لعل في تراجع الحركة الوطنية الفلسطينية، وتردِّي خطابها، وانفصام بلاغتها اليوم... ما يستدعي استنطاق تجارب لافتة لقادة غيَّبهم الاستشهاد أو أقصاهم الأسر. ولعل في تجربة القائد الوطني أحمد سعدات ما يمنح الأمل في التجاوز والخروج. فقد قضى، وهو المولود في العام 1953 لعائلة لاجئة من دير طريف-إحدى قرى الرملة المحتلة في العام 1948، أكثر من ربع قرن في مقارعة العدو الصهيوني في الأسر. وهو يقارب فلسطين من صميم ظلم العزل الانفرادي وظلمته، بنأي تام عن الواقعية السياسية وملابسة تامة للواقعية الثورية. وقد آثرت، هنا، فحص مفهوم «التشدد الثوري» لدى سعدات، بوصفه فضيلته الإيديولوجية وبوصلته الوطنية، عبر قراءة تنافذية لفكره الذي يبثه على شكل رسائل، وخطابات، وحوارات، وكتب.
فبعد انتخابه أميناً عاماً للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في 3 تشرين الأول 2001، وإثر خطاب «العين بالعين، والسن بالسن، والرأس بالرأس» بُعيد اغتيال الشهيد أبو علي مصطفى في 27 آب 2001، وُصِِفَ سعدات بأنه «متشدِّد»، وأنه «يردد خطاب السبعينيات» إثر دعوته لتصعيد انتفاضة الأقصى، وتحديد برنامج وطني للمشاركة في السلطة الفلسطينية يضمن تحقق العودة والدولة والقدس وتقرير المصير. وفي ردِّه، قال سعدات: «أنا فلسطيني، وإذا كانت برامج الجبهة الشعبية متشددة، فأنا متشدد، وسنوات السبعينيات كانت ثورة، والمقاومة في مجدها، ولم تكن عندنا إحباطات». لكنَّ تجربة الأسر، وما تؤمِّنه من «تفرُّغ» للتأمل في التاريخ الفلسطيني، الذي يدرِّسه سعدات للأسرى الملتحقين بجامعتيْ القدس في الضفة الغربية والأقصى في قطاع غزة، والقراءة والكتابة، ومتابعة العمل التنظيمي... كلها رسَّخت قناعته «بصوابيَّة رؤية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الأيديولوجية والسياسية والكفاحية، ومواقفها من القضايا المفصلية التي يدور حولها الجدل: كالمفاوضات والمصالحة وآفاق الخروج من المأزق الفلسطيني الراهن».
يشخِّص سعدات الصراع بين مشروع وطني ديمقراطي فلسطيني على أسس المنطق التاريخي للتحرر الإنساني، في مواجهة مشروع عدو هو استعمار استيطاني صهيوني على أسس المنطق التاريخي للإمبريالية العالمية وما خلفها من رجعيَّات عربية، وحتى فلسطينية تتذرع بالواقعية السياسية. وبموازاة هذا التشخيص «المتشدِد»، الذي اشتهرت به أدبيات اليسار الثوري منذ «كتائب الفداء العربي» وحتى «كتائب أبو علي مصطفى»، لم يتغيَّر شكل المقاومة، وما ينبغي له، لأن المشروع الصهيوني لم يتغيَّر، وأشكال قمعه، وحاضنته الإمبريالية، والمتواطئون معه من الرجعيَّات العربية، والفلسطينية... كلُّها لم تتغيَّر، بل ازدادت صلفاً ووحشيَّة.
وبذا، فإنَّ سعدات يتعامل مع المقاومة الشعبية، بواقعية ثورية، ويقاربها على نحو مشابه للقائد الوطني مروان البرغوثي الذي صك مفهوم «المقاومة الشاملة». فسعدات يعتقد أنَّ «طرح المقاومة الشعبية كخيار نضالي لا يستدعي المفاضلة بين مختلف أشكال النضال وأساليبه، وهذا ما أكدته تجارب ثورات الشعوب. وحصر المقاومة الشعبية في إطار النضال السلمي يفرغها من مفهومها الثوري، فالانتفاضة الشعبية الفلسطينية الكبرى كانت نموذجاً للمقاومة الشعبية، وبوصلة لكوكبة من أشكال وأساليب المقاومة المتميزة: السلمية، والعنيفة، والجماهيرية، والفصائلية، والاقتصادية، والسياسية، والثقافية... أما التذرُّع بالمقاومة الشعبية السلمية وشعار سيادة القانون ووحدانية سلاح السلطة، فليس أكثر من ذرائع لتبرير مطاردة المقاومة والاستجابة لإملاءات الاحتلال الأمنية، فلا معنى لسيادة القانون إذا تناقض مع منطق شعبنا وحقه في مقاومة الاحتلال، ولا خير في وحدانية السلاح إذا لم يكن موجهاً إلى صدور الأعداء».
وعلى الرغم من مأساوية احتجاز القائد سعدات، من قبل السلطة الفلسطينية ابتداءً، بتاريخ 12 كانون الثاني 2002، والتي يمكن الاطلاع على تفاصيلها عبر موقع حملة التضامن الدولية مع القائد أحمد سعدات، إلا إنه لا زال يتمتع بخطاب وحدوي لافت لا اتهام فيه ولا تخوين، ويمعن في تعرية النظام الاستعماري الصهيوني والمتواطئين معه. يصف سعدات تجربة «السجن الدولي» في أريحا، والتي قادت إلى أسره لدى الصهاينة، منذ 14 آذار 2006 وحكمه بالسجن ثلاثين عاماً، بالـ«خطيئة»، التي تواطأ فيها الأمريكيون والبريطانيون كالعادة، مع الصهاينة، ذلك أنَّهم كانوا الأداة الإسرائيلية، والفلسطينيون، الذين لم يستخلصوا العبر، كانوا ينفذون الأوامر وحسب. يقول: «لقد أبرزت تجربة الاعتقال تحت الرقابة البريطانية-الأمريكية، عمق التشوهات التي ألحقها منهج أوسلو بالوضع الوطني الفلسطيني، إذ جعلتني اتفاقية أريحا وديعة للإسرائيليين في سجن السلطة وبضمانات أمريكية، وهذه الوديعة استردَّتها حكومة الاحتلال عندما احتاجت إلى توظيفها... كما كشفت الغطاء عن مقولة «الحماية»، الاسم الحركي للاعتقال السياسي ولرضوخ السلطة للإملاءات الأمنية الإسرائيلية ».
وأما «المصالحة»، التي ابتكرتها سلطتا أوسلو في رام الله وغزة، فيعتقد سعدات أنها ليست شأناً فلسطينياً خالصاً وإن دلَّت على الأزمة الفلسطينية على وجه الحصر، بقدر ما هي شأن إقليمي ودولي، إذ ترتبط، عضوياً، بما صار يعرف بـ «صفقة القرن» الهادفة إلى تصفية القضية الفلسطينية، عبر «أداة» الرباعية العربية «التي تهيمن على القرار العربي الراهن» تحت سقف «المبادرة العربية، 2002» الهادفة «احتواء القيادة الفلسطينية، ومصادرة قرارها السياسي الذي لم يعد مستقلاً» لصالح الولايات المتحدة الأمريكية، شريكة إسرائيل الكبرى. وفي ظل إعلان الرئيس الفلسطيني عن فشل خيار المفاوضات بمقولته الشهيرة «رضينا بالبين والبين ما رضي فينا»، وإن لم يصل الرئيس الفلسطيني ولا غيره من الزعماء العرب، بعد، إلى جذريَّة السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، بسحب «المبادرة العربية» نهائياً، والعودة إلى جادة الصواب المقاوِم، وبخاصة بعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية، على لسان زعيمها الأرعن، الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وبالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل، ونقل سفارتها إلى القدس... يطرح سعدات أسس برنامج وطني موحَّد.
يستند هذا البرنامج الاستراتيجي على ثلاثة أركان: أمميٌّ، يقتضي نبذ المفاوضات، التي لم تستعد حقاً ولم تؤسس دولة، والاشتباك السياسي في المحافل الدولية لتوثيق عُرى الاعتراف العالمي بفلسطين وحقوق الفلسطينيين، ونزع ما تبقى من شرعية عن «إسرائيل»؛ وقوميٌّ، يعيد الاعتبار إلى البعد العربي للنضال الفلسطيني بتوسيع شبكة التواصل مع القوى الشعبية العربية المقاومة للتغلب على الوهن، الذي بلغ حدَّ الشلل والتواطؤ التام، مع العدو الصهيوني من قبل الرَّسميات العربية؛ ووطنيٌّ يجعل التناقض الرئيسي مع الاحتلال الصهيوني، ضمن برنامج مقاومة شاملة، في فلسطين التاريخية والشتات. لكنَّ الركن الثالث هنا يستحيل تحقيقه دون إنهاء الانقسام، والتحرر من «لاهوت المصالحة»، ودون حشد كافة مكوِّنات الحركة الوطنية الفلسطينية تحت لواء منظمة التحرير الفلسطينية بعد تفعيل إطارها القيادي وإدماج فصائل العمل الوطني الإسلامية فيها استناداً إلى المرجعيات الوطنية من «وثيقة الأسرى للوفاق الوطني، 2006» حتى «اتفاق الشاطئ، 2014» ، وتطبيق مقررات «المجلس المركزي، 2015» بإلغاء العقوبات المفروضة على قطاع غزة، وإطلاق سراح السجناء السياسيين، ووقف التنسيق الأمني، بالتزامن مع برنامج تنموي قادر على مواجهة الحصار الاقتصادي، وبخاصة على قطاع غزة، وذلك بعد الاتفاق على «الفصل الوظيفي الضروري بين السلطة والمنظمة باعتبار أن الأولى وظيفتها إدارة شؤون شعبنا وتعزيز صموده، والثانية هي الكيان السياسي لشعبنا وقائدة نضاله الوطني ومرجعيته العليا»... الأمر الذي بات ضرباً من التفكير الحالم بعد الانعقاد الفرجوي للمجلسين الوطني والمركزي، وتعيين اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية من قبل رئيس السلطة في العام 2018.
في كتابه «صدى القيد» لا يكتفي سعدات بتدشين دليل لافت لقراءة «العزل» في سجون الاحتلال الصهيوني يزاوج فيه باقتدار بين التجربة والاختصاص، بل يتوسَّل تجربة الأسر ويوظِّفها للتَّعبئة الوطنية التي يصبغها «التشدد الثوري»، ويحرص على عدم الظهور، إلا لماماً، بقناع «ضمير الغائب» في حالة عزَّ نظيرها من إنكار الذَّات، على الرغم من أنَّ الكتاب بكلِّيته صادر عن تجربة شخصية مُرَّة في الأسر، ويمكن قراءتُه، نظرياً، في أربعة محاور: معرفيٌّ، ووصفيٌّ، وسِيَرِيٌّ، وتعبويٌّ.
المحور المعرفيٌّ، يصف فيه سعدات العزل كإحدى سياسات الاحتلال الفاشية للتطهير العرقي التي تستهدف تدمير البنى السياسية والاجتماعية والثقافة والنفسية للفلسطينيين أنَّى كانوا، وبمنهجية حربية؛ فيما يحمِّل مسؤولية استمرار هذه السياسية للنفاق العالمي، والبكم العربي، والانقسام الفلسطيني. وفي «إطار تاريخي عام لسياسة العزل»، يذكِّر سعدات بأن السجون هي أداة استعمارية، تواصلت، كبنى تحتية وسياسات ونظام عقوبات وممارسات، في الحقب الاستعمارية المتوالية من أتراك، وإنجليز، وصهاينة، لقمع المقاومة الفلسطينية. وعلى الرغم من تاريخ المعاناة في السجون الصهيونية، إلا إن بطش العدو في أقسام العزل ولَّد مدارس قيادية مؤثِّرة في صنع القرار الوطني الفلسطيني. وفي بحثه لـ«سياسة العزل قبل التشريع والتوسيع» و«الغلاف القانوني لتشريع سياسة العزل»، يرسم سعدات جينيالوجيا عزَّ مثيلها للعزل على المستويات التاريخية، والسياسية، والقانونية، مدعومة بحالات تمثيلية لافتة.
وأما المحور الوصفيٌّ، فيعرض لـ «نماذج من أقسام العزل»، و«مقومات صمود الأسرى المعزولين»: الانفرادي القصير، والجماعي، والانفرادي المفتوح. ثم يقدم وصفاً للمعمارية الفاشية لأقسام العزل وزنازينه، من حيث موقعها الجغرافي، وبنيتها، وظروفها الاعتقالية، وإدارتها، ومحاكمها، والخلفيات السياسية للأسرى الفلسطينيين، والجنائية للسجناء اليهود. ويؤكد سعدات أن هذه الأقسام الرهيبة، وخاصة عزل «السينوك» الذي يعتبر قبراً بكل المعايير، صمَّمها معماريون ومختصون نفسيون ومجرمو حرب لكسر إرادة الأسير ونزع إنسانيته وعزله، ليس عن بقية الحركة الأسيرة وحسب، بل عن البشر، والطبيعة، والأحلام، ومكونات الحياة «السوية» في السجن... ذلك على الرَّغم من مقومات الصمود: الفردية، والوطنية، والأممية التي يغدو فيها الأسرى متساوين في قيم المقاومة الإنسانية للقهر.
ويستعرض المحور السِردِيٌّ تجربة سعدات ورفاقه في «متفرقات من حياة الأسر»، «ينوِّه» سعدات بـ«طرائف» تجربته التي تتوزَّع بين العبث والسوريالية فيما اجتمع في الأسير الفلسطيني من صبر، ومجالدة، وثقافة، ومعرفة بقوانين العدو، ومنطق تنفيذها، وحقوق، وقدرة على الحوار في مواجهة جلاد أقرب للآلة من البشر. ثمة ما يحيل إلى مفارقات كافكاوية تتجاوز ما ورد في «مستوطنة العقاب»، تستهدف كسر سواء الأسير الاجتماعي، وإغراقه في عبث اليومي. هنا، يبرز سعدات مناضلاً منخرطاً في تجارب حركته الأسيرة في أدق تفاصيلها، إذ يستجلي أكثر جوانب الإنسانية إنسانيةً فيما تُحدثه غربة السجن من تعاضد لمن يجدون أنفسهم خارج المكان وخارج الزمان، أي «خارج العالم» بتعبير إدوارد سعيد، وما يوفره ذلك من «امتياز الإخاء» في «منبوذيَّة العالم» بتعبير حنه آرنت، والتي يغدو فيها «كل غريب للغريب نسيبُ»، كما أجملَ شاعر عربي قديم. إنَّ الشرط الإنساني في الأسر، بما يتضمنه من قهر، «يصهر الإرادات ويوحدها»، فتتلاشى الفروق الدينية والقومية والسياسية والجنائية، وتشير بوصلة التناقض إلى إدارة السجن لردعها عن وحشيتها.
لا يفرط سعدات في النظرية، بل يجمع في ملحقَيّ «كشكول العزل» و«بلا عنوان» حكايات واقعية عن أربع فئات في أقسام العزل، تشمل: قادة مناضلين من ذوي الأحكام العالية، من مختلف أطياف الحركة الفلسطينية الأسيرة، سطَّروا ملاحم بطولية في نضالهم؛ وأسرى حالت دماثة سعدات ومسؤوليته الوطنية دون ذكر أسمائهم، ممن لم تفلح الحركة الوطنية الأسيرة في الأخذ بأيديهم لتجاوز اضطراباتهم النفسية والعقلية التي نشأت جرَّاء تجاربهم المريرة، فزجُّوا في العزل، كمصحَّة نقيضة، بقرار من إدارة السجن الصهيونية؛ وفلسطينيين لجأوا إلى الإدارة فراراً من إخوتهم في الحركة الفلسطينية الأسيرة «لأسباب أمنية»؛ وسجناء جنائيين أو سياسيين يهود، منهم من يعادي الفلسطينيين، ومنهم من يتعاطف مع قضيتهم العادلة، حدَّ أنَّ بعضهم واجهوا الإدارة ودفعوا ثمناً باهظاً جرَّاء مواقفهم التضامنية.
وأما، المحور التعبويٌّ، فتكوِّنه ثلاثة أقسام، هي: «دروس مستخلصة من تجربة العزل»، و«الخاتمة»، و«أخيراً»، ويشكِّل مرافعة وطنيَّة-إنسانية يذكِّرنا سعدات عبرها كفلسطينيين، وأنصارنا من مقاتلي الحرَّية في العالم، بواجبنا، وبما نسيناه من «حقائق» أحالتها ثقافة أوسلو إلى «أوهام»، أو عكس ذلك. يحذِّر سعدات من الأثر الكارثي لثقافة التفاوض والمطالب الفردية التي أرهقت الحقوق السياسية الجماعية للفلسطينيين سواء داخل الأسر أم خارجه، والتي سبق وحذَّر منها صاحب «الزمن الموازي» وليد دقَّة في كتابه «صهر الوعي»، حيث استخدمت سلطات الاحتلال الصهيوني السجن كمختبر لسياسات القمع التي يمكن سحبها على الفلسطينيين في السجن الأكبر في فلسطين التاريخية. ورغم ذلك، يسجِّل سعدات «دروساً مستخلصة من تجربة العزل»، تتقاطع تماماً مع البرنامج الوطني الموحَّد الذي دشَّنه سابقاً على المستويات الوطنية، والقومية، والأممية.
بعيداً عن سجن «رمون»، حيث أحمد سعدات ووليد دقة، وقريباً من فكرهما، أحيت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين قبل أيام، في رام الله، الذكرى الثالثة عشرة لاختطاف الأمين العام ورفاقه عاهد أبو غلمة وباسل الأسمر ومجدي الريماوي وحمدي قرعان؛ ومعهم، للمرَّة الأولى، عمداء أسرى الجبهة الشعبية من فلسطينيي العام 1948: وليد دقة ورشدي وإبراهيم أبو مخ في الذكرى الرابعة والثلاثين لأسرهم. وقبل عامين صاغ سعدات رسالة بليغة إلى المناضل الأممي-اللبناني-الفلسطيني جورج عبد الله الذي دخل عامه الخامس والثلاثين في السجون الفرنسية، بعد أن ارتدى عبد الله ثياباً تحمل صورة سعدات، كتب عليها: «الحرية لأحمد سعدات». عبَّر سعدات في رسالته عن وحدة الهدف والمصير للمناضلين ضد قوى الاستعمار والإمبريالية في كل مكان «من أجل عالم ديمقراطي وحر، خال من الاستغلال والاستبداد والتبعية، وتسود فيه قيم العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة».
إن في هذين الحدثين ما يتصادى مع خيارات سعدات، وإن ما وُصِفَ به من «تشدُّد ثوريٍّ»، لم يكن إلا وفاءً لفلسطينيَّته التي ترى في فلسطين التاريخية، وخارجها، ميداناً لمواجهة الحركة الصهيونية ودولة الاستعمار الاستيطاني إسرائيل. يورد سعدات في الصفحة الأخيرة من كتابه إشارة لافتة، بعنوان: «أخيراً»، تفصح عن واقعية ثورية لم تفقد بريقها ولا إمكانات تحقُّقها، فحواها نبوءة بـ«الدولة الفلسطينية الديمقراطية» التي نادى بها الميثاق الوطني الفلسطيني للعام 1968. يقول: «... إن واقع العزل الانفرادي أفرز علاقات نوعية تخطت أنماط العداء القومي، والفكري، والسياسي، وصهرت الكل نسبياً في إطار مجتمع متماسك في مواجهة القمع أساسها التضامن الإنساني في هذه المواجهة. صحيح أن هذه التجربة المؤقتة لا تصلح للتعميم، ولكن القمع والقهر يشكلان ظاهرة تقسم المجتمع الصهيوني، ويشملان كل الفئات والطبقات والطوائف الفقيرة، الأمر الذي يعني أن هذا الاستثناء يمكن أن يشكل قاعدة في يوم ما، وأساساً لبناء علاقات سلام حقيقي بين سكان فلسطين، أو تعايش في إطار دولة ديمقراطية يعيش فيها الجميع. ونبذ كل أشكال القهر والعنصرية والتمييز، وقناعتي، أن الأمر ممكن، كما هو ممكن عزل سكان فلسطين من اليهود عن الإيديولوجيا الصهيونية التي تحض على الكراهية وترويج العداء ضد العرب، وكل من يناضل ضد الصهيونية».
*عبد الرحيم الشيخ- شاعر وناقد فلسطيني ولد في القدس لعائلة لاجئة من الرملة. يعمل أستاذًا للفلسفة والدراسات الثقافيّة والعربيّة في جامعة بيرزيت. يركز عمله الفكري على سياسات الهوية والقومية وتفسير الروابط العلائقية للسياسات، يعمل في الترجمة وفي نقده الفني يركز على التعبيرات البصريّة للهويّة الفلسطينيّة.