تقوم هذه الأنظمة بتمرير أخطر وأهم قراراتها وقوانينها مستغلة خوف الناس من أعداء قامت هي بصناعتهم، بهدف خلق تهديد مرعب وغير مفهوم.
تستحدث دول القهر شبكات خاصة للقمع والاعتقال والتعذيب والقتل خارج الإطار القانوني، بعيداً عن المؤسسات الرسمية. حيث يكلف النظام أحد أجهزته الأمنية بتأسيس شبكة سرية من المعتقلات، يتم فيها بصورة غير شرعية سجن العديد من الناس الذين يتعرضون لأبشع أنواع التعذيب الوحشي، وغالباً ما يتم قتلهم بعد الحصول على معلومات منهم، ويتم في هذه السجون تنفيذ حملات إعدام جماعي للمخالفين.
وكأن كافة الأجهزة الأمنية القمعية التي تتبع دول الاستبداد لا تكفي لنشر الرعب في نفوس المواطنين، حتى تقوم هذه الدول بتأسيس جماعات شبه عسكرية ومسلحة، تناط بها مهمة ترويع البشر، ويتم تكليفها بأعمال الاغتيالات وتصفية المعارضين، تعمل بظل حصانة قانونية من الملاحقة. ثم تقوم السلطة بإنشاء جهاز أمني سري -قد تختلف التسمية من بلد لآخر- دوره أن يجعل الجميع يشعرون أنهم مراقبون. يقوم بمهام التجسس على هواتف وتحركات وأفعال المواطنين وحتى كلامهم، بذريعة الحفاظ على الأمن القومي للبلاد.
ثم تقوم هذه الأنظمة باختراق كافة الأحزاب السياسية والجمعيات والمنظمات والهيئات والنقابات والاتحادات والأندية، تخترق كل شيء حتى جماعات رعاية الحيوان. تخترق المقاهي والحارات الشعبية ودور العبادة والمؤسسات التعليمية. الغاية أن يعلم الجميع أن كل شاردة وواردة في الدولة تحت سيطرة أجهزتها الأمنية.
تكلف دولة الاستعباد أحد أهم أجهزتها الأمنية لوضع قوائم تتضمن أسماء المشتبه بهم، من مخالفين ومعارضين وكل من وجّه انتقاداً واحداً بلحظة حمية ضد النظام. إن دخل أحدهم القائمة فلن يخرج منها مطلقاً. ولا تتفاجأ إن علمت أن هذه القوائم تضم أسماء مثقفين ومفكرين وأكاديميين بارزين. غالباً يتم منع هؤلاء الأشخاص من السفر، ويحرص النظام القمعي أن يبقيهم في حال من التوتر الدائم باعتبارهم مرشحين للاعتقال في أية لحظة.
ولكي تتمكن دول الاستبداد من إحكام الهيمنة على الناس وتصنيع الرعب، لا بد لها من السيطرة على عقول المواطنين والتحكم بها، وهذا لن يتم إلا من خلال بسط سطوتها على وسائل الإعلام وفرض روايتها الرسمية الوحيدة. إن الحقائق هي أكثر ما تخشاه أنظمة الاستبداد، لذلك لا حقيقة سوى تلك التي تصدر عن النظام. حتى الصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام يتعرضون دوماً للاعتقال إن كانت لديهم قصة غير تلك التي يرويها النظام. حتى في دول تحظى بهامش من الديمقراطية تلجأ الدولة إلى تشريع قوانين تقيد عمل الصحافة والإعلام بذريعة ضرورات الأمن القومي.
من جانب آخر تستهدف دول القهر الرموز والشخصيات العامة المخالفة، من أكاديميين ومفكرين وفنانين ورياضيين ورؤساء أحزاب ورجال دين. والرسالة هنا جعل الأفراد يدركون أن الجميع مهدد وعرضة للاعتقال، وأن لا أحد فوق سقف مصلحة السلطة.
الأقبح من هذا هو قيام هذه الدول بإلصاق تهم الخيانة والعمالة والتجسس والتخابر بكل من يخالفها ويعارض سياساتها ومواقفها ورؤيتها. الناس لا يمكن أن تتعاطف مع خائن، لذلك تبدو التهمة بمثابة الحكم بالإعدام على من تلصق به، من المعارضين السياسيين والنشطاء وسواهم.
هل تكتفي دول الطغيان بكل ما سلف؟ قطعا لا. فهي لا زالت تبتدع وتبتكر أساليب جديدة لصناعة الخوف وتصنيع الرعب في أنظمة لا تخجل من التبجح وهي تتحدث عن سيادة القانون. لكن أليست الدولة هي من يضع القوانين؟ نعم إنها هي. وتُصيغها كما تشاء، وتخترقها كما تشاء، وتحاكم المواطنين بذات القوانين. رغم كل ذلك فإن هذه الأنظمة الجائرة تلجأ إلى إعلان حالة الطوارئ، بهدف تمرير سياساتها وأية إجراءات تتخذها، وتجعل منها وضعاً مُستداماً قد يستمر لعقود.
الاستثناء العربي
في وقت تتطور فيه الأمم وتزدهر، وتنعم بالديمقراطية وتُصان حريات الشعوب العامة، ما زالت النخبة العربية من مفكرين ومثقفين منشغلين بالنقاش الذي تسبب للأمة العربية بالشقاء، لأنه جدال بين الفكر وذاته. فيما الاستبداد ينحسر في بقاع الأرض، يتمدد في أرض الخمر والأمر. الكارثة أن هذه الأمة العربية ابتليت ببعض من النخب التي لا زالت جادة في نقاش قضية حاجتنا إلى الديمقراطية، بينما الآخرون من المثقفين يتلذذون بنقاش شكلي وسطحي حول إن كان الإصلاح سوف يتحقق من داخل الدول العربية أم بفعل تدخل خارجي؟ هل يحتاج العرب إلى إصلاح الخطاب الديني أم لا؟ هل ينبغي القيام بإصلاح، أم أن الراهن العربي يحتاج تغييراً جذرياً وثورات تقلب كل شيء فوق رؤوس الأنظمة القائمة؟ هل يكون الإصلاح والتغيير جماهيرياً أم بواسطة النخب؟ من أين نبدأ في الإصلاح، من أسفل الهرم أم من رأسه؟
هكذا يتواصل النقاش وتضيع الأسئلة، ولا أحد يتصدى للمقاربات العقلانية الموضوعية العلمية المنهجية، التي تؤسس لتحول ديمقراطي في العالم العربي، ينهي عقوداً من الاستبداد.
هذا الوضع يؤشر على ما يبدو إلى حالة من التعوّد أو التآلف غير الواعي يُظهرها الناس نحو الاستبداد والقهر بكافة أنواعه ومستوياته. وهذا ما يثير السؤال الكبير: متى يحين الوقت لبتر هذا الطغيان؟ بعبارة مختلفة، هل ما زلنا نحتاج درجات محددة من القمع في بلداننا؟ هل ما يروّج له المثقفون الزنادقة من أن الشعوب العربية ما زالت غير مهيئة للمفاهيم الديمقراطية صحيحاً؟ حسناً. إن تمكنت الشعوب العربية من الثورة على أنظمة الاستبداد السياسي، من يجرؤ على مس الاستبداد الديني والعقائدي والفكري، وكذلك الاستبداد الثقافي والاجتماعي الذي تمارسه جهات متعددة؟ كيف يكون الإصلاح والتغيير ولدينا بعض المثقفين الذين يدعون للديمقراطية دون الحرية، ولدينا معارضين يختزلون النظام الديمقراطي فقط في التداول السلمي للسلطة، أو في التعددية السياسية والحزبية؟
ما من أدنى شك أن غالبية الدول العربية تعتمد نموذجاً غير ديمقراطي للحكم، وأن الاستبداد هو النمط السائد في تلك الدول، على الرغم من انحسار الطغيان في عدد من مناطق العالم. هذا الاستثناء العربي البغيض يشكل انسداداً أمام موجة التحولات نحو الديمقراطية التي اكتسحت الكثير من دول العالم خلال ربع قرن الأخير، في كل من أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، رغم التنوع العرقي والإثني والثقافي في تلك الدول، ومنها دولاً أفريقية كانت لفترة قصيرة نسبياً تُوصف بالبدائية. لكن يا سبحان الله صمدت الأنظمة العربية العتيدة أمام كافة محاولات التغيير والتحول والإصلاح، وبقيت مقاومة لجميع الدعوات والحراك الذي ينادي بالديمقراطية والحرية. كل ما فعلته أنظمة الاستبداد العربية أنها لجأت إلى سلاح المناورة والانحناء للعاصفة وللكذب، وأشهرت سلاح الإرهاب والحفاظ على الأمن القومي، وسلامة المجتمع، حماية الأقليات العرقية، ألصقت تهم الخيانة بالمطالبين بالتغيير، أشهرت كافة أسلحتها الدينية والقومية والثقافية والاجتماعية والأمنية والإعلامية كي لا يحدث أي تحول ديمقراطي، وكي تمنع أي تغيير من الاقتراب نحو قلاع الاستبداد.
نعم نجحت -للآن- معظم الأنظمة العربية في اتقاء "شر" الإصلاح الديمقراطي، لكنني أعتقد أن شرط التغيير قائم، وإمكانية التحول هي في المرحلة الأخيرة من التبلور والنضوج. المنطقة العربية ليست استثناء في السيرورة التاريخية، وليست ذات مكونات ثابتة، ولا هي تمتلك الحصانة الفطرية المقاومة للتغيير، ولا هي كما يحلو لبعض المفكرين المتوهمين تجمعات غريزية وبدائية، لا تاريخية ولا تطورية.
إن الدول العربية عبارة عن مجتمعات شبه منغلقة ومحافظة. من أبرز سماتها الركود حد التكلس، فهي لا تتوفر على ديناميكية فكرية أو ثقافية، والعلاقة بين حركة الفكر وحركة المجتمع مصابة بالخلل. كما أن الفلسفة بثوبها العربي لم يشتغل عليها أحد، ولم تتفاعل أفكارنا و-فلسفتنا- مع أفكار وفلسفة الآخرين من خارج المنطقة العربية والإسلامية، لذلك تأخرت خطانا ولم نتمكن من اللحاق بقافلة الحضارة العالمية، ووجدنا أنفسنا في عزلة استمرت لعقود طويلة مريرة.
احتارت بهم السبل
محير أمر العرب الانتقائيون الذين يقبلون استيراد رؤوس الأموال للاستثمار في بلدانهم، ويستوردون التكنولوجيا الحديثة، السلاح، السيارات، الأدوية، الملابس والأحذية والعطور، يستوردون كل شيء حتى الأغذية، لكنهم يرفضون دخول الأفكار والمعارف والعلوم والفلسفة والنظريات إلى أوطانهم.
في المشهد العربي الراهن يتعايش بغرائبية جنباً إلى جنب كل من التخلف والتقدم، الجهل والعلم، الفوضى والنظام، التراث والمعاصرة. هذه هي سمات المرحلة الانتقالية، وهو مؤشر على اقتراب التحول، ودليل على أن القديم قد بدأ فعلاً في التغير، لكن الجديد القادم ليس متبلوراً تماماً بعد، ولا يمتلك كامل الجهوزية ليحل مكان القديم. مما يعني أن درب التطور والتقدم العربي سيكون طريقاً طويلاً وشاقاً وبطيئاً ومكلفاً.