السبت  23 تشرين الثاني 2024
LOGO
اشترك في خدمة الواتساب

غاسل صحون يقرأ شوبنهاور: نص روائي خارج عن المألوف. بقلم: يوسف خليفة

2019-03-27 02:58:53 PM
غاسل صحون يقرأ شوبنهاور: نص روائي خارج عن المألوف.
بقلم: يوسف خليفة

رواية "غاسل صحون يقرأ شوبنهاور" للروائي الفلسطيني محمد جبعيتي، تقع في 255 صفحة من القطع المتوسط، وتتكون من 24 فصلًا، صدرت عن دار الآداب في بيروت عام 2019م.

تحت ما تبقى من سماء فلسطين، استطاع جبعيتي أن يخلق روايته الثالثة، وبحكم قراءتي لجميع منجزاته الأدبية والتي تميزت بطرح مواضيع جريئة وصدامية، بشكل مباشر وغير مباشر، يتّضح فيها المحاولة الجديّة لتحطيم المّسلمات والدارج جدًا، أجزم أن جبعيتي نجح بطريقة أو بأخرى، في أن يخرج عن المألوف من المنجز الفلسطيني، والذي اتّسم بالركض في مساحة ضيقة، تتشربُ المواضيع المُكررة ذاتها: الاحتلال، الظلم، القمع، واقع الأسير ومعاناته ...الخ.

لقد خرج من هذه الدائرة، بعملٍ مدهش و قَلق وصِداميٍ، بالدرجة الأولى مع الواقع والمتعارف عليه، فشكَّل أنموذجًا في كسر المألوف، وفتحَ النوافذ على مساحاتٍ جديدة، بسردٍ متقن ، ولغةٍ شاعرية يَنساب وقع كلماتها بالدهشة والتشويق. سارت أحداث الرواية على شاكلة زمنٍ مُتشظي مُفكك، وآخر سلسٍ كلاسيكي فيه نكهة الراديكالية.

تدور أحداث الرواية في عدة مدن: رام الله وبيرزيت وأريحا وبيت لحم ونابلس.

في أجواءٍ ومناخاتٍ متنوّعة، بدءًا بالواقع الغرائبي والغامض و انتهاءً بالسوريالي والمُتخيل.

يتميّز النص بثقل مُكثّف من الترميز، والذي يفتح الآفاق لطرحِ التساؤلات. يبدأ ذلك من العنوان "غاسل صحون يقرأ شوبنهاور" إذ يُشيع اسم الفيلسوف شوبنهاور حالة من السوداويّة العبثية.

وجاء اسم بطل الرواية "نوح" ليعكس ترميزًا دينيًّا، ثمَّ لقبه كافكا رام الله نسبة إلى الكاتب الألماني السّوداوي أيضًا، الذي تدور حكاياته حول الكوابيس والحشرات.

يبدأ سردُ الرواية بصيغة المتكلم، ويدخل في تركيب الرواية سيل غزير من القصص والحكايات عاشها البطل والتقطها من الشارع الفلسطيني، فكانت مزيجًا من الاعترافات الشخصية، والتأملات الفلسفية، كما عرض يومياته بشكل فانتازي، حيث يختلط الواقع بالمتخيّل، تخلَّلهُ حضور الجانب النفسي، وحضور الحلم الذي جسّد وجود الشخصية، وكَشف عن اختلاجات عقلها الباطني، إذ يطرح سرد القصص نظرته الذاتية إلى الواقع وتصوراته عنه.

تبدأ الرواية بإهداءٍ للعمالِ والمهمشين، والعاطلين عن العمل، والذين لا يملكون صفحات على الفيس بوك، وإلى الذين يخافون من العتمة، وإلى العاديين جدًا....الخ.

ثمَّ توطئة "إلى القارئ" يقول فيها :"إذا لم تقرأ بدافعٍ قوي ومقنع، وإذا كنت تعتقد نفسك نبيَّ هذا العصر أوّ أحد قدّيسيه فلا تقرأ".

"نوح" الشخصية الرئيسة، وهو كاتب شاب، تخرّج من جامعة بيرزيت، وبسبب الأوضاع الاقتصادية السيئة، لم يجد عملًا يليق بشهادته الجامعية، فعمل في غسل الصحون، ووصف نوح العملَ " بأنه كان وسيلة ناجعة للخروج من قوقعة الذات. عدم إيجاد الوقت حتى للتفكير في الأمور البسيطة، والالتفات حول لقمة العيش التي كنّا نبحث عنها، في كل مكان نظيفة وغير مغمسة بذلٍّ."

وفي المطعم تعرف على الأستاذ مطر، والذي كان مناهضًا للكتابة فوصفها بالمشروع الفاشل، كما تعرّف على الفتاة الشقراء التي تركت العمل بسبب محاولة صاحب المطعم التحرش بها.

ثمَّ هرب نوح من العمل بالمطعم، فعمل في السوبرماركت عتالًا، وأمضى فترة عمله في المخازن، وهناك تعرف على أبو نسيم وراجح الذي يعمل من أجل أخوته و والدته المريضة، ثمَّ عمل مُدرّسًا براتب قليل.

نوح شخصية عبثيّة، تجسّد جيلًا كاملًا ضائعًا وحائرًا، لكنه عنيد يبحث عن ذاته وهويته الخاصّة، يقول نوح" ضيّعتُ نفسي في الحياة لأجدها من جديد، اعتقدت أنَّني، بهذه الطريقة، سأفلتُ من مصيدة الحياة، وأولد أكثر من مرة، أتجدد وأنهض من تحت الرماد. عندما يكون العالم شديد الازدحام، أجدني وحيدًا ومُنغمسًا في سؤال الذات". كما أنه يحب المغامرة والقراءة، يدخل في دوامة من الصراعات محاولًا فهم الذات والعالم، يبحث عن الحب والحرية، يسخر من اليأس والواقع المؤلم، يحطّم مسلمات رجال الدين وانتهازيتهم.

تتميز الرواية بواقعٍ سوداوي، وسردٍ يتسارع نبضهُ القلق، حيث يأخذ قلب القارئ، وعينيه. تسير أحداث الرواية مثل ضربٍ من الجنون والهذيان ما بين الواقعي والمتخيل، حيث يتحدث نوح مع البوم، وتسقط نساء جميلات من السماء، وتسقط غربان بكميات كبيرة على الارض، وهناك صخرة حديقة الاستقلال التي ندخل من مغارتها لعالمٍ موازٍ لعالمنا، وعملية قتل الجنود التي لم يعرف نوح كيف نفذها، إذ وجد آثار من الدم على ثيابه ويديه، واحتار هل كان يحلم أم أن أحلامه استحالت إلى حقيقة؟

في النهاية، يتحرر نوح من الواقع السّوداوي، بطريقة متناقضة مع شخصية شوبنهاور إذ يقول" أدركتُ أني سأعيد المسرحية على المسرح ذاته، ولم تكن بي طاقة للإعادة. قلتُ في نفسي إنها حياة مكررة معادة. رأيتُ صخرة سيزيف تتدحرج من أسفل الجبل، وكان عليَّ أن أحملها من جديد، وأعيد المحاولة. لكن الحياة دفعتني إلى حلبة الرقص، الحياة حلبة رقص، رأيتني أتحول إلى راقص ضَحوك، أمام جمهور غفير. عوضًا عن حمل الصخرة إلى قمة الجبل. وجدتني أراقصها."