لم تكن لدي المعرفة بمفهوم التوجيه والإرشاد في بداية حياتي المهنية والتي بدأتها في سلك التعليم إلا أنني اكتشفت بأنني مارسته فعلا عندما تواصلت معي إحدى طالباتي بعد عشرات السنين لتخبرني بأنها أصبحت معلمة بسبب تأثرها بأسلوبي وطريقتي المرحة بتوجيه الطالبات نحو بناء وصقل المعارف. تأثرت وهي في العاشرة من عمرها! استوقفني الحدث، وسررت كثيراً بما سمعت وبالرغم من أن مشاركتها هذه أتت بعد أن دخلت عالم التوجيه والإرشاد إلا أنه عزز لدي المفهوم أكثر وأصبحت أكثر معرفة وقناعة بقوته ووقعه على المرشد والمسترشد على حد سواء.
في بداياتي في عالم الأعمال وقفت مكان طالبتي لأستقبل التوجيه بكل ما أوتيت من قوة وقد مرّ علي العديد مما أعاطني أيضا العلم في كيفية اختيار من يرشدك، فهو، إن صح التشبيه، كالمنارة في وسط البحر لا تعطي تفاصيل الطريق ولكنك تسترشد بأضوائها إلى الوجهة التي تريد.
الإرشاد في عالم العمل والأعمال
ما استقيته عن الإرشاد أنه ذلك الحيز الآمن للنقاش، "للأخذ والعطاء"، لرؤية الأمر من عدة زوايا والمساعدة في استعراض درجات المخاطر وتبعاتها، والتبحر فيه بموضوعية بعيداً عن شعور الترابط العاطفي مع موضوع النقاش. من يقوم بدور إرشادي هو في الحقيقة من لا يستخدم عبارات مثل: لا أنت مخطئ تماما، إسمع ما أقوله لك، لا تفعل ذلك، ستندم. في حين تتيقن بأنك مع المرشد الصحيح عندما ينصت لك جيداً ويحاججك ويسألك ويسألك لتخبر أنت نفسك بما عليك فعله وبأنك مخطئ أو على صواب لتستكشف ما تريد أن تسمع، ولتعلم أنك ستندم أم لا.
المرشد هو من صقلت معارفه تجارب الحياة المهنية والاجتماعية وهو من أخطأ في قراراته وتعلم منها وبارتباطك بهكذا شخص توفر لنفسك فرصة اختصار وتجنب تلك الأخطاء أو المواقف وليس إملائها عليك. ومن هنا، تعلمت كثيراً كيف أنقل المعرفة وكيف أسهم في رفع أداء من يأتوني طالبي النصح والمشورة.
وبُعيد مشاركتي في برنامج عالمي مخصص للإرشاد المهني، وصلتني دعوة لنقل التجربة محليا ولتنظيم مسير الإرشاد الذي يجمع بين سيدات أعمال أو خبيرات وشابات في بداية حياتهن المهنية يجتمعن في مسير على الأقدام ليتجاذبن أطراف الحديث في إطار التوجيه وتقديم المشورة ليعقد في فلسطين إلى جانب دول عديدة حول العالم.
سعدت بها، ورأيت هذه الفرصة هي الآلية لأحمل مسؤولية طوعية تجاه الإرشاد ومن هنا عملت على تنظيمها سنويا إضافة إلى أنشطة إرشادية أخرى فردية وجماعية تسعى للتشبيك ما بين الساعي والعاطي! لكل من يسعى للمعرفة وكل من لديه الرغبة في مشاركة التجارب والخبرات. وحَظيت هذه الفعاليات بنجاح مختلف أثبت على عدة أصعدة بأن العمل غير مرتبط بالمادة وأن العطاء سخي عند تجريده من مسمى المشاريع وأن الاستفادة تتحقق فقط إن رُغب بها وأن المنفعة بالإمكان أن تكون متبادلة.
الاسترشاد! ما هذا؟
بالرغم من غرابة وقع الكلمة بالعربية إلا أنها ترافقنا منذ اليوم الأول لمجيئنا إلى الدنيا! نسترشد، ليس من خلال كل التعليمات لما نقول وما نفعل، بل في التوجيه لما علينا تعلمه والطرق التي نسلك! هذه التجارب التي تنحت ما لدينا من شخصية ومعارف تأتينا منذ الصغر عندما يبدأ الآباء بالتعامل معنا كأشخاص مسؤولين عن تطوير مهارات مثل المشي والنطق وخدمة الذات.
وغالباً من يبحث عن الاسترشاد هو من رفع بيده مستوى المعايير التي يسعى لتحقيقها، فهو من يبحث عن التطور وينجح بذلك وإن توجت علاقة الاسترشاد بتوقعات واضحة ومحددة للطرفين، تصبح النتائج مبهرة.
وها أنا أكتب مقالتي وأنا في خضم التحضير للمسير الثالث والذي تطور ليحمل هدف الاستدامة ودائماً ما يحتوي السير والتحدث والاستكشاف والارتباط بالأرض والطبيعة وها هو يتزامن مع الاحتفاء بيوم الأرض ليعزز ارتباطنا بأرضنا ممشى العظماء.
تجارب الإنسان عديدة وتمتد على مراحل العمر المختلفة وكل تجربة هي كضربة الإزميل في عملية نحت المعرفة ولكن يأتي الإرشاد عند اتخاذ صاحبه القرار في نقل هذه المعارف لآخرين دون إسقاطها فالمرشد يصنع فكر جديد ولا يصنع تابع مستنسخ.
نسرين مصلح، مؤسس ومدير عام شركة رتاج للحلول الإدارية في رام الله، وعضو مجلس إدارة جمعية المدربين الفلسطينيين،